المحتوى الرئيسى

العالم على صفيح ساخن

02/07 04:01

ما كاد العالم يخرج من أزمة وباء كورونا، حتى اشتعلت بؤر التوتر والصراعات الإقليمية شرقا وغربا. الحرب الروسية ــ الأوكرانية المستعرة منذ مارس 2022 باتت تؤرّق قارة أوروبا التى قضت 77 عاما فى سلام لا يعرف الحروب عابرة الحدود، باستثناء الحرب اليوغوسلافية، والتى نشبت داخل الحدود التاريخية لدولة واحدة، وكذا الصراع الروسى ــ الأوكرانى عام 2014 والذى لم يصل أبدا إلى حد الاجتياح العسكرى وإلهاب القارة العجوز بحالة الاستنفار الأمنى والعسكرى، وخلق أزمات عنيفة فى الطاقة والغذاء واللاجئين، كما يحدث الآن.

من ناحية أخرى هناك الأزمة القديمة المتجددة التى تدور رحاها بين الصين وتايوان، فى رغبة من الأخيرة لتحقيق مزيد من الاستقلال، وإصرار الصين على مبدأ الدولة الموحّدة الذى تضعه شرطا فى علاقاتها الخارجية واتفاقاتها الاقتصادية. 

كذلك يعد التصعيد الإسرائيلى مع إيران بضربها من الداخل الإيرانى والإفصاح عن ذلك دون تردد، أمرا مقلقا سيما بعد إعلان إيران عن حقها فى الرد من خلال حلفاء لها فى المنطقة، فى إشارة واضحة إلى أذرع شيعية لا تملك صفة الدول بل هى فى الواقع ميليشيات. ومنذ أيام ظهرت أزمة المنطاد الصينى المحلّق فوق الولايات المتحدة، والمخترق لمجالها الجوى ليصب مزيدا من التوتر على العلاقات البينية. أضف إلى كل ذلك الصراع الكامن بين الكوريتين، والاستقطاب الشرقى والغربى الملازم له. ولا يمكن إغفال تلك النبرة الجديدة التى بدأت تتردد فى اليابان وألمانيا بالحديث عن رفع مستوى التسليح وتعبئة الجيوش، وهما الدولتان اللتان خرجتا من الحرب العالمية الثانية بأكبر هزيمة وأكثر قيود مذلة على الصعيد العسكرى. 

الولايات المتحدة بإدارتها الحالية، التى أحسبها من أضعف الإدارات التى حكمت تلك الدولة العظمى، التى تمارس دور شرطى العالم الجديد، تظل رقما صحيحا فى كل معادلات الصراعات والتوترات المشار إليها آنفا، إما بإثارتها للأزمات أو بالتغافل عن التدخل بأدواتها المتنوعة لوأد الفتن. الحرب فى أوكرانيا تعكس تلك الحقيقة، فلولا إصرار حلف «الناتو» ممثلا فى زعامته الأمريكية على ضم أوكرانيا إلى قائمة أعضائه، لما وجدت روسيا مبررا للغزو وإشعال الحرب. ولم تغب الدبلوماسية الأمريكية عن مشهد الصراع الصينى ــ التايوانى، خاصة مع إصرار نائبة الرئيس الأمريكى على زيارة تايوان لاستفزاز الجانب الصينى. أما صراعات الشرق الأوسط كلها فلا تزال رهنا بالتحرك الأمريكى الذى يتعامل مع إسرائيل باعتبارها ولاية أمريكية، والذى لم تمحَ بصماته الاستخباراتية عن تشكيل الميليشيات المتطرفة المسيطرة على بعض الدول، وما كانت لتسيطر لولا الفراغ الذى عمدت سياسة الفوضى الخلّاقة على زرعه فى كثير من دول المنطقة.

من وجهة نظرى فإن اشتعال تلك الصراعات فى وقت واحد لا يعدو أن يكون سوى نتيجة طبيعية لسياسة التراجع عن مسار العولمة deglobalization التى وضعت إدارة «ترامب» لبناتها الأولى عندما شرعت فى تقييد حركة التجارة بوضع رسوم على استيراد الحديد والألومنيوم، وتقييد حركة الهجرة من الجنوب، التى توفّر عمالة رخيصة تساعد على زيادة المعروض السلعى، فضلا عن النكوص عن الالتزامات تجاه تغيّر المناخ وبخاصة معاهدة باريس، وما استتبع ذلك كله من فراغ اعتادت السياسة الأمريكية على خلقه فى مناطق الثروات النفطية، لكنها بدأت منذ سنوات قليلة تمارسه على مساحة أكبر من العالم.

كان من الطبيعى أن تستغل مختلف الدول ذلك الفراغ بمحاولة تخطّى الكثير من الخطوط الحمراء التى ظلت مفروضة عليها لعقود. ليست روسيا وحدها التى تخطت تلك الخطوط، الصين من قبلها أطلقت مشروع الحزام ــ الطريق للسيطرة على حركة التجارة العالمية، والتى من المعروف أن من يسيطر عليها تاريخيا هو من يحكم العالم. ولم تكن اليابان أو ألمانيا لتقدمان على أى عمل من شأنه إطلاق إشارات تهديد عسكرى من أى نوع، لو أن شروط الحلفاء التى فرضت على العالم منذ استسلام اليابان فى الحرب الكبرى، ظلت معتبرة. لكن حلفاء الأمس الكبار هم أعداء اليوم. فالولايات المتحدة وأوروبا الغربية فى جانب، والصين وروسيا (وريث الاتحاد السوفييتى الشرعى) فى جانب آخر وربما جانبين!. والأعضاء الدائمون فى مجلس الأمن صارت خلافاتهم عبئا كبيرا على منظومة عمل تلك الآلية الأممية، ويحتمل أن يؤذّن ذلك بنهاية الأمم المتحدة فعليا، كما انتهت من قبلها عصبة الأمم. 

يتفق رأيى هذا مع ما ذهب إليه صاحب كتاب «روح القوانين» الفيلسوف والسياسى الفرنسى «مونتسكيو»، الذى أكّد منذ القرن الثامن عشر على أن غياب التجارة بين الدول يساعد على تأجج الصراعات والحروب. كانت كلمة الرئيس الأمريكى الأسبق «أوباما» مخاطبا الشباب الإنجليزى بضرورة التصويت لصالح بقاء المملكة المتحدة فى الاتحاد الأوروبى، كاشفة عن حالة القلق، التى تراود الديمقراطيين ومعارضى تيار الشعبوية المتصاعد غربا، من تفسّخ أوروبا وضياع ثمار أطول فترة سلام عرفها العالم الحديث. لكن الإنجليز قرروا الخروج من الاتحاد الأوروبى فى 31 يناير عام 2020 غير عابئين لمناشدة «أوباما» لهم، التى اعتبرها الكثيرون تدخلا فى شأن بريطانى خالص. لا أعرف لماذا أستدعى هذا الخطاب من ذاكرتى مصاحبا لخطاب الرئيس المصرى الأسبق «مبارك» وهو ينادى الرئيس العراقى «صدام حسين» بالتراجع عن غزو الكويت قبل فوات الأوان، وقبل اندلاع معركة عاصفة الصحراء التى غيرت شكل المنطقة والعالم إلى الأبد. ربما لأن كلا الخطابين جاءا عند لحظة تاريخية فارقة، وقبل حدثين عظيمين فى تاريخ البشر.

الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى، والانكفاء الأمريكى المتزايد حول الذات، والتمدد الصينى بإطلاق مشروع الطريق والحزام، وجائحة كورونا التى جاءت (ربما ليس مصادفة!) معززة للإغلاق وتقييد التجارة وحركة الأفراد ورءوس الأموال.. كلها مظاهر مختلفة لعالم جديد فى حالة سيولة، يتكوّن على أنقاض نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا كان البعض يرى فى تلك الأحداث إرهاصات مخيفة لحرب عالمية ثالثة تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، فكاتب هذه السطور يختلف مع ذلك الرأى، ويرى أن الشعوب التى تشهد مستويات للفقر ومعدلات تضخم غير مسبوقة، وتختبر اليوم أكثر الظروف الاقتصادية صعوبة منذ عقود بسبب اضطراب سلاسل الإمداد وتداعيات الحرب فى أوروبا وآثار الشلل الاقتصادى للجائحة... هذه الشعوب التى كانت أصواتها سببا فى تمكين اليمين واليسار المتطرف، الداعى إلى العزلة والتراجع عن مسار العولمة، ظنا منها بأن الحلول الاقتصادية الناجعة لن تكون إلا على أساس فردى لكل دولة على حدة، قد عاينت بنفسها الآثار السلبية لتلك الحالة الشعبوية الانفصالية، وشهدت مقدمات خطيرة على بدائل مخيفة لصور التكامل الاقتصادى القائمة، والتى منها تهديدات بالحروب الشاملة والصراعات المدمرة، وليس من المنطقى أن يظل رهانها على أولئك المغامرين لتحقيق الأمن الاقتصادى. 

أهم أخبار كورونا

Comments

عاجل