المحتوى الرئيسى

قامُوس الرَّاقصين

06/29 02:15

جلست مع بعضِ المَعارف نتابع الأخبار، وإذا بصديقة تُمرِّر علينا محمولها الذي انبعثت منه نغمات حماسية مألوفة، وإذا بعدد من الصِّغار يرقصون وسط أطلالٍ وعمائر متهدمة، يُحركون سيقانهم بالدَّبكة الفلسطينية الشهيرة. تقاربنا نتابع حركتهم الحُرَّة العفيَّة، وقد ظهرت الدموع في كثير الأعين؛ خزيًا وهوانًا.

هذا الذي "رَقَص على السُّلم" لم يصعد ولم يهبط بل عَلق في المنتصف، وراح يؤدي حركات بلا جدوى، لا يصل بها هدفه ولا يعود أدراجه، وعلى الدرب ذاته يقال: "لا طال بلح الشام ولا عنب اليمن" والمعنى أن المرء ما لم يكن واضحًا في تحديد مبتغاه؛ جاء فعله مخيبًا للرجاء.

الرَّاقص هو الشَّخص الذي يتحرِّك بإيقاع ما، قد تكون الموسيقى مَسمُوعة من حوله، وقد يكتفي بها داخله؛ ترّن في أذنه وتملأ كيانَه دون أن يدركها غيره. يأتي الفعل رَقَصَ في قواميس اللغة العربية ليفيد اهتزازَ الجَّسد على نَغَم، الرَّقْص هو المَصدر والمَرقَص اسمُ المكان الذي يستضيفه، وإذا قيل رَقَص ضوءُ المِصباح فقد اضطرب والأسباب كثيرة؛ ربما لعيب فيه أو في التيار الكهربائي الذي فاقت أعطاله التصَوُّرات في الآونة الأخيرة.

متى رقَّص واحد خصمَه بتشديد القاف؛ كان المعنى أنه تلاعبَ به وناوره، أما ألعاب الكُّرة فهي المجالُ الأشهر للتَّرقيص الفعليّ والمراوغة بالجسم، أما إذا قيل ”رقَّصني يا جدع“ فمُجامَلة في مُناسبةٍ سعيدة، يُغدق فيها القائل على الفرقة الموسيقية تحية لآخرين.

يُطلَق على بندول السَّاعات العتيقة "الرقَّاص" كونِه يمضي مُتأرجحًا بغير راحةٍ ولا هُدنة، ومع حركتِه الدائبة تنصرمُ الثواني والدقائقُ وتتوالى الأيام. كانت لدى جدَّتي ساعةُ حائط خشبيَّة، تحتاج إلى لفّ الزُمبُرك مرتين في اليوم الواحد؛ كي تواصِلَ عملها. اشتدَّت عليها أصابع أحدنا في إحدى المرات، فانكسرت التروسُ وسَكَن البندول في مكانه، وتوقَّفت العقاربُ وعجزت عن إكمالِ مسيرتها، وبقيت إلى هذا الحين صامتةً؛ إذ لم يتمكَّن من إصلاحها أحدٌ منذ رحلت الجدَّة.

للرَّقص والراقصين نصيب وافر من الدراما. قدَّمت سماح أنور مع يحيى الفخراني مسرحية "راقصة قطاع عام" إخراج جلال الشرقاوي، كما قدَّمت نبيلة عبيد فيلمين بطلتهما راقصة محترفة ذات مكانة؛ "الراقصة والطبال" مع أحمد زكي، و"الراقصة والسياسي" مع صلاح قابيل؛ والإخراج على التوالي لأشرف فهمي وسمير سيف، أما القصتان فلإحسان عبد القدوس.

كذلك أضحكت عبارة عادل إمام "رقاصة وبترقص" من مسرحية ”شاهد ما شافش حاجة“ ملايين المشاهدين. مصدر الضحك هو الجمع بين كلمتين يمكن أن تنوب إحداهما عن الأخرى؛ فبديهي أن تعمل الرَّاقصة في الرَّقص وأن يكون التعجُّبُ وسيلةً لإظهار سذاجة البطل الطاغية.

رقصتان من أجمل ما حَفظ التراثُ: الممبوطية والتحطيب؛ الأولى مُحرَّفة من كلمتي مان بوت، أي رَجلُ المَركب، وقد اشتهر بها أهل السويس الذين درجوا في زمن بعيد على التوجُّه للسفن العابرة بمراكب صغيرة لتبادل البضائع، أما الثانية فتُستخدَم فيها العصي المَصنوعة من خشب الأشجار، ويعود أصلها لفن قتالي ابتدعته حضارةُ مصر القديمة وما بَرِحَ أهلُ الجنوب يمارسونه؛ إذ ينمُّ عن القوةِ والغَلَبة وكذلك الصِّدقِ والاستقامة.

يقول المُتنبي: ولا تحسبنَّ رقصي بينكم طربًا .. فالطير يَرقُص مَذبوحًا من الألم. والقصد أن ما ظهرَ للناس لا يشي بما خفيَ عن أعينهم، فقد يبدو المرءُ على حال تناقض دواخله، وبالمثل قولته الشهيرة: إذا رأيت نيوب الليث بارزة .. فلا تظنَّن أن الليثَ يبتسم. المغزى في البيتين واحد تقريبًا؛ لكن المَزاجَ مُختلف؛ ففي أولهما مُقابلةٌ بين سعادة وحزن عميق، وفي ثانيهما مُقابلة ما بين تودُّد واستعداد للافتراس، وخلاصة القولُ ألا ينخدع الواحد بما يبصر وأن ينظر أعمق من السَّطح.

الراقصُ الأول هو بَطل العَرض في فرق الرقص المختلفة؛ ينفرد بالأداء الصعب فيما تقوم الجموع بحركات أبسط؛ تحتاج للتناغم والدقة أكثر مما تحتاج إلى المهارة. تُعَد فرقةُ رضا أحد أشهر فرق الرقص المصرية وظهرت بنهاية الخمسينيات تقريبًا. قدم أعضاؤها فيلم "غرام في الكرنك" والرقصة الشهيرة "الأقصر بلدنا" على أنغام علي اسماعيل؛ وإذ تُذكَر مُحافظةُ الأقصر وجارتها أسوان؛ فلا يَسع المرءُ إلا أن يأسى لحالِ الناس هناك، وقد باتوا في معاناة غير مسبوقة مع ارتفاع الحرارة وغياب الكهرباء.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل