المحتوى الرئيسى

الانفصال المدمر

04/01 21:37

نشر موقع Project Syndicate مقالا حول اتجاه علاقات القوتين العظميين، الولايات المتحدة والصين، نحو الانفصال، موضحا حتميات هذا الانفصال، وعواقبه... نعرض من المقال ما يلى:

على مدى العام الماضى، أصبح مسار العلاقات الصينية الأمريكية واضحا على نحو لا يقبل الجدال: فالولايات المتحدة والصين تتجهان نحو انفصال جوهرى وإن لم يكن كاملا. وبعيدا عن مقاومة هذه النتيجة، يبدو أن كلا الجانبين الآن تقبلا حقيقة مفادها أن اللعبة أصبحت غير تعاونية إلى حد كبير، حتى أنهما يعكفان على تضمين هذه الحقيقة فى أطرهما السياسة. ولكن ما هى حتميات هذا الانفصال على وجه التحديد، وما العواقب التى ستترتب عليه؟

على الجانب الأمريكى، أدت المخاوف بشأن الأمن القومى إلى خلق قائمة طويلة ــ ولا تزال فى ازدياد ــ من القيود المفروضة على صادرات التكنولوجيا إلى الصين والاستثمارات هناك، وكذا على قنوات أخرى تنتقل التكنولوجيا عبرها فى مختلف أنحاء العالم. لتعزيز تأثير هذه الاستراتيجية، تحاول الولايات المتحدة التأكد ــ بما فى ذلك من خلال التهديد بفرض العقوبات ــ من انضمام دول أخرى إلى جهودها.

ربما كان هذا النهج ليلقى مقاومة شديدة، بما فى ذلك فى أوروبا، لولا الحرب الدائرة فى أوكرانيا. يبدو أن الصراع أعاد ترسيخ العلاقات عبر ضفتى الأطلسى، بعد بضع سنوات من الانقسامات. وعلى الرغم من التزام الصين جانب الحياد رسميا فى الحرب، فإنها ظلت ملتزمة أيضا بما يسمى «الشراكة بلا حدود» مع روسيا، والتى أَكَّـد عليها الرئيس الصينى شى جين بينج فى زيارته الأخيرة إلى موسكو التى دامت ثلاثة أيام.

فى صميم شراكة شى جين بينج مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يكمن اعتقاد مشترك بأن الغرب الذى تقوده الولايات المتحدة عازم على كبح وتلجيم بلديهما ــ لعرقلة جهود التنمية فى البلدين، وإحباط طموحاتهما الإقليمية، وتقييد نفوذهما الدولى. تشكل هذه القناعة ــ التى تثبت صحتها على ما يبدو السياسة الأمريكية فى الآونة الأخيرة ــ أهمية مركزية أيضا فى أحدث تكرار للأجندة الاقتصادية المحلية فى الصين.

جلبت بداية فترة ولاية شى جين بينج الثالثة غير المسبوقة فى السلطة موجة قوية من الوثائق التى تلقى الضوء على خطط الصين الاقتصادية، وخاصة استراتيجيتها لاستعادة نمو الناتج المحلى الإجمالى السريع. بعد توصلهم إلى استنتاج مفاده أن الاقتصاد العالمى سيكون أقل انفتاحا وأكثر عدائية، وبالتالى محركا أقل جدارة بالثقة للنمو، يسعى قادة الصين إلى تقليل اعتمادهم على الطلب على الصادرات. لذا، فعلى الرغم من استمرار قادة الصين فى الترويج للتعددية والانفتاح الاقتصادى، فإن أولويتهم الأولى الآن تتمثل فى الاستقرار والاعتماد على الذات فى التجارة والاستثمار والتكنولوجيا.

المنطق الاقتصادى سليم. إذ يقارب اقتصاد الصين 80% من نظيره فى الولايات المتحدة، وهذا يعنى أن الصين تمتلك سوقا داخلية ضخمة للسلع والخدمات وعوامل الإنتاج. ومن خلال تحسين تكامل سوقها المحلية، ربما تتمكن الصين من الاستفادة الكاملة من إمكاناتها المعززة للنمو، وبالتالى عزل نفسها إلى حد ما عن الضغوط الأجنبية، بما فى ذلك التحديات التى تهدد موقعها المركزى فى سلاسل التوريد العالمية.

الواقع أن تنويع سلاسل التوريد ــ من خلال ما يسمى «دعم الأصدقاء» على سبيل المثال ــ جار بالفعل، وليس فقط بسبب المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. كما أن الصدمات المتكررة ــ من أحداث الطقس الشديدة القسوة المرتبطة بتغير المناخ إلى الجائحة والحرب ــ واستخدام العقوبات الاقتصادية على نحو متزايد كأداة من أدوات السياسة الخارجية، أعطت الشركات والحكومات الحافز لتعزيز مرونتها وقدرتها على الصمود.

فى الأوضاع المثالية، قد تشمل المرونة الأكبر فى عدد كبير من البلدان قدرا أقل من الاعتماد على الدولار الأمريكى. ورغم أن هيمنة الدولار العالمية ليست معرضة لخطر وشيك، نظرا لغياب البديل القابل للتطبيق، فإن العديد من الدول الآسيوية تحاول إنشاء آليات لتسوية التجارة تتجنب الاعتماد على الدولار. من الناحية التكتيكية، هذا من شأنه يزيد من الصعوبة التى تواجهها الولايات المتحدة فى تتبع المعاملات وتحديد انتهاكات العقوبات.

لا ريب أن العواقب الاقتصادية المترتبة على هذا الميل نحو المواجهة بعيدة المدى بقدر ما هى شديدة وقاسية. ولأن سلاسل التوريد العالمية أصبحت أقل مرونة وكفاءة، وأكثر تكلفة، فإن قدرتها على مواجهة الضغوط التضخمية سوف تتدنى. وبالتالى، سَـتُـترَك البنوك المركزية لإدارة نمو الأسعار وحدها، عن طريق قمع الطلب الزائد.

كل هذا يولد رياحا معاكسة قوية تعرقل النمو. علاوة على ذلك، كما رأينا أخيرا، يتسبب إحكام السياسة النقدية بسرعة، بعد سنوات من أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض أو السلبية (بالقيمة الحقيقية)، فى إنتاج ضغوط مالية ونوبات من عدم الاستقرار، وخاصة عندما تكون مستويات الديون ضخمة.

سوف تُـفضى هذه التركيبة التى تتألف من أسعار الفائدة الأعلى وأعباء الديون السيادية الثقيلة إلى تفاقم الضغوط المالية. ورغم أن انخفاض التضخم قد يخفف من هذه الضغوط، فمن المرجح أن تظل أسعار الفائدة مرتفعة لبعض الوقت، وخاصة إذا تسببت الاتجاهات الاقتصادية العالمية غير المثالية والقوى المزمنة الممتدة الأثر، مثل الشيخوخة السكانية، فى تدهور ظروف جانب العرض. ومن غير المرجح أن ينقلب الاتجاه المنحدر فى نمو الإنتاجية ــ الذى أصبح واضحا بشكل خاص فى العقد الأخير ــ فى ظل اقتصاد عالمى مفتت حيث ترتفع الحواجز التى تمنع تطوير التكنولوجيا ونشرها.

هذه الحواجز من شأنها أن تعرض للخطر أيضا التقدم الذى جرى إحرازه فى أجندة الاستدامة، التى تتطلب تدفقات حرة وخالية من الاحتكاكات من التكنولوجيات القائمة والناشئة. على نحو مماثل، سوف يتطلب التحول الأخضر تدفق رأس المال إلى حيث يخلف أكبر الأثر، بما فى ذلك إلى البلدان الأدنى دخلا. ولن يتسنى حشد الاستثمار الرأسمالى المتنامى اللازم للتحول العالمى فى مجال الطاقة ــ والذى يقدر بنحو 3 إلى 3.5 تريليون دولار ــ فى غياب التنسيق الدولى. لحشد الاستثمار الخاص، تحتاج المؤسسات المالية الدولية إلى قدر متزايد من التمويل الرأسمالى والدعم من جانب المساهمين الرئيسيين كافة، وهو أمر بعيد الاحتمال فى البيئة الحالية.

يعرف كثيرون على جانبى ما يمكن أن يسمى «معادلة انعدام الثقة المتبادلة» أن الانفصال مسار غير مثالى وخطير بوضوح. ولكن فى كل من الولايات المتحدة والصين يكون مصير الأصوات الـمُـعارِضة إما التجاهل أو الخنق، سواء من خلال الضغوط السياسية أو القمع الصريح.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل