Desktop
Poster Image

الطبقة الوسطى فى الهند متنوعة، وغير متجانسة، وتُصنف حسب المهن، والتعليم، ومستويات الدخل المختلفة، وشهدت توسعًا كبيرًا منذ العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، وهى تمثل الآن سوقًا استهلاكية للشركات المحلية والعالمية، لكنها تواجه أيضًا تحديات، مثل زيادة البطالة، والاضطرابات الاجتماعية المحتملة. ويتعين على الحكومة الهندية أن تضمن استمرار النمو الاقتصادى، وخلق فرص العمل فى البلاد لمنع تقلص حجم الطبقة الوسطى، أو نشوء أزمة اجتماعية.
مصطفى شلش يكتب: اليهود العرب.. بناء الحداثة بين الهند والصين
مصطفى شلش: اليهود العراقيون وصناعة الجالية اليهودية فى الهند
مصطفى شلش يكتب: صراع الجزر بين الهند والصين
نشأت الطبقة الوسطى فى الهند- لأول مرة- فى أوائل القرن التاسع عشر، عندما أدت السياسات البريطانية إلى ظهور مجموعة صغيرة من النخبة الهندية المتعلمة الناطقة باللغة الإنجليزية من الطبقة العليا، لكن الإمكانات الاقتصادية للطبقة الوسطى الهندية لم تصبح ظاهرة رئيسة إلا فى القرن الحادى والعشرين؛ عندما بدأت تجتذب الانتباه لإمكاناتها فى دفع الاستهلاك العالمى. فالطبقة الوسطى المعاصرة فى الهند أكثر تعددًا وتنوعًا من غيرها، حيث أدى النمو الاقتصادى منذ العقد الأول من القرن الحادى والعشرين إلى تشكيل طبقات متوسطة متعددة (طبقة متوسطة «قديمة» أو راسخة، وطبقة متوسطة «جديدة» ناشئة).
لا يوجد إجماع بشأن الحجم الفعلى للطبقة الوسطى فى الهند. وباستخدام تصنيف أولئك الذين ينفقون ما بين (2) إلى (10) دولارات أمريكية للفرد الواحد يوميًّا، فإن أكثر من (600) مليون شخص (نصف سكان الهند) كانوا فى الطبقة الوسطى عام 2012، ارتفاعًا من أقل من (300) مليون، أو (27) فى المائة من السكان عام 2000. ويتألف ما يقرب من (75) فى المائة من الطبقة الوسطى من الطبقة الوسطى الدنيا من أولئك الذين ينفقون (2) إلى (4) دولارات أمريكية للفرد الواحد يوميًا، وهو رقم أعلى قليلًا فقط من خط الفقر العالمى. وإذا استخدمنا شريحة دخل أعلى- حيث يعد الشخص من الطبقة الوسطى إذا كان دخله اليومى يتراوح بين (17) و(100) دولار أمريكى تقريبًا- فيمكن إدراج (432) مليون هندى فى الطبقة الوسطى بدءًا من عام 2021، وهو ما يشكل (31٪) من السكان، ارتفاعًا من (14٪) عام 2005.
إن التباين الواسع فى الدخول بين أفراد الطبقة الوسطى فى الهند يؤدى إلى تنوع كبير فى أنماط الإنفاق، فالطبقات الدنيا من الطبقة الوسطى تنفق جزءًا كبيرًا من دخلها على الرعاية الصحية والتعليم الخاصين، والسلع الاستهلاكية غير الأساسية والأصول، مثل الدراجات النارية، والأجهزة المنزلية الأساسية. كما تنفق الطبقات العليا نسبة كبيرة من دخلها على الرعاية الصحية والتعليم الخاصين، وأيضًا على السلع الفاخرة، والترفيه، والعقارات، والخدمات الشخصية. ومن المرجح أن تمتلك الطبقة الوسطى العليا أصولًا مثل السيارات، وأجهزة الكمبيوتر، ومكيفات الهواء، والغسالات. وعلى الرغم من تباين مستويات الدخل داخل الطبقة الوسطى، فإن الطبقتين الفرعيتين تشكلان أسواقًا استهلاكية كبيرة وواعدة، وهذا يجعلهما المحركين للاستهلاك والنمو الاقتصادى فى الهند.
إن تحرير الاقتصاد الهندى وخصخصته وعولمته فى أوائل تسعينيات القرن العشرين، لم يفتح السوق الهندية أمام الشركات المتعددة الجنسيات فحسب؛ بل أدى أيضًا إلى تقديم وظائف جديدة عالية الأجر للطبقة الوسطى القديمة، وأدى هذا إلى تغيير البنية المهنية للطبقة الوسطى؛ فقد اجتذبت الوظائف الجديدة فى قطاعات مثل التمويل، وتكنولوجيا المعلومات، كثيرًا من أفراد الطبقة الوسطى القديمة، وشهدت ابتعادًا عن الوظائف الحكومية التقليدية، وساعدت سياسات العمل الإيجابى الطبقات الدنيا والفقراء على اغتنام الفرص فى الحكومة التى أخلتها الطبقة الوسطى القديمة. كما وجد العمال غير المهرة فرصًا فى الدرجات الطرفية والدنيا من القطاع الخاص الجديد، مثل بائعى المواد الغذائية، وحراس الأمن، والموظفين المحليين، وعمال البناء.
لقد أدت السياسات والتشريعات، مثل قانون ضمان التوظيف الوطنى فى المناطق الريفية، الذى وضعه المهاتما غاندى، إلى تعزيز الدخول الريفية، وهو ما مكّن الريف الهندى من الانضمام إلى الطبقة الوسطى أيضًا. ووفقًا لبعض التعريفات، أصبحت الطبقة الوسطى الريفية الآن أكبر من نظيرتها الحضرية. إن نمو الطبقة الوسطى فى الهند مرادف لتغير المواقف السياسية، فخلال نضال الهند من أجل الاستقلال، كانت الطبقة الوسطى الناطقة بالإنجليزية منخرطة بنشاط فى السياسة، وكانت حاسمة فى التواصل مع البريطانيين. وفى الخمسينيات وأوائل الستينيات، كانت الطبقة الوسطى فى الهند مرتبطة- بقوة- بالسياسة الهندية فى عهد رئيس الوزراء جواهر لال نهرو، ولكن مع ظهور فشل الاشتراكية فى عهد نهرو، فقدت الطبقة الوسطى اهتمامها بالسياسة. وفيما يتعلق بالسياسيين، كانت الطبقة الوسطى مصدرًا غير مهم للأصوات بسبب صغر حجمها.
وبعد أن بدأت الهند بتحرير اقتصادها، انتقلت الطبقة الوسطى إلى فرص العمل ذات الأجور الأفضل التى أتاحتها العولمة والخصخصة. ومنذ العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، ومع توسع حجم الطبقة الوسطى، أصبحت أيضًا أشبه ببنك أصوات مهم. إن التنوع الاقتصادى والاجتماعى بين الطبقة الوسطى يجذب أجندات سياسية مختلفة. تركز الطبقة الوسطى الطموحة أو «الجديدة» على الفرص الاقتصادية الشخصية، فى حين تطالب الطبقة الوسطى القديمة بهواء أنظف، وبنية تحتية أفضل.
ومع أن الطبقتين الوسطى «القديمة» و«الجديدة» تستخدمان قنوات مختلفة للتعبير السياسى، فإنهما مرتبطتان بالدعوة المشتركة إلى تنمية الهند. ولقد أدى النمو الاقتصادى فى الهند إلى خلق طبقة متوسطة أكبر وأكثر شمولًا اجتماعيًّا وانخراطًا سياسيًّا. ويرجع جزء كبير من نمو الطبقة الوسطى فى الهند إلى الطبقات الدنيا التى تتسلق السلم الاقتصادى. ونظرًا إلى الطبيعة غير المستقرة لبعض وظائفهم، فإن هذه المجموعة معرضة للوقوع فى براثن الفقر مرة أخرى إذا تعثر النمو الاقتصادى.
فى عام 2021، وجد مركز بيو للأبحاث أن الطبقة الوسطى الهندية انكمشت خلال جائحة (كوفيد- 19). كما أظهر مسح الإنفاق الاستهلاكى للأسر الهندية لعامى 2022 و2023، أنه فى حين زاد الإنفاق الاستهلاكى الاسمى للأسر الريفية بمعدل سنوى بلغ (1.62) فى المئة بين عامى 2004- 2005 و2011- 2012، فقد زاد بنسبة (1.02) فى المئة فقط بين عامى 2011- 2012 و2022- 2023. أما المناطق الحضرية، فكانت معدلات النمو المقابلة (1.85) فى المائة، و(1.12) فى المائة فى الفترة نفسها.
حتى مع تعافى الاقتصاد الهندى، من الضرورى التركيز على توفير فرص عمل كافية ومتاحة للفقراء الهنود لتسلق السلم الاقتصادى. وهناك أدلة على زيادة البطالة والنمو غير الوظيفى فى الهند، على الرغم من ارتفاع مستويات التعليم، وهذا من شأنه أن يهدد بالاضطرابات الاجتماعية. إن التحريض الأخير من جانب مجتمع المراثا، وهى مجموعة من الطبقة العليا فى غرب الهند، للمطالبة بسياسات عمل تمييزية لصالحها، هو مثال على النتائج المحتملة للبطالة والاقتصاد الراكد؛ لذا فإن الطبقة الوسطى الضخمة المتنوعة والمتنامية فى الهند تشكّل عنصرًا واعدًا فى السوق المحلية، ولكن هناك خطر حدوث أزمة اجتماعية خطيرة فى الطبقة الوسطى إذا تعثر النمو، وفشل فى خلق فرص عمل كافية. إن تلبية تطلعات الطبقة الوسطى «الجديدة» فى الهند، وضمان عدم تخلفها عن الركب، يشكلان أولوية للحكومة فى إدارة النسيج الاجتماعى والاقتصادى الجديد فى البلاد.
* باحث فى العلاقات الدولية
ينشر بالتعاون مع مركز الدراسات العربية الأوراسية

Time Icon

منذ 3 ساعة

Comma Icon
مصر
Facebook فيس بوك