المحتوى الرئيسى

«الغوري».. بدأت بفندق تجاري وأصبحت قلعة فنية ضخمة

05/13 02:10

«من المكسب للخيال.. ومن البيع للإبداع.. ومن الشراء للفن»، وما بينهما مئات السنوات مرت على المبنى الشاهق بارتفاعه الضخم والأحجار المحتضنة للمشربيات المزينة بزخارفها المنمقة.. فهنا وكالة الغورى، القابعة فى قلب القاهرة الفاطمية، قديماً كانت شهرتها صرحاً تجارياً ضخماً، لكنها حالياً تحولت لقلعة فنية تخرج من بين عباءتها أعمال فنية تتنفس برائحة الماضى، وتزيد من فرض حالة العشق لمنطقة القاهرة الإسلامية.

على بعد خطوات قليلة من الجامع الأزهر، وبالقرب من مدخل حى الغورية، تقبع الوكالة الأثرية، فهى واحدة ضمن مجموعة أثرية تحمل اسم السلطان الغورى، لعل أبرزها القبة والوكالة، المسافة بينهما لا تتعدى الأمتار القليلة، وبمبلغ لا يتجاوز الـ10 جنيهات، تمنحك ثمن تذكرة الدخول لزيارة الوكالة الأثرية، يرافقك خلالها أحد موظفى وزارة الآثار فى جولة مليئة بالشواهد الأثرية الباقية.

ومن صحن الوكالة المكشوف، الذى تتوسطه نافورة رخامية جف ماؤها، تبدأ الجولة، وسرعان ما يلاحقك الموظف بالتعريف عن ماهية الصرح الضخم الذى كان بمثابة فندق تجارى، بحسب وصفه، يسكنه التجار القادمون من الخارج سواء من بلاد الشام أو أوروبا، للبيع والشراء وعقد الصفقات التجارية.

مشيدة على 5 طوابق شاهقة لإقامة التجار الوافدين من بلاد الشام وأوروبا

وعلى 5 طوابق شاهقة شيدت الوكالة لإقامة التجار الوافدين، يستكمل الموظف شرحه المبسط بالإشارة إلى الغرف المغلقة أبوابها بالطابق الأرضى، التى تعرف باسم (الحواصل)، أى المخازن التى يضع فيها التاجر بضاعته للزبائن، ومن ثم يجلس التاجر فى مكتبه المخصص بالطابق الثانى من الوكالة، ويزيد الموظف من شرحه عن الطوابق الثلاثة المحتضنة بالمشربيات، فهى السكن المخصص للتجار النزلاء بالوكالة، ووصفها الموظف بكونها أشبه بـ«الفيلا»، إذ تنقسم بداخلها إلى ثلاثة طوابق أخرى يقيم فيها التاجر برفقة أسرته.

ينتهى الموظف من شرحه المبسط الذى لم يتجاوز سوى دقائق معدودة، يشعرك كأنك عدت بالزمن إلى مئات السنوات، قبل أن يفاجئك بأن جدران الوكالة لم تقف شاهدة فقط على تعاقب الأزمنة من حولها، إذ تحولت حالياً إلى قلعة فنية ضخمة وأن سكن التجار تحول إلى مراسم للفنانين التشكيليين، ليزيد بداخلك الفضول تجاه جولة فنية ما زالت تنبض بالحياة.

تحولت إلى مراسم للفنانين التشكيليين بعد ثورة 1952

مجرد صعودك للطابق الثانى يمنحك فرصة التعرف على عالم فنى يسكن داخل أرجاء الوكالة منذ سنوات، وتكتشف أن الغرف المفتوحة أبوابها انقسمت ما بين إدارة حفظ التراث وإدارة مراسم الفنانين التشكيليين، التى يرأسها الفنان طه عشماوى، الذى يحتفظ بمكتبه فى الغرفة الأثرية منذ عام 2018، حين تولى إدارة المراسم بالوكالة.

وبداخل إحدى الغرف الأثرية بالطابق الثانى، التى كانت قديماً أحد مكاتب التجار النزلاء بالوكالة، يجلس الفنان التشكيلى طه عشماوى، يمضى وقته بين متابعة عمله كمدير المراسم وبين تفريغ طاقته الفنية على الأوراق الفارغة فيحولها إلى لوحة فنية مستلهمة من أحجار عتيقة تحده من كل صوب، يرى فيها وجوه من عاشوا قبل مئات السنوات، وتمنحه مزيداً من الخيال الفنى، وبابتسامة معهودة يستقبلك فى جولة يجيب خلالها عن كيف تحولت طوابق سكن التجار بالوكالة إلى «صومعة فنية».

ومع بداية حديثه لـ«الوطن» قدم الفنان التشكيلى طه عشماوى بعضاً من الملامح التاريخية عن نشأة وكالة الغورى، فمنذ أن أصبحت إحدى غرفها مرسمه الخاص دفعه الفضول لمعرفة حكايتها، إذ وصفها قائلاً إنها من أكبر الفنادق التجارية فى مصر منذ أن أنشأها السلطان قنصوه الغورى، وذاع صيت التجار العارضين بداخلها فى صناعة المنسوجات والأقمشة، ومع مرور الأزمنة المتعاقبة عليها بات يسكنها بعض من «فتوات» المناطق المحيطة، فأبدلوا من وظيفتها التجارية، بحسب حديثه.

وعلى هذا الحال صارت الوكالة الأثرية حتى مجىء ثورة 1952 وأتى معها حلم ثروت عكاشة، أول وزير للثقافة بعد الثورة، حين نظر بعينيه إلى الحال الذى وصلت إليه الوكالة، فجمع بداخلها أمهر الحرفيين للصناعات التراثية وأسكنهم داخل صحن الوكالة وجعلهم شيوخاً ومعلمين للصبية فى «القاهرة القديمة» يتشربون من بين أيديهم أصول المهنة، وفى غرف التجار أسكن بداخلها الفنانين التشكيليين لتصبح مراسم خاصة بهم ينسجون بأناملهم صوراً فنية، لتصبح وكالة الغورى أول مرسم للفنانين التشكيليين فى مصر، بحسب طه عشماوى، مدير المراسم.

«عشماوى»: تحتوى على قرابة 60 مرسماً

قرابة 60 مرسماً فنياً داخل الوكالة، هكذا أوضح «عشماوى» عدد المراسم وقت افتتاحها منذ فترة الستينات، فهى بمثابة منحة مكانية من وزارة الثقافة للفنان التشكيلى الذى لا يتوافر لديه مرسم خاص، فيمكنه الحصول على مرسم بعد اطلاع اللجنة العليا للمراسم بالوزارة على السيرة الذاتية الخاصة به، مع التزام الفنان التشكيلى بالضوابط الأثرية بالمرسم وألا يغير من معالمه الأثرية شيئاً، بحسب تأكيد الفنان طه عشماوى، مدير المراسم، الذى يحرص بدقة على متابعة هذه الضوابط مع المراسم الباقية داخل الوكالة.

«كانت زى دار الأوبرا»، بهذا الوصف شبه «عشماوى» كيف كانت وكالة الغورى منارة ثقافية أضاءت القاهرة الإسلامية منذ افتتاحها كمراسم للفنانين حتى نهاية التسعينات، إذ كانت شاهدة على إقامة الفعاليات والمنتديات الثقافية بحضور كبار المسئولين بالدولة وقتها، حتى بدأت تتجه الأضواء شيئاً فشيئاً إلى المراكز الثقافية الجديدة.

ورغم خفوت الأضواء الثقافية قليلاً عما كانت عليه وكالة الغورى سابقاً، ما زال «عشماوى» متمسكاً بمرسمه الفنى الذى حصل عليه فى عام 2012. وعلى أحد الأبواب الموصدة ستجد اسم «عشماوى»، وما أن يفتح الباب وكأن قدميك خطت «مغارة على بابا»، فهنا الغرفة الأثرية ذات الطوابق المتعددة، التى لا تتسع أركانها من اللوحات الفنية المتشبعة بروح الحضارة الإسلامية والشوارع المحيطة بما تحمله من معالم خالدة ووجوه دافئة، فهنا يجلس الفنان الخمسينى، لا يشغله شىء سوى أدواته وأفكاره الخيالية ليشبع رغباته الفنية وينقلها عبر لوحات يزين بها المعارض الفنية سواء داخل أو خارج مصر.

وقبل أن يغلق الفنان التشكيلى أبواب مرسمه الخاص يوضح كيف كانت الغرفة ذات الطوابق الثلاثة مسكناً للتاجر وأسرته من النساء، وكيف كان لأحد الطوابق درجات حجرية تقود النساء للشارع دون أن يجرح رؤيتهن أحد من الغرباء، ليفتح «عشماوى» الحديث مجدداً حول الملاحق الخاصة بالوكالة، فالجولة الثقافية التى بدأها الفنان التشكيلى لم تنته عند المراسم.

ويصطحبك «عشماوى» إلى خارج أبواب الوكالة، وعلى بعد خطوات معدودة تتجه إلى المصبغة قديماً، فهى أحد ملاحق الوكالة التى استخدمها التجار الوافدون فى صبغ الأقمشة والمنسوجات والتى أصبحت حالياً مقراً لجمعية أصالة للحرف التراثية والفنون المعاصرة.

فبداخل ممر حجرى طويل ملىء بالغرف الصغيرة التى تراصت بداخلها منتجات للحرفيين والمشغولات اليدوية، يقف «عشماوى» متحدثاً عن فكرة الجمعية التى أسسها قديماً الفنان التشكيلى عزالدين نجيب، منذ التسعينات، ليحافظ على المهن التراثية من الاندثار، وما زالت تتزين الغرف بالمنتجات التراثية والمشغولات اليدوية فى معرض يومى يجذب أنظار المارة من زوار مصريين وأجانب.

احتفاظ وكالة الغورى بملامحها الأثرية وإعادة توظيفها كإحدى أبرز الإضاءات الثقافية فى مصر، ربما يعد سبباً لتميزها التاريخى حتى الآن، بحسب ما أكده الباحث الأثرى أسامة الكسبانى، مدير وحدة التراث الحضارى بمعهد البحوث الفلكية، الذى قدم لـ«الوطن» بعضاً من الملامح التاريخية عن وكالة الغورى.

«الكسبانى»: الأكثر تميزاً بفنون العمارة الإسلامية

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل