المحتوى الرئيسى

طموحات يابانية أمام واقع معقد

03/21 21:16

تسير اليابان على طريق جديد، أهم سماته الرئيسة هو تخليها عن السلمية التى تبنتها أو فرضت عليها كدولة خاسرة فى الحرب العالمية الثانية. هذا التحول، فى حال نجاحه، سيكون له آثار كبيرة على منطقة المحيطين الهندى والهادئ، فضلا عن النظام الدولى ككل؛ حيث تشير التحولات الأخيرة فى العقيدة الدفاعية اليابانية، والتى أعلن عنها رئيس الوزراء اليابانى «فوميو كيشيدا» فى منتصف ديسمبر 2022، إلى استعدادها اتخاذ خطوات تتناسب مع موقعها الاستراتيجى، ومصالحها الإقليمية، وقدراتها الاقتصادية، لا سيما وكونها ثالث أكبر اقتصاد عالمى، فضلا عن نيتها إقحام نفسها فى قضايا جيوسياسية قد تتجاوز مصالحها الدفاعية الضيقة، والانغماس بشكل أعمق فى شئون الأمن العالمى.

باختصار، انصب تركيز القرارات الدفاعية الأخيرة بالأساس على تعزيز قدرة اليابان على الردع وصد أى هجوم محتمل، والتأكد من جاهزية القوات اليابانية على الهجوم فى حالة اندلاع صراع. وعلى هذا المنوال، وعد رئيس الوزراء اليابانى بمضاعفة ميزانية اليابان العسكرية، لتصل إلى نسبة 2% من الناتج القومى الإجمالى بدلا من 1% التى كانت مخصصة فى العقود الأربعة الماضية، كما أعلن عن استراتيجية اليابان الشاملة التى تضم ثلاث وثائق يتحدد على إثرها التوسع العسكرى المقبل لليابان، وهم؛ أولا «استراتيجية الأمن القومى» والتى تحدد التهديدات التى تواجه البلاد وتضع الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية فى سبيل مواجهتها، وتركز بشكل رئيس على الصين وروسيا وكوريا الشمالية كمصدر رئيس للتهديدات، وثانيا «خطة الدفاع القومى» والتى تحدد التعزيزات العسكرية التى تحتاجها قوات الدفاع الذاتى اليابانية ومدتها عشر سنوات، وأخيرا «خطة إنفاق» على مدى الخمس سنوات المقبلة تحدد ما يقرب من 320 مليار دولار لشراء ما تحتاجه عملية تنفيذ خطة الدفاع، الأمر الذى يعكس تحرر اليابان من إرث الحرب العالمية الثانية ويجعلها ثالث أكبر منفق على الدفاع فى العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين.

أثار الموقف الاستراتيجى الجديد لليابان قليلا من القلق وكلمات الإدانة؛ اعترضت الصين على الوثائق اليابانية الجديدة متهمة طوكيو بإثارة التوترات الإقليمية، وبالرغم من هذا شهدت الأسابيع الأخيرة انعقاد أول محادثات أمنية رسمية بين الجانبين منذ أربع سنوات فى محاولة لتحقيق الاستقرار فى العلاقات بينهما. أما كوريا الجنوبية التى عانت من أهوال الاستعمار اليابانى، لم تبد اعتراضا على تحركات اليابان الأخيرة، ورأت أنها مفهومة فى ضوء التهديدات التى تفرضها كوريا الشمالية، كما أعرب الجانبان عن اهتمامهما للتوصل إلى اتفاقية لتبادل المعلومات الاستخباراتية، واتفقا على إجراء مناورات دفاعية صاروخية ثلاثية مع الولايات المتحدة الأمريكية فى وقت لاحق من هذا العام. كما وقعت اليابان أخيرا اتفاقية مع الفلبين تسمح لقوات الدفاع الذاتى اليابانية بالعمل على أراضيها فيما يخص المساعدات الإنسانية وحالات الطوارئ المتعلقة بالكوارث الطبيعية، كما يخطط البلدان لتحديث الاتفاقية لتشمل تدريبا عسكريا مشتركا فى المستقبل. ومن ثمَّ، فإن عودة تسلح اليابان لم تعد تلقى اعتراضا كما ذى قبل.

لكن، هذه الخطة اليابانية الطموحة يقابلها عدد من التحديات، يتمثل أبرزها فى استمرار حاجة اليابان إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عن نفسها ضد أى هجوم محتمل؛ حيث يتطلب أى سيناريو لشن ضربات إلى تنسيق استخباراتى مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقيام الأخيرة بمشاركة مزيد من المعلومات مع طوكيو. ولكن، مازالت الولايات المتحدة الأمريكية تتخوف من تسرب المعلومات التى تتبادلها مع اليابان ولا تثق فى أنظمتها فى مجال الأمن السيبرانى. إلى جانب هذا تتعنت اليابان، بسبب بعض العوائق البيروقراطية، فى مشاركة معلوماتها الحساسة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

علاوة على هذا، سيتعين إعادة النظر فى إنفاق اليابان الذى يبلغ نحو 2 مليار دولار سنويا لدعم الوجود العسكرى الأمريكى فى البلاد، الأمر الذى يعد استمرارا لحقبة زمنية أخرى، ولا يخلق شراكة متساوية بين الجانبين، كما يعرقل خطط اليابان الطموحة لزيادة إنفاقها الدفاعى والاستثمار فى قدراتها العسكرية الجديدة، وتحقيق التطور الاستراتيجى الأهم فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ منذ عقود.. ويبقى أن نرى هل تقوم الولايات المتحدة بضم اليابان إلى حلف «أوكوس» بمشاركة أستراليا والمملكة المتحدة، وإمدادها بغواصات تعمل بالطاقة النووية، الأمر الذى سيكون له حتما انعكاسات كبيرة على المنطقة؟.

وفى سياق متصل، تجدر الإشارة إلى بعض المعوقات التى تواجه صناعة الدفاع اليابانية، والتى يأتى فى أولها اعتماد اليابان إلى حد كبير على الموردين الأجانب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، علما بأن المنتجات الأجنبية ترافقها العديد من القيود، لا سيما المتعلقة بقطع الغيار والصيانة والإصلاح؛ حيث إنه بموجب الاتفاقيات الحالية لا تستطيع اليابان استبدال قطع غيار المعدات التى اشترتها من الخارج ولا يمكنها إجراء إصلاحات طفيفة ما لم يُصرح لها بخلاف ذلك من الدولة أو الشركة الموردة، وفى أوقات الحروب ستكون هذه العملية حتما بطيئة ومرهقة. ثانيا، تعتمد اليابان على القطاع الخاص فى التصنيع الدفاعى، وبالرغم من أن هذا النموذج يشجع على الابتكار ويحول عبء المخاطر بعيدا عن الحكومة، فإن صناعة الدفاع تمثل نسبة صغيرة من إجمالى أعمال الشركات الصناعية الكبرى ونحو 4% فقط من مبيعاتها، كما تشير التقديرات إلى خروج أكثر من 100 شركة من قطاع الدفاع اليابانى، الأمر الذى يهدد بخسارة اليابان لقدراتها الإنتاجية على المدى القصير فضلا عن الخبرة اللازمة لتحقيق النمو على المدى الطويل. ثالثا، وهى نقطة مرتبطة بسابقتها، سيتوقف نجاح اليابان على المدى الطويل على قدرتها على صنع معداتها الخاصة وبيعها للدول الأخرى والتنافس فى سوق الأسلحة العالمية؛ حيث يؤدى زيادة الإنتاج إلى ارتفاع هوامش الربح وضمان استدامة صناعة الدفاع اليابانية. وأخيرا، مازال المجتمع اليابانى الذى تجذرت فيه الثقافة السلمية غير متقبل للشركات المصنعة للأسلحة، ما يخلق ترددا بين هذه الشركات وخوفا من تشويه سمعتها ووصفها بـ«تجار الموت».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل