المحتوى الرئيسى

الذاكرة الجمعيّة للمرأة السورية فى الحرب.. «لا يمكن أن أخاف الحرب أو الرجال المتحرّشين!»

06/17 02:31

قبيل الحرب بقليل، وحين كنا نسمع القيل والقال عن التظاهرات ولا نفهم شيئًا مما يحدث، كنت صغيرة، وكانت هناك حرب صغيرة طاحنة فى داخلى، حرب غير منطقية بالنسبة إلى طفلة فى الحادية عشرة من العمر، لأنها حرب بين مجهول ومعلوم متمثلٍ بعقلى الصغير غير الناضج. أما المجهول، فهو شىء ينمو داخل جوفى، ويحاول أن يستولى علىّ.. كان الأنوثة، لم أدركها إلا متأخرة، ولم أفهم أن حضورها يستلزم معركة، ليس لأنها صعبة المراس بل لأن العالم الذى نشأت فيه حاول بمختلف الوسائل أن يقولبها فى شكل صغير سخيف كتمثال من البورسلان لفتاة مبتسمة ببلاهة، أما هى فجبارة وعنيدة كتمثال من بازلت.

لسوء حظى، تزامن إطلاق أول رصاصة مع انطلاق شعلة مراهقتى، حينها كنت من هواة المشى وأبيتُ أن أستقلّ الحافلة للذهاب الى المدرسة، فالمشى بالنسبة إلى كان ولا يزال أشبه بطقس عبادة. كان الطريق الى المدرسة يمر بمنعطفات عدة، إذ تتبدّل ملامحه من حى هادئ وشجر وزهور إلى سوق مكتظة يليها شارع شعبى عشوائى الى أن أصل إلى سوق آخر أكثر تحضرًا، وأخيرًا إلى المدرسة.

عبرت هذه المراحل وكأنها رحلة أستخدم فيها كل حواسى لأحفظ الطريق، لا أنسى رائحة الهواء فى الصباح، صوت محركات الحافلات التى تقلّ الأطفال إلى المدارس، النسمة الباردة التى يقشعرّ لها بدنى صيفًا شتاءً، صوت رصاص بعيدًا، والكثير من الروائح الغريبة. لكن، ما لا يمكن نسيانه هو وجوه الناس الهائمة فى اللا شىء، والتى تنذر بخطر محدق، كنت صغيرة جدًا على أن أفهم أى نذير شؤم.

الخوف من المشى فى دمشق

رفضت والدتى أن نذهب مشيًا إلى المدرسة بعد انفجار منطقة القزاز، كنت آنذاك خائفة جدًا بالفعل من أن أمشى من جديد، إذ إننى تعرضت لتحرش فى طريق عودتى وحيدة، لكننى خفت أن أخبرها خشية أن تمنعنى من المشى. كان أخى يعود مع أصدقائه وأنا أرجع وحدى أو مع صديقاتى، لكن للأسف عدت يومها وحدى، حينها مرّ ذاك الحادث عرضيًا، ولم أفهم أثره فى نفسى إلا بعد أعوام طويلة. تعاملت معه ومع أنوثتى بأقسى ما يمكن، معاقبة نفسى بحرمانها من نفسها، وبطقوس رهبنة دفنت أنوثتى فى صندوق، لأننى فضّلت حريتى عليها، كيف أعود بالباص إلى المنزل؟ لا وألف لا، لن يدرى أحد بخيبتى تلك. بعدها، تحولت تدريجيًا إلى هاوية جمع شظايا ومقذوفات وبقايا حرب، ولبست الجينز الواسع وقصصت شعرى الطويل اللامع فى ثورة صغيرة، لكنها لم تكن إلا صرخة استغاثة.

يوم تفجير القزاز فى دمشق، أذكر أننا عدنا إلى المنزل جريًا، متدافعين مع أولاد المدارس المذعورين، فكرنا أنا وأخى فى طريقة لنحمى المنزل من الانفجارات اللاحقة، فدفعنا الكنبة نحو الباب لنحكم إغلاقه واختبأنا فى الخزانة، مخبّئين معنا حبات من فاكهة الإجاص. لا أذكر أننى أكلت تلك الإجاصة يومها، لكننى أذكر أننى شعرت بالأمومة نحو أخى، وكأننى يجب أن أحميه. كنت مذعورة من الحرب، لكن أخى كان يضحك عليها، لذلك كتمت خوفى يومها وضحكت معه، لا يمكن أن أخاف لا من الحرب ولا من الرجال المتحرشين! لاحقًا حين ذهب مع صديقه ليجمعا شظايا القذائف وفوارغ الرصاص، أوقفهما بعض الجنود وطردوهما، ولحسن حظنا عادا يومها.

استمتع أخى بجمع مخلفات الحرب، فصرت أجمعها أنا أيضًا، لكننى لم أكن مسرورة، فتلك كانت هواية الكثير من الأطفال فى سوريا، أما أنا فقد كانت هوايتى المشى والإصغاء إلى صوت الرصاص والانفجارات، ومحاولة التفريق بين صوت القنابل والصواريخ، أيّها التى تطلق وأيّها التى تنزل على رءوس الناس.

كنت أفشل دومًا فى سماع صوت القذائف التى تنزل قريبة منا، حين أكون نائمة. أذكر والدى حين كان يقول لى: «نزلت قذيفة برأس الحارة، الحمدلله كنتِ نائمة بابا، لم تحسّى بشىء».

الحرب.. السهل الممتنع

كان يتملّكنى الحزن حين يقول «لم تشعرى بشىء»، لقد تمنيت من كل قلبى لو أحس أكثر بالحرب، كانت السهل الممتنع، فهى حولى وبعيدة منى. لم نكن ممن تضرروا بشكل مباشر من الحرب، حاولت عائلتى أن تبعدنا عمّا قد يعرضنا للأذى، القنوات التلفزيونية والأحاديث السياسية والمنطقة السكنية، ونجحت فى ذلك إلى حد كبير.

بدا بيتنا ذا قبة وهمية تحمى من الرصاص، فحين تحدث طلاب صفى عن شظايا ورصاص يخترق نوافذهم، لم تكن لدى قصة، كنت أمشى كل يوم وأنظر لعلّنى أنال رصاصة أو شظية فى جسدى، احتجت أن أشعر بذلك الشعور حين تخترق الحرب جسدك، وتترك فيه ندبة.

تمنيت لو أننى رُميت بالرصاص بدلًا من أن يتم التحرش بى فى الشارع الفارغ من الناس، ما تلك القصة السخيفة المخزية، أن يتعرض لى رجل ما ومن ثم يختفى بعدما أدفعه وأهرب! لا يمكننى أن أحكى قصة كهذه، ماذا لو فهموها بطريقة خاطئة، ماذا لو اتهموا لباسى أو مشيتى؟ كنت أتوق لأن أحكى قصة، قصة مثيرة عن الحرب فقط، عن البارود والرصاص! لربما كنت أريد أن أشعر كطفلة أننى جزء من شىء أكبر منى، فقد كنت غارقة فى وحدتى وأسرارى وهزائمى التى لا يعرف عنها أحد.

تحقق حلمى بأسخف طريقة ممكنة بعد طول انتظار، ففى أحد مشاويرى نحو المعهد، فى أيام الدراسة الأخيرة، وسنوات القذائف الأخيرة، سمعت جلبة وسقط حجر على يدى وكأن أحدًا رمانى به، توقفت لأمسك الحجر، وإذ به شظية صغيرة جدًا كحبة الحمّص، تركت على يدى أثر حرق صغير كمن أطفأ سيجارة فى يدى. فى تلك اللحظة، رأيت الناس يركضون، فركضت معهم، كانت قذيفة وقعت فى مكان قريب جدًا، لم أسمع صوتها تلك المرة، ولكننى شعرت بحماسة لا مثيل لها! فها أنذا أركض مع الناس وأشاركهم مشاعر الخوف والقلق، وها أنذا أختبئ فى ظل محلّ غريب استقبلنا بلهفة، وها أنذا أشاركهم الحديث عن ويلات القذائف وعن الشظية التى أحرقت يدى، وعن الخوف الصغير الذى اختلقته. وها هم يدعون لى بالسلامة وينظرون الى الحرق السخيف فى يدى وكأنه جرح عميق، ولا يأبهون لكونه يشبه حرق سيجارة ليس إلا، بل يشعرون به كجرح جمعى أصابنا جميعًا.

الشظية التى خلصتنى من العار

وأخيرًا بعد سبع سنوات من الحرب، باركتنى آلهة الحرب بذبيحة دموية، عمدتنى بالنار أخيرًا، حينها فقط صرت سورية بهوية. أن تصبح سوريًا يعنى أن تتعمد بالدموع والنار، أن تلفظ لفظة ثورة بفخر أو ألا تلفظها إطلاقًا، أن تبصق على الأسفلت وأن تقبّل الحجارة القديمة. تلك الشظية الصغيرة خلّصتنى من عار ألا تكون لدىّ قصة، وصارت هويتى وشهادة ولادتى.

أما حكايتى الصغيرة التى أخفيتها عن أمى، فلم أحكها إطلاقًا، ظلت تنمو بداخلى بالتوازى مع أنوثتى التى نمت مشوّهة. اليوم، أدرك أنها ندبة حرب أكبر من عقب سيجارة، ليتنى استطعت أن أشعر وقتها أنها حرب ضارية وليست حربى وحدى. اليوم أفهم أن الحرب كانت فى نظرنا جميعًا غير مفهومة تمامًا، جميعنا كنا نظن أنها نار وبارود. أما بعد ذلك، فلا أدرى إن فكّر أحدنا مليًا بما بعد الحرب، إلا أننى متأكدة أن الجميع يهيمون على وجوههم، شاعرين بالمشاعر ذاتها، تعود لى ذكرى الوجوه الهائمة كل يوم، أولئك الذين رأيت وجوههم بداية الحرب، هم كل يوم حولى، وجوه مكسورة تحمل هزيمة كبيرة واحدة تصبغهم بلون واحد، وهزائم صغيرة عدة فى عيونهم لا يعرفها سواهم.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل