عمرو بن العاص.. ومكتبة الإسكندرية

عمرو بن العاص.. ومكتبة الإسكندرية

منذ 5 أيام

عمرو بن العاص.. ومكتبة الإسكندرية

جاء عمرو بن العاص غاضبًا فى الرؤيا لشيخ الأزهر الأسبق د/ عبد الحليم محمود وكان زاهدًا تقيًا نقيًا، فلمَّا سأله عن سر غضبه قال: كيف يهاجمنى الغزالى، ألا يعرف أننى السبب فى إسلامه وإسلام آبائه وأجداده.\nقص د/ عبد الحليم الرؤيا على الشيخ الغزالى الذى أدرك خطأه فى حق من أفضل عليه وعلى كل مسلمى مصر وشمال إفريقيا، فظل طوال حياته يدافع عن عمرو بن العاص ويروى مآثره.\nتذكرت هذه القصة وأنا أقرأ مقالا لكاتب أراد الطعن فى عمرو بن العاص بطريقة «لا تقربوا الصلاة»، وذكر أن بعض المؤرخين اتهموا عمرو بن العاص بحرق مكتبة الإسكندرية وأن آخرين برأوه من ذلك، هكذا بطريقة «اخطف واجرى»، مغفلاً الطريقة العلمية والتاريخية الدقيقة فى عرض الأحداث، معتمدا على ضعف ذاكرة بعض القراء، وقلة عودتهم إلى المصادر الأصلية للتاريخ وخاصة فتح مصر.\nلقد تغافل الكاتب عامدا عن ذكر أهم كتابين أرَّخا لفتح مصر وهما «فتح مصر» لابن عبد الحكم، «وفتح العرب لمصر» لألفريد بتلر، وكلاهما لم يذكرا ما ذكره الرجل فى مقاله.\nوألفريد بتلر لا يحب العرب أو عمرو بن العاص ولكنه باحث تاريخى مدقق يأبى أن ينسب لخصومه شيئا لم يفعلوه كما يحلو ذلك لبعض قومنا.\nولم يذكر الشاعر أن دائرة المعارف البريطانية فى طبعتها رقم 11 أضافت خبر حرق عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية ويبدو أن الذى أضافها كان من عينة شاعرنا غير المدقق، ثم تبين لها بعد ذلك كذب هذه الرواية بالأدلة التاريخية الدقيقة فقامت بحذف هذا الخبر فى طبعتها الرابعة عشر.\nولم يكلف الشاعر نفسه أن يقول إن الراوى الوحيد لهذا الخبر المكذوب هو ابن العنبرى واسمه غريفوريوس أبو الفرج بن هارون فى كتابه «مختصر الدول»، وهو غير مصرى ولا يعتد بكتبه عن التاريخ المصرى خاصة، بدليل أن دائرة المعارف البريطانية حذفت الخبر بعد أن تحققت من كذبه.\nولا أعتقد أن دائرة المعارف البريطانية بينها وبين عمرو بن العاص نسب ولا صهر ولا حب ولا كره، ويا ليتنا نتعلم الإنصاف من بعض علمائهم.\nأما ما فات الكاتب الهمام فهو أن عمرو بن العاص حينما قدم لفتح مصر لم تكن مكتبة الإسكندرية موجودة أصلاً، فقد حرقها يوليوس قيصر قبل ذلك بسنوات بعيدة، ولكن لا حرج اليوم على كل من يكرهون الرجل وأقرانه من الصحابة أن يعيدوها للحياة ليحرقها فى خيالهم المريض.\nأما قصة حرق مكتبة الإسكندرية فهى مدونة أيضا فى التاريخ وذلك سنة 48 قبل الميلاد، ففى هذا العام حضر يوليوس قيصر الإمبراطور الرومانى إلى الإسكندرية لفك النزاع على حكم مصر بين كليوباترا وشقيقها بطليموس الصغير، وكان يوليوس يميل لنصرة كليوباترا، وفى أثناء وجود الإمبراطور فى القصر بالإسكندرية حاصره بطليموس الصغير بجنوده، فطلب الإمبراطور النجدة من خارج مصر، وكان على شاطئ البحر المتوسط وحول المكتبة 101 سفينة فأمر يوليوس قيصر بحرق السفن كلها حتى لا يستفيد منها خصومه فى المعركة المقبلة مما أدى إلى حرق المكتبة بالكامل.\nلقد تجاهل الرجل كل هذه الحقائق وانطلق من شتم ابن العاص ليشتم الأمة كلها ويهيل التراب عليها ويصفها بـ«أمة الحرق»، وأنها «عدوة للكتب» فى إعادة بغيضة لكتابات عفا عليها الزمن، ونسى أن عمر بن الخطاب وجنوده فتحوا بيت المقدس وكانت فيها مكتبة كبيرة ولم يمسسها أحد، وفتحوا دمشق وكانت بها مكتبة كبيرة لم يقترب منها أحد.\nونسى فى غمرة كراهيته لهؤلاء العظام أن مكتبة الإسكندرية التى حرقها يوليوس قيصر دون قصد كان قبل بعثة المسيح عليه السلام، وأن فتح مصر تم بعدها بمئات السنين.\nوعلى الكاتب الهمام أن يدرك أن «الكذب مالوش رجلين»، وأرجو أن تقرأ أى كتاب عن فتح مصر لتدرك أن عمرو بن العاص الذى تسخر منه أنت وغيرك كان أعظم سياسى وعسكرى فى تاريخه، وأنه هو الذى أنقد نصارى مصر الأرثوذكس ومذهبهم من الهلاك والضياع لو استمر اضطهاد الرومان عشر سنوات أخرى لهم ولمذهبهم.\nلقد جاء عمرو إلى مصر فوجد الروم قد حرقوا متياس شقيق الأنبا بنيامين الذى هرب بعدها للصحراء لمدة 13 عاما ولم يستنقذه ويكرم وفادته سوى عمرو بن العاص.\nوكان الرومان الكاثوليك يعذبون أقباط مصر الأرثوذكس بإلقائهم فى الزيت المغلى أو تقطيع أجسادهم لحملهم على اعتناق المذهب الكاثوليكى بعد أن أصدر الإمبراطور «هرقل» قرارا بأن تكون الدولة الرومانية على دين ومذهب واحد وهو المسيحية الكاثوليكية.\nوعمرو بن العاص بعبقريته السياسية والإدارية لم يظلم مصريا ولم يحمل مصريا على ترك دينه وهو الذى أعطى قبلة الحياة لمسيحيى مصر ومذهبهم الأرثوذكسى.\nوتأمل حينما أخطأ ابنه فى حق ابن أحد عوام الأقباط ماذا فعل عمر بن الخطاب بعمرو وابنه، إن ألفريد بتلر أقر بأن عمرو بن العاص كان سياسيا وإداريا فذا وأنه لم يصنف الناس بحسب دينهم أو عقيدتهم، ولكن بحسب عطائهم للوطن.

الخبر من المصدر