المحتوى الرئيسى

تحول هادئ ولامرئي في تونس

06/26 02:08

يكثر الحديث هذه الأيام، عن دور النخب التونسية و«المثقّفين العضويين» فى إحداث التغيير المنشود إذ أنّ بإمكان هؤلاء أو هكذا نتوقّع منهم، أن يمارسوا الضغط وأن ينتقدوا الأوضاع، وأن يتخذوا مواقف جريئة وأن ينتظموا وفق تشكلات جديدة وأن ينتجوا خطابات مبتكرة تتلاءم مع السياق الذى تمرّ به البلاد، وكذلك مع السياق العالمى بعد حرب إبادة الشعب الفلسطينى.

وهذا الحديث الذى يتّخذُ النخب التونسية موضوعا للدردشة الفيسبوكية و«المحاكمة» أو التحليل يتراوح بين نقد صريح لغياب المثقفين والمثقفات وصمتهم وانتقاد شديد لارتهان فئة منهم للمركزية الغربية الذى بلغ حدّ انتظار الآخر حتى يُحدث التغيير بالنيابة، وبين شتم الجميع «على بكرة أبيهم» ولعنهم وسحلهم فيسبوكيًا.

يعكس الموقف من النخب تصوّرا تقليديا يتبناه أغلب الناس الذين مازالوا متعلقين بفكرة التغيير من فوق، أى الدور المنوط بعهدة «المخلّصين» والقيادات الثورية المنتمية إلى طبقة امتلكت امتيازات وتموقعت من خلال سلطة المعرفة أو امتياز الطبقة. وبما أنّ المسار قد أثبت أنّ التعويل على القيادات السياسية فى النهوض بدور فعّال لم يعد فى الغالب، ممكنا وأنّ الثقة فى بروز تشكلات حزبية أو عمالية قد انعدمت فإنّ الحلّ يكمن، حسب هؤلاء، فى استعادة المثقّف/ المثقفة فاعليته وتحمّله المسئولية التاريخية.

غير أنّ الذين يوكلون إلى النخب مهمّة تحقيق التغيير الاجتماعى بالنيابة عن الجميع، يعبّرون عن غير قصد، عن خلط بين الجامعى والمثقف وعن تمثلاتهم لدور المثقف/المثقفة الذى لابدّ أن يتحوّل، فى نظرهم، إلى فاعل سياسى يُخطط وينجز.. فالمطلوب منه أن لا يحلّل ولا يفتح النقاش ولا يعرض الأسئلة المهمّة ولا يُنظّر.. بل يمتلك القوّة على مواجهة سياسات الدولة والقدرة على الفعل فى الواقع.

ويتناسى هؤلاء أنّ التعويل على النخب يقيم الدليل على الاستمرار فى تهميش دور الأطراف الفاعلة «العادية» التى تعبّر عن عدم رضاها عن سياسات الدولة من خلال أفعال يومية وتقاوم بنى الاضطهاد واللا عدالة والتمييز من خلال أفعال بسيطة تبدو لا مرئية. فربّات البيوت مثلًا ما عدن يجدن حرجًا فى التعبير عن غضبهن من النتائج المترتبة عن غلاء المعيشة، وبتن يتعاملن مع «الكاميرا» بأريحية فيسردن تفاصيل حياتهن اليومية وهن يبحثن عن حلول عملية ولا ينتظرن خدمات من الدولة. إنّ سرديات النساء الباحثات عن الماء أو المواد الأساسية أو المتكبدات لآثار التغيرات المناخية تثبت أنّ علاقتهن بالدولة متوترة فهنّ لا يعتصمن أمام 'مقرات السلطة' بل يقاومن فرديا أو ضمن المجموعات التى تشبههن وتتقاسم معهن الهموم والمشاعر والطموحات.. إنّهن يبتكرن أشكالا من النضال والتضامن تسترعى الانتباه. ولا نعدم أمثلة أخرى عن نساء ورجال يقاومون بوسائلهم البسيطة فى قطاعات أخرى كالفلاحة والمصانع.

إنّها أشكال حضور فى الفضاء العامّ وأفعال مقاومة «مدنيّة» وسلمية وهادئة تتحدى الأطر التقليدية لفهم الفاعلية وتحليلها. كما أنّها تربك المقاربات المألوفة التى تركّز على النخب وتهمّش بقية الفاعلين/الفاعلات لأنّ هؤلاء لا يمتلكون بلاغة التعبير عن تصوراتهم ولا أناقة الحضور فى المنابر الإعلامية وفنادق الـ5 نجوم. إنّ هذه التحولات الاجتماعية مهمّة فى تقديرنا، لأنّها تشير إلى أنّ اللا حركات الاجتماعية' التى تمارس «سياسة الشارع» (على حدّ عبارة المفكّر الإيرانى آصيف بيات) وفنّ الحضور فى الأحياء والأسواق وغيرها من الأفضية، هى بصدد العمل على تغيير الواقع بنسق هادئ وهى تتجاور مع الحركات الاجتماعية التقليدية وتستفزّ من يدافعون عن التوجهات الليبرالية ويؤمنون بأنّ التغيير لا يتمّ إلاّ من فوق وعلى يد النخب أو بفضل «التدخل الأجنبى».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل