المحتوى الرئيسى

الجامعة العربية والشمعة 78

03/29 20:38

احتفلت منذ أيام جامعة الدول العربية بالعيد الثامن والسبعين لتأسيسها، وأحسب أنها احتفالية حزينة شاحبة، كحالة الأمة العربية الراهنة، والتى تعانى من التشظى والخلافات والهوان.

عرفت الجامعة العربية عن قرب، وعلى مدى سنوات، تفاعلت مع نظمها واجتماعاتها وطموحاتها، ومجالسها المتخصصة، ومع الكثير من قياداتها، فى مراحل مختلفة، فى حالات الشموخ والتأثير، وأخرى فى حالات التراجع والانكسار.

قدت وشاركت فى مسيرات وتظاهرات طلابية أمام جامعة الدول العربية، فى ستينيات القرن الماضى، دعما لها تارة، واعتراضا تارة أخرى على مواقف غير شعبية، أو احتجاجا على ترددها فى نصرة قضايا الحرية والتضامن العربى.

وأذكر دخولى لأول مرة مكاتب الجامعة العربية فى ميدان التحرير بالقاهرة، برفقة وفد يمثل الطلبة العرب فى الجامعات المصرية، ومقابلة الأمين العام المساعد للشئون السياسية د. سيد نوفل، وقدمنا له بيان احتجاج على عدم معاقبة ليبيا وتونس، الدولتين العربيتين الوحيدتين اللتين لم تقاطعا ألمانيا الغربية، بسبب تقديمها أسلحة متطورة إلى إسرائيل.

فى هذا اللقاء العاصف، سمعت الدرس الأول فى فهم طبيعة الجامعة العربية وميثاقها، باعتبارها مجرد «سكرتارية إدارية وفنية» وعليها تنفيذ إرادات عربية مختلفة، وليس لها أن تعارض أو حتى تناقش.

فى عقد السبعينيات، تفاعلت وشاركت فى معظم اجتماعات مجالس ولجان جامعة الدول العربية، ومؤتمراتها وحواراتها مع الأوروبيين والأفارقة، وشهدت مساجلات حادة بين زعامات ووزراء حول الأوضاع العربية، وبعضها كان يخرج عن المألوف فى المناقشات، وتعرفت خلالها إلى تضاريس السياسات العربية وعُقدها، وما وراء الخطب و«الكواليس»، ورأيت فى محمود رياض، الأمين العام للجامعة وقتها، قامة قومية شامخة، يحرص على أن يتجاوز وظيفته (الإدارية والفنية)، ولا يقبل قيدا أو مجاملة لدولة ما أو حتى لدولة المقر، وهو منها.

تحضرنى اليوم، قصة نشأة الجامعة العربية فى العام 1945، سبع دول عربية، تشاورت فيما بينها فى الإسكندرية، حول سبل مواجهة تحديات الاستقلال، بعضها ناقص السيادة، أو تحت الاحتلال الأجنبى، وبعضها خارج للتو من مرحلة كفاح وطنى من أجل الاستقلال، طالب بعض منها بدولة «سوريا الكبرى»، وطالب آخرون بـ«هلال خصيب» كما طالبوا بـ«تحالف عربى».

كان نورى السعيد (العراق)، أول من اقترح عقد مؤتمر عربى للوحدة، وأرسل وفودا لشرح موقفه، تلاه مصطفى النحاس (مصر) الذى وجَّه دعوات إلى الحكومات العربية الست، القائمة فى ذلك الوقت، لعقد مشاورات ثنائية والتى تواصلت فى النصف الأول من عام 1944، بدءا من العراق وسوريا والأردن والسعودية واليمن، أما لبنان فاكتفى بإصدار بيان باسم رياض الصلح، رئيس الوزراء، يبدى فيه رغبة لبنان فى التعاون مع الدول العربية، «شريطة اعترافها بكيان لبنان المستقل وحدوده». وتشير الوثائق الرسمية العربية إلى أن العراق كان الأكثر حماسا لفكرة (اتحاد عربى)، وأيده شرق الأردن، أما سوريا التى كان يرأس مجلس وزرائها سعد الله الجابرى، فكانت تميل إلى مشاريع سوريا الكبرى والهلال الخصيب. ووافق الوفد السعودى الذى كان برئاسة يوسف ياسين، نائب وزير الخارجية، فى مشاوراته مع مصطفى النحاس، على تعاون عربى يشمل الميادين الاقتصادية والثقافية فقط، وأيده فى هذا الموقف وفد اليمن برئاسة على المؤيد، وانتهت هذه المشاورات الثنائية قبل أن تضع الحرب العالمية أوزارها، وكان الرأى العام العربى يضغط فى اتجاه تحقيق الوحدة.

وفى ظل هذا المناخ، انعقدت لجنة تحضيرية فى الإسكندرية، بحضور مندوبين يمثلون الدول السبع، إضافة إلى وفد يمثل عرب فلسطين، واتفق المشاركون على عدم الأخذ بفكرة «الحكومة المركزية» أو «الاتحاد العربى»، وإنشاء «جامعة» للدول العربية، وتكون قرارات مجلس هذه الجامعة ملزمة فقط لمن يقبلها. وتم التوقيع على بيان اللجنة التحضيرية، الذى عرف باسم «بروتوكول الإسكندرية» فى أكتوبر 1944، وملحقيه الخاصين بفلسطين ولبنان، وقد تأخر توقيع السعودية واليمن على هذا البروتوكول نحو ثلاثة أشهر، ثم تولت لجنة فرعية إعداد مشروع ميثاق للجامعة العربية، على ضوء هذا البروتوكول، برئاسة النقراشى باشا، ولعب عبدالحميد بدوى، وزير خارجية مصر، دورا كبيرا فى صياغة الميثاق، باعتباره أحد كبار فقهاء القانون الدولى، وصادقت الدول السبع فى عام 1945 على الميثاق، واعتبر يوم 22 مارس يوم ميلاد الجامعة.

انضمت إلى الجامعة جميع الدول العربية، بعد حصولها على الاستقلال، بدءا من ليبيا (1953) والسودان (1956) والمغرب وتونس (1958) والكويت (1961) والجزائر (1962) واليمن الجنوبى (1967) والبحرين وقطر وسلطنة عمان والإمارات (1971) وموريتانيا (1973) والصومال (1974) وجيبوتى (1977) وجزر القُمر (1993)، أما فلسطين فقد تمتعت بعضوية كاملة منذ (1976).

تطوف فى الذاكرة صور للمشاركين فى تأسيس الجامعة العربية، وهم يرتدون فى أغلبيتهم «الطربوش» الأحمر، وبهندامهم الأنيق، قامات سياسية كبيرة مثل: فارس الخورى، وتوفيق أبوالهدى، والنقراشى باشا، وجميل مردم، ونورى السعيد، وحمدى الباجه جى، وخير الدين الزركلى، وأحمد أمين، ومعهم الفقيه الدستورى عبدالرزاق السنهورى، الذى عين أول رئيس للجنة الثقافية فى الجامعة العربية.

راجعت قرارات مجلس الجامعة العربية، فى سنواتها الثلاث الأولى، وكيف كانت نسبة مساهمة مصر فى موازنتها تصل إلى 42 بالمائة والعراق نحو 20 فى المائة، وكيف تولى وزير خارجية سوريا جميل مردم حملة «الدعاية لفلسطين» فى لندن وواشنطن، والعمل على توحيد الأحزاب الفلسطينية (منذ ذلك اليوم وحتى الآن، مازالت هذه المشكلة قائمة). واطلعت على قرارات بمنع الصحافة من الإساءة للعلاقات بين الدول العربية (الإشكالية مزمنة حتى الآن)، والاحتجاج على استفحال الإرهاب الصهيونى فى فلسطين (الاحتجاج نفسه متواصل حتى الآن)، ورصد مبالغ لمواجهة المجاعة فى تونس وطرابلس.. إلخ.

عُدت إلى مقر الجامعة العربية، فى أكتوبر الماضى، للمشاركة فى مؤتمر يسعى لتأسيس «مجموعة السلام العربى ــ العربى» شارك فيه عدد من المفكرين ونخب سياسة ذات خبرات طويلة، ومهمومون بقضايا العمل العربى المشترك وبناء جسور السلم بين الدول العربية.

مررت بالقاعة المؤدية إلى القاعة الكبرى للاجتماعات، لامست بأصابعى الفسيفساء الملونة الدمشقية والأندلسية على جدران القاعة الصغيرة التى كنا فى السبعينيات نقضى فيها فترات الاستراحة، بدت لى باهتة وكأنها شاخت. بحثت عن روح المكان، عن رائحة كانت مبثوثة فى فضاء ردهات الجامعة وحجراتها، عن موسيقى عربية شجية تتسلل إلى زوار المكان، وتدعوه للتفاؤل والفرح والحلم الأخضر.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل