Desktop
Poster Image

بعيدًا عن الأنظار، وفى جنح الليل، وفى ظل بيئة شديدة التعقيد من الغابات والأشجار الضخمة، ودرجات الحرارة العالية، والرطوبة المرتفعة، والحيوانات المفترسة، تعمل وحدات أمريكية (السرب 736)، فى «جزيرة غوام» فى قلب المحيط الهادئ؛ من أجل «محاكاة عملية» لحرب ضد الصين. ومع أن الولايات المتحدة لديها قواعد عسكرية فى بيئة مشابهة لجزيرة غوام، مثل القواعد الأمريكية فى الفلبين، وفيتنام، وأستراليا، واليابان، فإن القيادة العسكرية الأمريكية ترى فى جزيرة غوام مسرحًا عسكريًّا “مثاليًّا” لمدى التحديات التى يمكن أن يواجهها الجنود الأمريكيون الذين ينتشرون قرب المياه والبر الصينى، حيث يتدرب هؤلاء الجنود على أشد الظروف تعقيدًا، وأكثرها صعوبة، ويعتمد التدريب على ما يسمى «بحرب الغابات»، القائمة على كيفية البقاء على قيد الحياة والهروب من أى مطاردة من «العدو»، والابتكار فى تقديم خدمات عسكرية.
مصطفى شلش يكتب: اليهود العرب.. بناء الحداثة بين الهند والصين
إشكالية الطاقة الفائضة: لماذا تثير الصناعات النظيفة التوتر بين الصين والولايات المتحدة؟
فيكتور غاو يكتب: السياسة الهندية ما بين الجنوب العالمى والشكوك غير المبررة تجاه الصين
ويتدرب «السرب 736»، الذى ينتمى إلى القوات الجوية، على سيناريوهات للمساعدة فى «حرب شاملة»، تشمل السفن، والمدمرات البحرية، وحاملات الطائرات، خاصة التى ترسو فى «غوام»، وتكون ضمن الرحلات التى يطلق عليها «حرية الملاحة» التى تمر فى بحر الصين الجنوبى، وبحر الصين الشرقى، وهدف هذه المجموعات هو محاكاة العمل كوحدة مراقبة مشتركة، أو وحدة استهداف متعددة المجالات، وتستطيع تلك المجموعات القتالية الخاصة بعد الانتهاء من هذا التدريب المساعدة على تشغيل الطائرات المسيرة وتوجيهها، ودعم عمل زملائهم فى الاستخبارات، والمراقبة، والاستطلاع.
هذا كله يكشف «الدور المحورى» الذى يمكن أن تضطلع به جزيرة غوام، التى حصلت عليها الولايات المتحدة بعد هزيمة إسبانيا فى الحرب الأمريكية الإسبانية عام 1898، وباتت الجزيرة تشكل اليوم «رأس الحربة» و«حائط الصد الأول»، ليس فقط للدفاع عن الأراضى والجزر الأمريكية فى المحيط الهادئ؛ بل تستقى «غوام» مكانتها «الجيوسياسية المهمة» من الدور الذى يمكن أن تضطلع به الجزيرة فى الدفاع عن حلفاء واشنطن فى منطقة «الإندو- باسيفيك» بالكامل، حيث تكشف المحاكاة الجديدة التى بدأت فى شهر أغسطس (آب) الجارى مدى «الاعتمادية» لشركاء الولايات المتحدة فى شرق آسيا وجنوب شرقها، وغرب المحيط الهادئ، على دور القوات الأمريكية فى جزيرة غوام، وهى آخر «بقعة أمريكية يابسة» غرب الأراضى الأمريكية. كما يتفاءل القادة العسكريون الأمريكيون بجزيرة غوام التى احتلها اليابانيون بعد قصف طوكيو ميناء بيرل هاربر عام 1941، حيث سيطر اليابانيون على الجزيرة فى 8 ديسمبر (كانون الأول) 1941، لكن القوات الأمريكية لم تكتفِ بتحريريها عام 1944؛ بل حولتها إلى قاعدة لتنسيق الأهداف والضربات ضد القوات اليابانية، حتى استسلمت اليابان عام 1945، فما جزيرة غوام؟ وما الإستراتيجية الأمريكية للدفاع عن الجزيرة؟ وكيف حولت واشنطن الجزيرة إلى «قلعة عسكرية» عبر سلسلة من القواعد البحرية والجوية التى تستضيف أحدث النماذج من الأسلحة والمعدات الأمريكية؟
عند الحديث عن أى حرب مستقبلية بين الصين والولايات المتحدة، لا بد من الحديث عن جزيرة غوام، التى لها «مكان ومكانة خاصة» فى العقل الاستراتيجى الأمريكى، سواء فى الهجوم أو الدفاع، وتنظر «المدرسة الحديثة فى الفكر العسكرى الأمريكى» إلى جزيرة غوام باعتبارها تتمتع «بمكانة فريدة» أكثر من كل القواعد الأمريكية فى شرق آسيا وجنوب شرقها، وغرب المحيط الهادئ، وتقوم هذه المكانة الاستراتيجية الخاصة لجزيرة غوام على عدد من الاعتبارات، منها:
تكمن «القيمة الاستراتيجية المضافة» لقاعدة غوام فى أنها توفر نحو 541 كم، هى مساحة الجزيرة فى وسط المحيط الهادئ، للجيش والأسطول العسكرى الأمريكى لتنطلق منه «القاذفات الاستراتيجية»، وخاصة قاذفات «بى 52»، التى تستطيع التحليق أكثر من 6000 ميل، دون التزود بالوقود، وهو ما يعنى أنها تستطيع أن تصل إلى الأراضى الصينية حال انطلاقها من جزيرة «غوام»، وتحتاج إلى هذه القاذفات من أجل التحليق 1500 ميل فقط من جزيرة غوام لنجدة تايوان فى حال اندلاع حرب بين الصين وتايوان، وإذا تطورت الحرب واحتاجت واشنطن إلى قصف الأراضى الصينية نفسها، فجزيرة غوام هى المنصة المناسبة لإطلاق الصواريخ والقاذفات الاستراتيجية، حيث يبعد البر الصينى 1800 ميل فقط عن الجزيرة، وهو ما يسمح لواشنطن باستخدام القاذفات الإستراتيجية، وكذلك الطائرات من الجيل الخامس المتعددة المهام، مثل الطائرة «إف 35»، التى تستطيع الوصول إلى تايوان بعد التزود بالوقود مرة واحدة بعد الانطلاق من غوام.
لا تقل المكانة الاستراتيجية لجزيرة غوام فى «الدفاع» عن أهميتها فى الهجوم على الصين، أو حتى كوريا الشمالية، خاصة فى ظل التطور الرهيب للصواريخ الصينية العابرة للقارات، وصواريخ «فرط الصوت» التى تستطيع أن تطلقها بيكين على جزيرة غوام، وكل شبر من الأراضى الأمريكية؛ لهذا نشرت واشنطن جميع أنظمة الدفاع الجوى البعيدة والمتوسطة المدى فى الجزيرة لاعتراض أى صواريخ تطلقها الصين، سواء من البر الصينى، أو من الغواصات الصينية التى باتت تتمتع بهدوء الصوت والصمت، وهو تحدٍّ جديد وخطير للجيش والبحرية الأمريكية فى المحيط الهادئ بعد امتلاك البحرية الصينية ثلاث حاملات طائرات، هى: لياولينج التى دخلت الخدمة عام 2012، وشاندونج التى بدأت العمل منذ 2017، وأخيرًا فوجيان التى يقال إنها تشبه حاملة الطائرات دوايت أيزنهاور، وبدأت رحلتها الأولى منذ الأول من مايو (أيار) هذا العام؛ ولهذا نشرت الولايات المتحدة الأمريكية منظومة الدفاع الجوى البعيدة المدى «ثاد» فى الجزيرة التى تستضيف أيضًا عددًا كبيرًا من منظومة دفاع «باتريوت» المتوسطة المدى.
لا يسكن جزيرة غوام سوى 181 ألف شخص، لكنها تستضيف فى الوقت نفسه قواعد عسكرية جوية وبحرية عملاقة، منها «قاعدة إبرا البحرية»، وهى قاعدة عملاقة بحق؛ إذ تستضيف كل القطع البحرية الأمريكية التى فى طريقها من الساحل الغربى الأمريكى فى اتجاه «غرب المحيط الهادئ»، وتزود جزيرة غوام وقاعدة «إبرا البحرية» كل حاملات الطائرات الأمريكية التى تتجه من شرق المحيط الهادئ فى اتجاه الغرب، سواء فى اتجاه كوريا الشمالية واليابان، أو تلك التى تتجه ناحية أستراليا والفلبين وفيتنام، وهنا يأتى دور الجزيرة فى دعم نحو 50 ألف جندى أمريكى فى اليابان، و30 ألف جندى أمريكى فى كوريا الجنوبية، والقوات الأمريكية التى تنتشر فى 9 قواعد عسكرية فى الفلبين، فضلًا عن الجنود الأمريكيين الذين ينتشرون فى أستراليا.
وتستضيف أيضًا جزيرة غوام قاعدة “أندرسون الجوية الشاسعة”، التى تصل مساحتها إلى نحو 19 ألف فدان، وتضم أفضل ما وصلت إليه الولايات المتحدة فى المجال الجوى العسكرى، حيث تستضيف القاعدة “قاذفات بى 52، وطائرات “إف 15 و16 و22 و35، وهو ما يجعلها من أكبر القواعد العسكرية الأمريكية؛ لأنها تستضيف نحو 200 طائرة عسكرية، وتضم أيضًا ميناء به 4 غواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية، وسفينتان لدعم الغواصات وتزويدها بالإمدادات.
فى السابق، كانت الولايات المتحدة لا تخشى على جزيرة غوام من المنافسين الآسيويين، لكن بعد تطور الصواريخ الصينية والكورية الشمالية، باتت واشنطن قلقة على الجزيرة التى تبعد نحو 3450 كم عن كوريا الشمالية من الصواريخ والقاذفات الصينية. ويعتقد القادة العسكريون أن جزيرة غوام لا تقل أهمية عن ساحل ولاية كاليفورنيا، فسكانها أمريكيون، لكن لا يحق لهم التصويت فى الانتخابات، كما أن «نائب غوام» فى مجلس النواب لا يحق له التصويت على القرارات، لكن فى ظل التطورات الجديدة، وقدرة الصواريخ الصينية ذات الرؤوس التقليدية والنووية على الوصول إلى كل شبر من الأراضى الأمريكية، باتت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة هى «الدفاع عن غوام»، باعتباره الخطوة الأهم فى الدفاع عن البر الأمريكى؛ لأن سقوط غوام- كما هدد الزعيم الكورى الشمالى عام 2017- من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة تتراجع للدفاع عن سيادتها من داخل الأراضى الأمريكية نفسها.
تنظر الولايات المتحدة إلى جزيرة غوام على أنها نموذج «للدفاع الشامل»؛ لأن بها قواعد وقوات وأسلحة لجميع فروع الجيش الأمريكى؛ ولهذا يعتقد كثير من مخططى الاستراتيجية الأمريكية أن جزيرة غوام هى «العقل الجيوسياسى»، و«محور الربط» الذى يمكن أن ينقل كل أشكال الدعم اللوجستى من أرض الوطن إلى الجنود الأمريكيين فى ساحة الحرب فى شرق آسيا وجنوب شرقها؛ ولهذا تحولت غوام إلى قاعدة عسكرية ليس فقط لتدريب 7000 من القوات الموجودة على أرضيها؛ بل يُنقَل آلاف الجنود للتدريب على الجزيرة، وبعد ذلك يُنقَلون إلى القواعد العسكرية الأمريكية فى اليابان، وأستراليا، والفلبين.
سادسًا: محور عمل التحالفات الجديدة
زادت الأهمية العسكرية والجيوسياسية لجزيرة غوام بعد تأسيس التحالفات العسكرية الأمريكية مع حلفائها الآسيويين وتفعيلها، ومن هذه التحالفات «تحالف أوكوس» الذى يضم مع الولايات المتحدة كلًا من أستراليا والمملكة المتحدة، ومنذ تشكيل هذا التحالف فى 15 سبتمبر (أيلول) عام 2021، أصبحت جزيرة غوام محور العمل بين هذه القوى الثلاث فى المحيط الهادئ، ثم تفعيل «تحالف كواد الرباعى»، الذى يضم الهند واليابان مع الولايات المتحدة وأستراليا، وتصاعدت القيمة الاستطلاعية والاستخباراتية لجزيرة غوام مع تفعيل مسارات العمل فى تحالف «العيون الخمس» الاستخباراتى، الذى يضم الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، وبريطانيا، ونيوزيلندا، حيث تقدم التكنولوجيا المتقدمة جدًّا صورًا جوية وبحرية لتحركات السفن وحاملات الطائرات الصينية فى غرب المحيط الهادئ.
المؤكد أن كل هذه القيم الاستراتيجية لجزيرة غوام سوف تعزّز دورها ومكانتها فى الفترة المقبلة فى ظل «عدم اليقين» فى العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين من جانب، وروسيا والصين وكوريا الشمالية من جانب آخر، فالحشد العسكرى الأمريكى بالقرب من الأراضى الصينية، وتجهيز جزيرة غوام بكل هذه الأسلحة الفتاكة، يقولان- بوضوح- إن الولايات المتحدة تراهن فى حل الصراعات فى آسيا على «القوة العسكرية»، وربما هذا ما يراه البعض فى نشر مزيد من القواعد العسكرية الأمريكية فى المحيط الهادئ، وتحويل جزيرة غوام إلى «منصة» رئيسة للقيادة المتقدمة التى تبعد عن البر الأمريكى نحو 3000 كم.
* باحث وخبير فى العلاقات الدولية
ينشر بالتعاون مع مركز الدراسات العربية الأوراسية

Time Icon

منذ 3 ساعة

Comma Icon
مصر
Facebook فيس بوك