المحتوى الرئيسى

عندما أراد موسولينى أن يحكم شمال أفريقيا من بورسعيد

01/27 20:04

تقف مدينة بورسعيد شاهدة على لحظات مهمّة من تاريخنا منذ إنشائها فى العام 1859، فقد ارتبطت المدينة بمشروع قناة السويس التى شهدت بورسعيد حفل افتتاحها الأسطورى فى العام 1869، وهى المدينة التى تصدّى أهلها لعدوان فرنسا وإنجلترا وإسرائيل على مصر فى العام 1956 عندما قرر الرئيس جمال عبدالناصر تأميم شركة قناة السويس. واستطاعت مقاومة أهالى بورسعيد إيقاف تقدّم القوات الغازية، مفسحةً المجال لتحرك سياسى مصرى تُوّج بانسحاب القوات المعتدية. ودفعت المدينة ثمنا باهظا بعد هزيمة يونيو 1967، واضطر أهلها إلى النزوح عنها حتى عادوا بعد انتصار أكتوبر 1973 وإعادة افتتاح قناة السويس فى العام 1975. لكن إذا كنا نحفظ هذا التاريخ للمدينة الباسلة عن ظهر القلب، فإن زيارة مدينة بورسعيد تكشف عن حقب تاريخية أخرى ترويها مبانٍ فى المدينة تتجاوز تاريخنا الوطنى، وربما لا يعلم العديد منا عنها الكثير.

المدينة تضم مقابر الكومنولث التى تحوى أكثر من 1000 مقبرة لجنود من 12 جنسية وديانة مختلفتين، شارك معظمهم فى الحربين العالميتين الأولى والثانية. وكانت بورسعيد مركزا طبيا مهمّا خلال الحرب العالمية الأولى. فقد استقبلت المدينة جرحى من حملة جاليبولى الشهيرة، التى سعت خلالها القوات الإنجليزية، وحلفاؤها من القوات الفرنسية والهندية والنيوزيلندية والأسترالية والكندية، غزو تركيا عن طريق شبه جزيرة جاليبولى على مضيق الدردنيل فى العام 1915، وتصدّت لها القوات العثمانية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. انتهت معارك تلك الحملة بانتصار القوات العثمانية، ليسطع بعد هذا الانتصار اسم كمال أتاتورك كبطل قومى. ويعتبر الأتراك معركة جاليبولى بداية حرب الاستقلال التى قادها أتاتورك وانتهت فى العام 1923 بتأسيس الجمهورية التركية، التى تولّى أتاتورك نفسه رئاستها. وهى جزء أساسى من قصة بناء الجمهورية طبقا للتاريخ التركى.

تروى لنا مبانى بورسعيد أيضا قصة صعود الفاشية فى أوروبا ونهايتها. فقد لعبت المدينة دورا مهمّا فى خطط بنيتو موسولينى، مؤسس الفاشية، الذى شغل منصب رئيس وزراء إيطاليا منذ العام 1922 وحتى العام 1943، من أجل إعادة إحياء الإمبراطورية الرومانية. ولد موسولينى فى العام 1883 فى مدينة صغيرة فى شمال وسط إيطاليا. بدأ نشاطه السياسى منخرطا فى التنظيمات الاشتراكية، وترأّس تحرير الجريدة الاشتراكية أفانتى، التى تعنى بالعربية «إلى الأمام». شارك موسولينى فى الحرب العالمية الأولى، وغيرت تلك التجربة أفكاره. فعاد إلى إيطاليا وقد تخلّى عن أفكاره الاشتراكية القائمة على مبدأ الصراع بين الطبقات الاجتماعية، ليؤسس الحركة الفاشية التى ترى أن على جميع طبقات المجتمع الاتحاد لتنفيذ مصالح الأمة. ازداد نفوذ الحركة الفاشية حتى وصل موسولينى إلى رئاسة الحكومة فى العام 1922. استغل هذا الأخير منصبه السياسى لاستبعاد معارضيه كافة، وتدعيم سلطة حزبه الفاشى فى السيطرة على مؤسسات الدولة الإيطالية. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، انضم موسولينى إلى هتلر ظنّا منه أنه يستطيع استغلال تلك الحرب لتحقيق أحلامه باستعادة التاريخ الإمبراطورى لإيطاليا.

سعى موسولينى إلى إعادة إحياء الإمبراطورية الرومانية من خلال العمل العسكرى المباشر، كما كان الحال فى ليبيا وإثيوبيا، أما فى الدول التى لم يكن لإيطاليا وجود عسكرى فيها، فسعى موسولينى إلى نشر الأفكار الفاشية وسط الجاليات الإيطالية فيها، كما كان الحال فى مصر. وقد كان عدد الجالية الإيطالية فى مدينة بورسعيد وحدها يصل إلى 30 ألفا، وهو ما يُعَدّ رقما كبيرا مقارنةً بالجاليات الأجنبية الأخرى، حيث لم يتجاوز عدد الجالية الفرنسية على سبيل المثال 14 ألفا. خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، ولاسيما بعد العام 1933، أصبحت الجالية الإيطالية فى مصر مجالا خصبا يثبّت من خلاله النظام الفاشى أقدامه سياسيا فى مصر من دون تدخل عسكرى مباشر. وفى إطار تلك الاستراتيجية، قام نظام موسولينى بتشييد مبنى ضخم فى بورسعيد ليكون مركزا للجالية الإيطالية فى المدينة، وأسماه بيت إيطاليا. بنى المهندس الإيطالى الشهير كليمنتى بوسيرى فيشى المبنى فى العام 1936. وقد شُيّد بناء بيت إيطاليا ليكون مركزا ثقافيا للجالية الإيطالية فى بورسعيد، يستطيع من خلاله النظام الفاشى الإيطالى نشر أفكاره. وأصبح المبنى مكانا لتجمّع الجالية الإيطالية فى المدينة، حيث احتوى على مسرح ومكان للألعاب والترفيه. واستقبل مسرح بيت إيطاليا العروض الفنية والموسيقية، كما ضمّ قاعات وغرفا استُخدِمَت لمعارض الفنون والصور.

ويحتوى المبنى على لوحة حجرية ضخمة بطول المبنى جاء فيها: «فى هذا المنزل الإيطالى، الذى تم بناؤه بالاعتماد على الحب والإيمان بالوطن الذى يحيا ويدوم مع عمل المؤسسات الإيطالية، فى ظل درع عائلة سافوى (وهى العائلة التى وحّدت إيطاليا وحكمتها حتى إعلان الجمهورية الإيطالية)، والفاشية (التى تعنى حزمة من الصولجانات كانت تُحمَل أمام الحكام فى روما القديمة دليلا على سلطاتهم، وأخذ منها موسولينى اسم الحركة الفاشية)، روح الوطن الألفية، وثقافة لغة دانتى (فى إشارة إلى دانتى أليجييرى، الكاتب الإيطالى الشهير ومؤلف الكوميديا الإلهية)، وتقاليد الانتصار الثلاثى (فى إشارة إلى انتصار إيطاليا خلال الحرب العالمية الأولى فى البر والبحر والجو)، وقوة روما المحركة لتصبح إمبراطورية مرة أخرى». وتنتهى اللوحة بتوقيع «بنيتو موسولينى مؤسس الإمبراطورية».

يُعتقَد أن المبنى أُنشِئ فى البداية ليكون مقرّ الحاكم الإيطالى لمنطقة شمال أفريقيا فى حال انتصرت قوات المحور على قوات الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، بسبب موقعه المتميز المطلّ على البحر المتوسط وقناة السويس، إلا أن مجرى الحرب العالمية الثانية لم يجر كما خطّط له موسولينى. وقد تطور تاريخ المبنى بعد ذلك ليسير فى اتجاه مغاير لما أراده بانيه، إذ استولت بريطانيا على المبنى بعد الهزائم التى مُنيَت بها القوات الإيطالية والألمانية خلال الحرب. وفى ستينيات القرن الماضى، تحوّل الجانب الأيمن للمبنى إلى المكتبة الأمريكية، فى حين أصبح الجانب الأيسر سينما رويال، قبل إغلاقه مرة أخرى بعد هزيمة يونيو 1967. عاد الحديث عن إعادة افتتاح المبنى خلال الثمانينيات لكن سرعان ما توقف الأمر. وشهدت السنوات الأخيرة مبادرات عدة طالبت بإعادة فتح بيت إيطاليا ليكون مركزا ثقافيا، غير أن شبح موسولينى وأحلامه الفاشية التى يحملها اللوح الحجرى الضخم على واجهة بيت إيطاليا بقيا عائقا أمام قرار الحكومات الإيطالية المتعاقبة بإعادة فتحه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل