قبة الهوا.. ولوحة المجاعة!

قبة الهوا.. ولوحة المجاعة!

منذ 8 أيام

قبة الهوا.. ولوحة المجاعة!

قبل عقد من الزمن، وخلال زيارة إلى بعض مدن ألمانيا، لا سيما فرانكفورت وبرلين، استوقفنى كتاب من بين الأكثر مبيعا، يحمل عنوان One thousand Places to see before you die (ألف مكان عليك رؤيتها قبل أن تموت) وهو واحد من كتب السفر والسياحة فى العالم.\nوأستطيع أن أقول إننا فى مصر نحتاج إلى كتاب بهذا العنوان عن الأماكن الرائعة فى مصر التى يجب أن يراها الإنسان قبل موته، والتى تزيد على ألف مكان.\nوسأختار فى مقال اليوم مكانين فى أسوان: الأول اسمه «لوحة المجاعة» والثانى اسمه «قبة الهوا».\n• لوحة المجاعة\nفى مجرى النيل فى أسوان هناك جزيرة صخرية من الجرانيت تعرف باسم «جزيرة سهيل» لا تستمد أهميتها من طبيعة بيئتها فحسب، بل هى تضم فوق ذلك أكثر من 200 نقش بالهيروغليفية لأحداث مهمة فى التاريخ المصرى. ولعل أهم نقش فيها ذلك المعروف لدى علماء الآثار باسم «لوحة المجاعة».\nوبعد أن تفقدتُ النقوش العديدة على صخور الجزيرة، صعدت على القمة الخفيضة وأخذت الصورة المرفقة للنقش الفريد النادر المعروف باسم «لوحة المجاعة».\n\nوضعت على الصخرة الكتاب الإرشادى الذى كتبه عدد من العلماء الأجانب عن هذه اللوحة، ومن هذا الكتاب أخذت السطور التالية:\nيذهب علماء الآثار إلى أن النقش الموجود على هذه اللوحة يؤرخ للعصر البطلمى (ربما فى عهد بطلميوس الخامس 205-180 ق. م).\nوعلى الرغم من أن النقوش تمت قبل 2200 سنة فإن الأحداث التى تحكيها اللوحة تعود إلى آلاف السنين الماضية السابقة على زمن اللوحة.\nفهى تحكى عن واقعة مجاعة أصابت مصر فى عصر الملك زوسر من الأسرة الثالثة (2686 ق. م – 2649 ق. م).\nوهذا أمر بالغ الأهمية فى الموضوع، فالفارق الزمنى بين تاريخ الأحداث التى ترويها اللوحة وتاريخ نقشها يبلغ نحو 2450 سنة!\nإذا نظرت للصورة المرفقة ستجد الجزء العلوى من اللوحة يضم أربع شخصيات هى من اليسار إلى اليمين: الملك زوسر واقفا يمد يديه بالقرابين إلى ثلاثة من الآلهة المصرية الكبرى: خنوم (المعبود الخالق)، ساتت (معبودة الحرب وحارسة الحدود فى النوبة) وعنقت (معبودة فيضان نهر النيل).\nالجزء الأدنى من اللوحة يتألف من 32 عمودا للكتابة تؤرخ للعام 18 من حكم الملك زوسر (ومقر حكمه فى الشمال فى العاصمة «منف» عند التقاء الوادى بالدلتا).\nيقول النقش إنه فى ذلك العام انتاب الملك شعور بالقلق مع تزايد الجفاف والقحط بالبلاد المصرية بسبب ضعف مياه النيل لسبع سنوات عجاف فأصاب الناس خوف وهلع وخرجوا عن كل قانون ونظام وهاجوا فى شغب وقتل وسلب ونهب وفوضى عارمة.\nوبالاستعانة بالمستشار والمهندس الشهير فى ذلك الوقت «إيمحوتب» عرف الملك زوسر أن الفيضان رهين بإله الخلق «خنوم» فى إليفنتين (أسوان) التى ينبع منها النيل من ينبوع مقدس.(لم يكن الاعتقاد وقتها بأن النيل يأتى من منابع الحبشة أو هضبة البحيرات الاستوائية.\nسافر إيمحوتب إلى ينبوع النهر فى إليفنتين (شلال أسوان) وخلال صلاته أخذته سنة من نوم فرأى فى منامه خنوم يعده بإعادة الفيضان من جديد.\nرجع إيمحوتب من أسوان إلى منف وقص على زوسر الرؤيا فسعد زوسر بالأمر وأمر بالاهتمام بعبادة خنوم وبث الحياة فى معبده وتقديم العطايا له، فضلا عن منح ثروات لكهنة معبد خنوم فى إليفنتين وأن يشارك المعبد فى الأرباح التى يجنيها إقليم النوبة من التجارة.\nوعلى الرغم من الأهمية الأثرية والعلمية والتاريخية للوحة وما تضمه من نقش، يذهب البعض إلى أن الفارق الزمنى الكبير بين قصة النقش وتاريخ كتابته ربما يشير إلى محاولة من كهنة إليفنتين تخويف الحكام البطالمة وابتزازهم بضرورة الاهتمام بمعبدهم وعبادة خنوم وإلا وقع بهم الجفاف والقحط كما حدث قبل آلاف السنين.\n• أبو الهوا\nأخذت الصورة المرفقة من أسوان، من الضفة الشرقية للنهر، ناظرا تجاه الغرب نحو «أبو الهوا».
أسوان هى جبل أبو الهوا، وجبل أبو الهوا هو أسوان.\n\nيعتلى «أبو الهوا» البر الغربى للنيل: منحدر شديد من الصخور الرملية المنقور فيه مقابر قديمة من عهد الإنسان الأول وزمن قدماء المصريين.
وفوق كل ذلك قلاع عسكرية استراتيجية توارثتها الحضارات وكان أحدثها تلك التى تعود لألف سنة منذ العصر الفاطمى.
\nقبل ثلاث سنوات كنت أظن أن هذا هو المكان الوحيد الذى يسمى «أبو الهوا» حتى زرت الشهر الماضى أماكن أخرى جنوب الشلال القديم وعرفت أنهم يطلقون «أبو الهوا» على كل قبة أو مقام أو ضريح أو حصن معلق هناك أعلى الجبل.
\nليس عندى دليل: من سبق الآخر؟ هل جاء الزهاد وسكنوا الأماكن العالية بعد نزول الحراس وانتهاء عصر المراقبة أم اهتدى الحراس بمواقع الزهاد وصعدوا إلى حيث يقتربون من السماء فيرون الأرض كما يراها «الرب» ويراقبون الناس كما تراقبهم «السماء»؟
كلما وقفت هنا لأقرأ مشهد «أبو الهوا» أتذكر الهند.
فى الهند تاريخ مشوق عن صوفية المسلمين.
\nأحد رواد البحث التاريخى فى الصوفية باحث هندوسى رفيع المستوى يتتبع العلاقة بين الجغرافيا والدين أسمه يوجيندر سيكند Sikand. Y.. قرأت أعماله النظرية أولا، لم نتقابل خلال زيارتى للهند فى 2005 لكننا التقينا حين جاء هو لزيارة القاهرة فى 2008.
\nقدم سيكند فى عام 2004 دراسة رائدة عن طريقة صوفية شهيرة فى كشمير، ذلك القطاع الحدودى المتنازع عليه بين الهند وباكستان.
\nعثر سيكند على طريقة صوفية إسلامية فريدة ذات تاريخ طويل تسمى الطريقة «الريشية».
جاءت «الريشية» إلى كشمير وباكستان من أصل فارسى ولها عدة معان، فهى تعنى «جريح» ويقصد بها حالة تلك الروح لدى الزاهد الذى نال منه الحب الإلهى، لأن الريش المنزوع من الجسد علامة إصابة وسهم جارح.\n
كما تعنى أيضا «الجناح» أو ريش الجناح، وتشير إلى كل من امتلك ريشا وجناحا و «طار» عن الدنيا متخذا الهوا طريقا والسماء غاية.
وكل ذلك يعنى خفة ورشاقة وتحليقا فى الملكوت.

الخبر من المصدر