المحتوى الرئيسى

أوهام فن التشخيص

08/14 13:27

قرأت ذات مرة حكاية يرويها الممثل الأمريكى داستين هوفمان. يقول إنه كان يمثل فى شبابه مشهدا مع الممثل الإنجليزى العظيم سير لورانس أوليفييه، فى فيلم بعنوان «رجل الماراثون»، ولأن المشهد كان يتطلب أن يظهر هوفمان مرهقا، لذلك قرر ألا ينام ليومين كاملين، فوصل إلى مكان التصوير فى حالةٍ يرثى لها. عندما عرف أوليفييه ذلك ابتسم، وأفهمه أن المطلوب أن «يبدو» مجهدا، لا أن يكون مجهدا بالفعل، وطلب منه ألا يكرر ما فعله مرة أخرى.

لعل هذه الحكاية تصلح مدخلا للحديث عما أسميه «أوهام فن التشخيص»، التى ساهمت الفضائيات، والبرامج التى تستضيف النجوم والنجمات، فى ترسيخها، سواء عن فهمٍ خاطئ للتشخيص، أو من باب الدعاية. بل لقد صار المفهوم السائد أنه كلما كان الممثل عظيما، اندمج وفقد السيطرة على أدائه، وربما ضرب من يشاركونه المشهد، ويستحسن أن يصيبهم أحيانا برضوض وكدمات!

وقد سمعت ــ أخيرا ــ ممثلا، فى مسلسل رمضانى، يحكى أنه رمى زميلته على الأرض بقوة، بناء على طلبها (وكأنه لا يوجد مخرج)، مما أدى إلى إصابتها بكسور، استلزمت إجراء عملية جراحية!

المصيبة أن هذه الحكايات تُروى للتدليل على حبِ المهنة، وعلى الصدق، والاندماج الهائلين اللذين يكتسحان أمامهما كلَ شىء.

ثم يضيف النجوم أحيانا إلى ذلك أن الشخصيات التى لعبوها، رافقتهم لوقتٍ طويل بعد انتهاء العمل، ولم يستطيعوا التخلص منها، أو صرفها مثل العفاريت، إلا بشق الأنفس!

حسنا، فلنبدد هذه الأوهام، ولنقلْ إن كل ذلك الذى يُروى تحت بند الصدق والاحتراف والمهنية، لا يعد اليوم إلا دليل نقصٍ فى الاحتراف. فلا يعقل أن يؤدى التشخيص إلى كسور وعمليات، أو إلى قتل ممثل يؤدى دور «عطيل»، لممثلة تلعب دور «ديدمونة»!

التشخيص، بل الفن كله، قائمٌ على الإيهام والمحاكاة، والممثل المحترف هو الذى يستغرق وقتا قليلا فى تقمص الشخصية، ووقتا أقل فى الخروج منها.

معنى حكاية هوفمان سالفة الذكر، أن التشخيص ليس هو الواقع، وإنما القدرة على «الإيهام بالواقع»، والمشخصاتى الجيد ليس ذلك الذى يقوم بتجويع نفسه، لكى يبدو جوعان، ولكنه الذى يستطيع استدعاء شعور الجوع من ذاكرته، ثم يترجم بتعبيرات وجهه هذا الشعور، حتى لو كان متخما بالطعام.

ليس معقولا أن يشرب الممثل الخمر بجنون، لكى يظهر فى دور سكِير مترنح؛ لأن مهنته تتطلب السيطرة الكاملة على جسده وتعبيراته، ونجاح مشخصاتى مثل نيكولاس كيدج فى أداء دور السكير فى فيلم «مغادرة لاس فيجاس»، لا يعنى سوى أنه كان فى قمة «الوعى»، وهو يدير حركته كسكير مترنح ومغيب، ولكننا لا نشعر بهذا الوعى، نتيجة حرفة الممثل، التى تصل إلى ذروتها، إذا تم إخفاء الحرفة والصنعة.

وإذا كان لبعض الشخصيات مرجعية فى استدعاء تصرفات وتعبيرات معتادة، فماذا يفعل مشخصاتى مثل أنتونى هوبكنز فى التعبير عن مشاعر آكل لحوم البشر؟ وكيف أوهمنا بسيطرة د. ليكتر على من أمامه دون أن يخرج من سجنه؟

الإجابة هى الخيال، الذى يُلهم الممثل، بتوجيه المخرج بالتأكيد، بكل التفاصيل الكافية لتحقيق «التأثير عبر الإيهام». ولذلك يركِز أستاذ فن التشخيص الكبير لى ستراسبرج فى طريقته على عناصر أربعة أساسية، بدونها سيفشل أداء الممثل. هذه العناصر تتلخص فى:

(4) الذاكرة الانفعالية؛ أى القدرة على استدعاء انفعالات لمواقف قديمة، تقترب من انفعالات المشهد المراد تمثيله.

تلك عناصر حرفة التمثيل، وهى أيضا محور تدريبات فن الممثل، الذى يتطلب وعيا فى إدارة الشخصية، والسيطرة عليها، مع إخفاء هذا الوعى فى الوقت نفسه، ومن هنا جاءت العبارة الشهيرة بأن التمثيل يحتاج إلى «قلب ساخن وعقل بارد».

بدون هذا العقل البارد لن يكون أداءُ الممثل احترافيا، بل ويمكن أن يُدمر الجهاز النفسى والعصبى للممثل، إذا تصور أنه الشخصية كاملة، وإذا لم يستطع أن يصنع خيطا رفيعا، بين إدارة الشخصية، والتعبير عنها.. فما الذى يحدث بالضبط عند التشخيص؟

أعظم إجابة تجدها عند لى ستراسبورج أيضا. يقول: إن «الواقع الشخصى» للممثل يمتزج فى النص «بالواقع الخيالى» (الدرامي)، فيخلق بذلك واقعا جديدا، هو ما نسميه «بالواقع الفنى». معنى ذلك أن التشخيص ليس محوا كاملا لشخصية الممثل، من أجل الشخصية التى يلعبها. هذا المحو مستحيلٌ أصلا، ولكن المعقول هو استخدام وتطوير انفعالات وإمكانيات الإنسان داخل الممثل، وتوظيفها لصالح هذه الشخصية المكتوبة المراد تجسيدها.

أعرف أن هناك ممثلين لا يصلون إلى التقمص المقبول إلا بعواملَ مساعدة حقيقية، وتُروى مثلا حكايات غريبة عن اندماج زكى رستم، فتقول ماجدة إنه كان يغار عليها فعلا خارج التصوير فى فيلم «أين عمرى؟»!

وأحمد زكى نموذج مشهور فى الاندماج، وفى ملازمة الشخصية له لوقتٍ طويل، بعد الانتهاء من تصويرها، لدرجة أن المخرج سمير سيف قال إن ملاحظته الوحيدة على أداء زكى، أثناء تصوير فيلم «معالى الوزير»، كانت تتعلق بتنبيهه دائما، إلى أنه يحرك فكه السفلى، على طريقة أدائه لشخصية السادات، فى الفيلم الشهير.

كل ذلك حدث ويحدث، ولكنه يؤثر على أعصاب الممثل، وعلى حياته، ولا يعتبر اليوم من عناصر احتراف المهنة. التشخيص واقعٌ موازٍ ناتجٌ عن الموهبة والحرفة معا.

التشخيص هو الإيهام باستدعاء الحالة، والتعبير عنها، وليس أن تكون أنت الحالة نفسها.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل