المحتوى الرئيسى

الشتاء الأوروبى الصعب والفرص الاقتصادية الممكنة

09/26 02:29

فى حكم المؤكد أن يكون الشتاء القادم واحدا من أصعب الفصول التى ستمر على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، إن لم يكن أصعبها على الإطلاق، فالحرب الأوكرانية الروسية كانت كفيلة طوال الشهور الماضية بصياغة معادلات سياسية جديدة قلبت الأوضاع رأسا على عقب، وأفرزت حالة جديدة من الصراع يبدو أن أوروبا ستكون فيها أكثر من سيدفع الثمن.

المرحلة الأخيرة من العمليات العسكرية فى أوكرانيا تدل على أن الصراع مرشح للتواصل والتصعيد، ولا سيما أن الطرف الأوكرانى بات هو الواجهة التى تقاتل من خلفها الولايات المتحدة وحلف الناتو، وما التحول الأخير فى مسار الحرب ونجاح أوكرانيا فى شن هجوم مضاد ناجح على القوات الروسية والحليفة لها فى الشرق والشمال إلا نتيجة مباشرة لإمدادات السلاح الغربى لأوكرانيا والتى تتدفق بغزارة عليها منذ بداية الحرب.

ولا تقتصر أسباب النجاح على السلاح وحسب، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى معسكرات التدريب القائمة فى جميع دول الناتو المحيطة، والتى يتواجد بها آلاف الخبراء والمستشارين والمدربين العسكريين، فضلا عن القادة والمخططين وعناصر أجهزة المخابرات الذين تم توظيفهم لخدمة المجهود الحربى الأوكرانى فى مراكز القيادة والسيطرة، مدعومين بصور الأقمار الصناعية والرصد والمعلومات، وبكل ما يلزم لإحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر للقوات الروسية وإفشال عمليتها العسكرية فى أوكرانيا.

وليس بعيدا عن ميادين المعارك، يدور صراع لا يقل ضراوة فى مجال مصادر الطاقة، حيث تحاول أوروبا جاهدة الاستغناء عن الغاز والنفط الروسى، ومن جهتها تسعى روسيا لتعظيم استخدامها لسلاح صادرات الغاز والنفط فى صراعها مع الغرب.

ألمانيا وهى أكبر مستورد أوروبى للغاز الروسى، سارعت باتخاذ خطوات لاحتواء الأزمة، فمددت عمل محطتين نوويتين كمصدر احتياطى للطاقة، ورصدت مخصصات كبيرة لدعم الطاقة الشمسية، وتبعتها العديد من الدول الأوروبية، والنرويج ثانى أكبر مورد للغاز فى أوروبا تسعى لزيادة إنتاجها وصادراتها لتعويض الغاز الروسى، وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا تتطلع لتغطية جزء من احتياجاتها من ليبيا والجزائر، ومؤخرا تم توقيع اتفاقية مع نيجيريا لمد خط للغاز إلى شمال إفريقيا، وتم تخفيف العديد من القيود على إيران وفنزويلا لإتاحة المزيد من النفط والغاز إلى السوق العالمى، كما تم الاتفاق مع الحكومة القطرية على التوجه لبناء ناقلات عملاقة للغاز الطبيعى فى كوريا الشمالية واليابان.

التأمل فى هذه الجهود المحمومة يبين أن العديد من المشروعات المقررة لا يتوقع أن تظهر آثارها الإيجابية إلا بعد اكتمال بنائها وتشغيلها بعد عدة سنوات فى المدى المتوسط، بينما البقية الباقية من تلك المشروعات ستغطى جزءا محدودا من الاحتياجات الأوروبية من الطاقة فى المدى القصير، بالتوازى مع إجراءات ترشيد الطاقة التى فرضتها كافة الحكومات الأوروبية.

وفى ذات الإطار اقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية تحديد سقف لأسعار الواردات الأوروبية من النفط والغاز الروسى، ثم جاء مؤخرا قرار الحكومة الألمانية بالاستحواذ على الأصول التابعة لشركة النفط الروسية العملاقة (روسنفط) فى ألمانيا، وحصصها فى 3 مصافى نفطية فى شفيدت، وكارلسروه، وفوبورج، وكان قد سبق للحكومة الألمانية الاستحواذ على أصول شركة (جازبروم جيرمانيا) فى وقت سابق بدعوى حماية وتأمين إمدادات الطاقة فى البلاد.

على أثر هذا التصعيد المتوالى ضد روسيا عسكريا وسياسيا واقتصاديا، أعلنت شركة جازبروم قبل يوم واحد من موعد استئناف تدفقات الغاز الروسى عبر خط نورد ستريم 1 أن الخط سيخضع لمزيد من أعمال الصيانة، وهو ما يعنى عمليا تقليل العرض وزيادة الضغط على سوق الطاقة، فارتفعت أسعار الغاز الأوروبى بأكثر من 30%، وباتت أوروبا فى مواجهة معضلة معقدة، يتوقع الاقتصاديون بموجبها ارتفاع قيمة فواتير الطاقة الأوروبية بمقدار 2 تريليون يورو فى مطلع العام القادم.

والانعكاسات المباشرة لما يحدث فى سوق الغاز الأوروبى، حدثت على شكل زيادة غير مسبوقة فى أسعار الكهرباء التى وصلت إلى مستويات قياسية، على اعتبار أن الغاز الطبيعى يعد المصدر الأساسى لتوليد الكهرباء، فوصلت تكلفة استهلاك الكهرباء إلى ما يجاوز الألف يورو لكل ميجاوات ساعة، بينما وصلت تلك التكلفة فى فرنسا إلى 1130 يورو، والأمر ذاته فى معظم دول أوروبا التى تعانى شعوبها فى الوقت الراهن من التكلفة العالية لفاتورة الكهرباء، والشتاء الأوروبى القارس لم يبدأ بعد، ولم تبدأ بعد متطلباته من الإضاءة والتدفئة التى تستهلك المزيد من الكهرباء والغاز.

الوضع الصعب القائم حاليا تعانى منه المنشآت والشركات الصناعية الأوروبية التى تضاعفت فاتورة استهلاكها من الطاقة، وانعكس ذلك على تكاليف الإنتاج التى زادت بالتبعية، مهددة المراكز التنافسية لمنتجات هذه الشركات، والتى باتت أسعارها شديدة الارتفاع مقارنة بالمنتجات الصينية والآسيوية المنافسة، الأمر الذى يضعها فى مواجهة صعبة فى الأسواق العالمية، وقد تخسر الشركات الأوروبية أسواقها إذا استمرت أسعار الطاقة ومستويات التضخم على هذا النحو، ومع خسارة أسواق التصدير سيتبع ذلك انخفاض إيرادات تلك الشركات وإنهيار قيمة أسهمها فى البورصات، الأمر الذى يضع الاقتصادات الأوروبية فى وضع متأزم شديد التعقيد.

اليوم وقد بات الشتاء الأوروبى وشيكا يتساءل الكثيرون هل تنجح أوروبا وضمنها أكثر من ثلاثين دولة فى تفادى الكارثة وتقليل آثار الأزمة الراهنة واحتواء تداعياتها؟ وهل يمكن أن يستفيد الاقتصاد المصرى من الأوضاع الاقتصادية الراهنة وبما تتحقق معه منافع متبادلة للطرفين؟

الإجابة عن هذا السؤال تكمن فى نجاح مصر فى التحرك على ثلاثة محاور رئيسية، المحور الأول قطاع الغاز الطبيعى والاستفادة القصوى من موارد مصر وإمكاناتها الإنتاجية والتصديرية منه، وقد نجحت الدولة المصرية نجاحا باهرا وباتت مصر فاعلا رئيسيا فى هذا المجال من خلال منتدى شرق المتوسط للغاز، ولا سيما مع كون مصر الدولة الوحيدة فى شرق المتوسط التى تمتلك محطات لتسييل الغاز تدعمها بنية أساسية قوية، فباتت مصر هى الدولة العربية الأسرع نموا فى معدلات تصدير الغاز الطبيعى المسال، والذى يتوقع وصول إيراداته إلى 9 مليارات دولار بنهاية 2022.

أما المحور الثانى فهو القطاع الصناعى، بالعمل على اجتذاب أكبر عدد من المنشآت والوحدات الصناعية الأوروبية للتوطن الصناعى والتشغيل فى مصر، فى المناطق الاقتصادية والمناطق الحرة الصناعية، اعتمادا على المزايا الضريبية والجمركية، وتكلفة الأيدى العاملة الماهرة المناسبة، واعتمادا على ما يتوافر لدينا من فائض من الغاز والطاقة الكهربائية التى يمكن إمداد تلك المصانع بها بانتظام وبالأسعار العالمية، وتجنيبها تداعيات أزمة الطاقة فى أوروبا، والاستفادة من الموانئ البحرية المصرية وقرب المسافة إلى أوروبا وأسواق المنطقة العربية فى تصدير إنتاجها إليها بتكاليف نقل منخفضة.

المحور الثالث هو القطاع السياحى، وهى فرصة كبرى لتعويض السياحة المصرية وتعافيها من أزمة كوفيد وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، من خلال اجتذاب مئات الآلاف من الأوروبيين للإقامة فى مصر وتمضية فصل الشتاء فى ربوعها، وإعادة معدلات الإشغال السياحية العالمية إلى الفنادق الكبرى والقرى السياحية، وإمكان استغلال فيلات وشاليهات قرى الساحل الشمالى التى تكون عادة خالية من أصحابها بعد انتهاء فصل الصيف، وتأجيرها للإقامة بأسعار عالمية وبالعملة الأوروبية.

وفى تقديرنا أن اجتذاب أعداد كبيرة من الأوروبيين لقضاء الشتاء فى مصر هو فرصة اقتصادية قد تبدو صعبة لكنها ممكنة، وخاصة أن الأوروبيين يترقبون بقلق قدوم الشتاء وأيامه الطويلة قارسة البرد التى تمتد من أكتوبر حتى إبريل مع احتمال انقطاع الكهرباء وارتفاع تكلفتها إلى مستويات قياسية، وفى ظل تساؤلات عديدة عن قدرة الحكومات الأوروبية على مواجهة واحتواء تلك الأزمة، بحيث قد يجد الكثيرون منهم أن مصر قد تكون ملاذا قريبا وآمنا لهم ولعائلاتهم طوال ذلك الشتاء غير المسبوق.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل