المحتوى الرئيسى

مسافر زاده الخيال.. النيل فى إبداعات الشرق والغرب

08/12 04:33

أشرعته، تحتضن الهواء الذهبى فى لوحات الأوروبيين. ونسيمه معطر بأنفاس الحبيبات فى قصائد الشعراء، أما الفلاحات على ضفافه، فشغفن المستشرقين فى أزمنة الاكتشاف. النيل فيضان إبداع مشبع بالسحر والرهبة، لم يتوقف عن التمدد، وخلق شواطئ جديدة فى طول الأرض وعرضها. ولم يكن نهرنا ولعا مصريا خالصا كما قد يعتقد البعض، فقد ألهم اليونان آلهتها، وتوغلت أسطورته فى وجدان الإمبراطورية الرومانية، كتب له العرب، ومازالت آداب وفنون الشرق والغرب تستعيره، فى القصص والرسم والدراما والموسيقى والنحت والسينما. والأعمال التى تحمل اسمه فوق الحصر.

نبع النيل من الجنة، ومن السماء، والمخيلة الأسطورية، لأنه ليس كمثله نهر. وفاض بسحره فى روافد عديدة. كانت البداية على هذه الأرض التى اصطفاها ليمنحها أعظم حضارة على مر التاريخ. وقد ردت له الجميل، حاملة أسطورته إلى كل مكان.  

"المجد لك يا من تخرج من الأرض، وتأتى لتعيد الحياة." ترنيمة مصرية قديمة للنيل المقدس، وإله فيضانه حابى أو "حعبي"، والذى ظهر على جدران معبد الأقصر، ليس فقط كواهب للحياة، بل، وممسك بوحدة القطر المصري. ومن النيل خرج "سوبك" الإله التمساح، وعلى شاطئه جلس "خنوم" رب الماء، وجالب الحياة، ليصنع البشر من طميه.  

ظهر النهر فى الأدب القديم مقترنا بالحب والعشق. "حبيبى كم يحلو لى أن أستحم فى النهر أمامك. وأن تشاهد جمالي، فى سروالى المصنوع من أرق الكتان الملكي. أنا المعطرة بالطيب، أغوص فى الماء بقربك، لأجل حبك، وأخرج ممسكة بسمكة حمراء بين أصابعي.

يا صديقى ومحبوبى تعال شاهدني". وفى نص آخر يقول الأديب المصرى القديم: "أعشق حبيبتى على الشاطئ الآخر، والنهر يفصل بيننا. المياه تندفع بقوة وقت الفيضان، والتمساح يقف رابضا على الشاطئ الرملي.

لكننى أنزل إلى الماء، وأغوص وسط الأمواج. قلبى قوى فوق النهر. ويبدو لى التمساح مثل فأر. الماء تحت قدمىّ أشبه باليابسة. وحبى لها ما يمنحنى القوة. كأن وجودها قد سحر الماء. ولا أعرف سوى لهفة قلبى وهى تقف أمامي."

ومن المثير أن يمتد تقديس النيل إلى اليونان مبكرا. وقد جعلوه إلها باسم "نيلوس". ووضعوه ضمن أساطيرهم، وفى مكان مكين من شجرة العائلة الإلهية، كابن لـ"أوقيانوس" و"تيثيس"، وسابقا على "زيوس" الذى صار كبير الآلهة.

وجعلوا له زوجة تدعى "يوثنيا" وهى أنثى النيل، وله أبناء وأحفاد. ما يؤكد جذور الإلهام المصرى للحضارة اليونانية. وقد صنعوا له التماثيل، وبعضها مع أبنائه الستة عشر، الذين يمثلون فروعه وقت الفيضان.

«نيلوس» إبداع يونانى مصرى الهوى.. وتماثيل النيل من معابد أوروبا للفاتيكان

وقد ظهرت صورة لتمثال الإله "نيلوس" اليونانى على العملة المصرية فئة الخمسة جنيهات منذ عام 1944. وعلى العموم، حضرت مقدسات مصر فى أوروبا، وخصوصا عبادة إيزيس، باعتبارها الإلهة الكونية الأولى، وبلغ الأمر مداه خلال القرون الميلادية الأولى قبل انتشار المسيحية. ومع عبادة إيزيس وانتشار معابدها انتشرت التماثيل المعبرة عن مصر، ومنها تماثيل "نيلوس" الذى ابتكره اليونانيون، وأخذه عنهم الرومان، وحتى الآن مازال يزين واجهة متحف الفاتيكان.

ملهم العرب من الشعر الجاهلى للقصيدة الحديثة.. وترانيم دينية وأناشيد غزلية على ضفافه

احتفى الشعر العربى بالنيل. وهو اهتمام بدا منذ العصر الجاهلي، ولم ينقطع إلى اليوم. وقد كتب له عديد من الشعراء، منهم صلاح الدين ابن أيبك الصفدي، كما ورد عن زين الدين بن الوردى أبيات شهيرة تقول:

ديار مصر هى الدنيا وساكنها.. هم الأنام فقابلها بتقبيل

يا من يباهى ببغداد ودجلتها.. مصر مقدمة والشرح للنيل

وعنه أيضا قال ابن سلام:

لعمرك ما مصر بمصر وإنما.. هى الجنة العليا لمن يتذكر

وأولادها الولدان من نسل آدم.. وروضتها الفردوس والنيل كوثر

طقوس.. أول حمام عام في الإمبراطورية الرومانية منذ أكثر من 2000 عام

وفى بحث بعنوان "النيل فى الشعر العربى الحديث.. دراسة تأسيسية" للناقد الدكتور مصطفى الضبع، طرح فكرة الامتداد التاريخى والجغرافى لتناول النيل فى القصائد العربية من الأعشى الذى قال "فما نيل مصر إذا تسامى عبابه" وحتى فاروق شوشة، والهادى آدم، وأحمد زكي، أبو شادي، ومحمد أبو دومة ومحمود درويش، وغيرهم العشرات من الشعراء. وقد صدّر بعضهم اسم النهر فى عناوين قصائده ودواوينه.

وهو يتجلى بحضوره وفق مستويات متعددة، أحيانا كمفردة، وأحيانا على مستوى صورة جزئية، أو صورة كلية تشكل القصيدة كلها. كما تم تناول النيل بوصفه شحصا له تاريخه، كأنه إنسان حكيم شاهد على الزمان. وبعض الشعراء يحاوره أو يتوحد معه. وهناك من يمكن تسميتهم بشعراء النيل ومنهم أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وأحمد محرم ومحمود حسن إسماعيل وعبد المنعم عواد يوسف وحسن طلب.

بعض قصائد النيل اكتسب شهرة كبيرة بعد أن غناها كبار المطربين. ومن أشهرها "النهر الخالد" لمحمد عبد الوهاب. والكلمات لمحمود حسن إسماعيل أحد شعراء النيل الكبار. الذى افتتح قصيدته قائلا:

مسافر زاده الخيال.. والسحر والعطر والظلال

ظمآن والكأس فى يديه.. والحب والفن والجمال

كذلك غنى عبد الوهاب "النيل نجاشي" لأحمد شوقي. وغنت أم كلثوم: "شمس الأصيل دهبت فوق النخيل يا نيل.." لأحمد رامى والسنباطي. كما غنت لشوقي: "من أى عهد فى القرى تتدفق".

كما أن العديد من رسامى العالم قد انبهروا بالنيل، وصوروه فى لوحاتهم. منهم الإيطالى "هيرمان ديفيد سالومون" ولوحته الشهيرة عن النيل والأهرامات وقت الغروب. كما يبدو الإنجليزى "إدوارد لير" أحد المسحورين الكبار بالنيل، وهو رسام وكاتب ورحالة، زار مصر أربع مرات خلال القرن التاسع عشر، ورسم العديد من اللوحات عنه. كما رسم الأمريكى "فريدريك أرثر بريدج مان" أيضا لوحات عديدة للنيل، كذلك الأسكتلندى "ديفيد روبرتس"، والبولندى "آدم ستيكا"، والإنجليزى "فريدريك جودال".

وفى مجال الكتابة ظهر النيل فى عناوين عدد كبير من الأعمال الأدبية، ومنها رواية "ابنة النيل" لـ"جلبرت سينويه" ورواية "موت على النيل" لـ"أجاثا كريستي" وروايتها الأخرى "جريمة فى وادى النيل"، كذلك "تعرجات النيل" لـ"روبير سوليه" و"نوترادام النيل" للرواندية "سكولاستيك موكا سونجا" و"أبناء النيل" لمحمد مارمادوك باكتال، وهو كاتب بريطانى مسلم عاش بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وزار الشرق، وترجم معانى القرآن.

وتحكى روايته عن مصر قبيل الاحتلال الإنجليزي. وفى كتابه مصر فى الشعر الإنجليزى فى القرن التاسع عشر تناول الدكتور محمد عنانى قصائد لأربعين شاعرا إنجليزيا، كتبوا عن مصر خلال تلك الفترة، ومنها بالطبع قصائد عن النيل، منها "إلى النيل"، "أعين النيل"، "عن مصر والنيل". وفى السينما نذكر فيلم "أفعى النيل" إنتاج 53، إخراج "وليام كاسل"، ويدور فى إطار ملحمي. كذلك فيلم المغامرات الكوميدى "جوهرة النيل" إنتاج 1985، وغيرهما الكثير مما جرت أحداثه على ضفاف النهر.

بالعودة إلى مصر الحديثة سنجد حضورا طاغيا للنيل فى إبداعات عديدة، منها "باليه النيل" للموسيقار عمر خيرت، الذى صمم رقصاته الدكتور عبد المنعم كامل، وقُدم لأول مرة عام 90.

طبائع السكندريين في مصادر الإمبراطورية الرومانية بمكتبة الإسكندرية

كذلك ألف الموسيقار فتحى الخميسى سيمفونية بعنوان "غضب النيل". وأبدع النحات المصرى الأشهر محمود مختار تمثال "عروس النيل"، وهو لرأس فتاة بملامح مصرية، يبدو عليها الخجل، وتتزين بالحلى الفرعوني. وحمل الفيلم الكوميدى "عروس النيل" الاسم نفسه، وهو من بطولة لبنى عبد العزيز ورشدى أباظة. ورغم كونه فيلما خفيفا، فقد اجتهدت موسيقاه التصويرية لعلى إسماعيل لتعبر عن الروح المصرية، مستخدمة آلة الهارب الفرعونية. وعروس النيل مجرد أسطورة لا تمت للواقع التاريخي، لكنها ليست الوحيدة المتعلقة بالنيل. فهناك أيضا النداهة. التى استلهمها يوسف إدريس فى إحدى قصصه، وتحولت إلى فيلم سينمائي.

ولمحمود مختار تمثال آخر بعنوان "على ضفاف النيل" يصور فلاحة تملأ جرتها. وفى الأدب قدم نجيب محفوظ روايته "ثرثرة فوق النيل". وكانت مياهه محور قصة "شيء من الخوف" لثروت أباظة، التى تحولت إلى الفيلم الشهير من إخراج حسين كمال. وحمل اسمه أيضا عدد من الأفلام منها "ابن النيل"، و"صراع فى النيل".

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل