المحتوى الرئيسى

حرب بوتين على الكنيسة الأرثوذكسية

06/29 21:37

تُلقى الحرب الروسية على أوكرانيا بظلالها على الكنائس الأرثوذكسية حول العالم، التى باتت تجد نفسها فى موقف صعب فى ظلّ هذه الحرب التى استعانت فيها روسيا بالكنيسة الروسية لدعم هجومها على جارتها الأرثوذكسية. وبالرغم من سَعى الرئيس الروسى إلى تقديم نفسه دوما على أنه الابن البار للكنيسة الروسية، أدّى قراره بالحرب على أوكرانيا إلى انشقاقات عميقة داخل الكنيسة الأرثوذكسية بفروعها المختلفة حول العالم، بل وحتى داخل روسيا نفسها.

وتُعَدّ الكنيسة الأرثوذكسية ثانى كنيسة مسيحية على مستوى العالم بعد الكنيسة الكاثوليكية، حيث تضمّ ما يقرب من 260 مليون مسيحى أرثوذكسى حول العالم، طبقا لتقرير أصدره مركز «بيو» عام 2017. يعيش نحو 40 فى المائة من هذا العدد فى روسيا، بما يقرب من 100 مليون مسيحى أرثوذكسى. وتلى روسيا أوكرانيا، التى يبلغ عدد المسيحيين الأرثوذكس فيها نحو 35 مليونا. وتتساوى إثيوبيا فى هذا العدد مع أوكرانيا، وتليهما فى الترتيب رومانيا التى يعيش فيها 19 مليون مسيحى أرثوذكسى، ثم اليونان بنحو 10 ملايين. أما فى المنطقة العربية، فالكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية هى الكنيسة الأكبر فى الشرق الأوسط؛ كما إن لبنان وسوريا يضمّان طوائف أرثوذكسية، ولكن بأعداد أقل. عموما، تُعَدّ أوروبا الشرقية والوسطى القاعدة الرئيسة للمسيحيين الأرثوذكس، إذ يعيش فيها نحو 75 فى المائة من المسيحيين الأرثوذكس فى العالم.

أما على مستوى العلاقة بين الكنائس الأرثوذكسية المختلفة، فلا تعرف هذه الكنائس سلطة واحدة هرمية كما هو حال الكنيسة الكاثوليكية، بل إنها منظّمة فى شكل مجموعة من الكنائس المستقلّة التى يدير كلٌّ منها أساقفتها ومجامعها الدينية الخاصة بها. ويحمل الكثير من قيادات هذه الكنائس لقب البطريرك، كما هو حال البابا تواضروس الثانى، بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مصر. غير أن بطريرك القسطنطينية، ومقرّه فى مدينة إسطنبول التركية، يُشار إليه بوصفه «الأول بين المتساوين»، وذلك لما لكنيسة القسطنطينية من ثقل روحى وتاريخى بين المسيحيين الأرثوذكس حول العالم، وخاصة فى شرق وجنوب شرق أوروبا. يترأس كنيسة القسطنطينية اليوم البطريرك بارثولوميو الأول. وعلى الرغم من أنه لا يمارس السلطة الدينية الواسعة التى يتمتّع بها بابا الفاتيكان فى الكنيسة الكاثوليكية، يعتبره أتباعه الرمز الدينى الأرفع فى العالم الأرثوذكسى. يعود الدور الدينى لكنيسة القسطنطينية إلى عصر الإمبراطور قسطنطين، الذى جعل المسيحية فى القرن الرابع الميلادى الديانة الرسمية للإمبراطورية البيزنطية وبالتالى لعاصمتها، القسطنطينية. وقد ظلّت القسطنطينية إلى اليوم المقرّ التاريخى للأرثوذكسية على الرغم من سقوطها فى أيدى العثمانيين فى العام 1453، وتغيير اسمها من القسطنطينية إلى إسطنبول.

سعت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية من جانبها دوما إلى توسيع دائرة نفوذها داخل العالم الأرثوذكسى فى مواجهة كنيسة القسطنطينية، وذلك استنادا إلى كونها الكنيسة الأكبر حجما، وكذلك لدورها التاريخى فى إطار الإمبراطورية الروسية. إلا أن الحرب الروسية الأخيرة على أوكرانيا أضرّت بطموح الكنيسة الروسية، بل وقد تكون قضت عليه تماما.

فقد أدّت هذه الحرب بالكنيسة الروسية إلى خسارة كل نفوذ لها داخل الكنيسة الأوكرانية، وحتى داخل الأوساط الدينية الأوكرانية التى كانت تدين لها بالولاء قبل بداية الحرب. وتضمّ أوكرانيا كنيستين أرثوذوكسيتين: الأولى هى الكنيسة الأرثوذكسية المستقلّة فى أوكرانيا، والثانية هى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، وهى التى تتبع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. يعود تاريخ هذا الانقسام بين الكنيستين الأوكرانيتين إلى العام 2019. فبعض رموز الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية كانت طالبت كنيسة القسطنطينية بمنحها الاستقلال عن الكنيسة الروسية لسنوات، قبل أن تعلن كنيسة القسطنطينية منذ نحو ثلاثة أعوام اعترافها الرسمى بالكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية ككنيسة مستقلّة. هذا الأمر أثار غضب الكنيسة الروسية التى ردّت عليه آنذاك بقطع علاقاتها بكنيسة القسطنطينية.

بيد أن الحرب الروسية على أوكرانيا وضعت الكنيسة الأوكرانية الموالية للكنيسة الروسية فى موقف صعب، إذ وجدت نفسها فى مواجهة حرب على شعبها بمباركة كنيستها فى موسكو. ففى غضون ساعات من الضربات الصاروخية الأولى فى 24 فبراير، ناشدت الكنيسة الأوكرانية بوتين بضرورة وقف هذه الحرب «التى تقتل بين الأشقّاء»، مضيفةً أن «مثل هذه الحرب ليس لها ما يبررها، لا عند الله ولا عند الإنسان». لكن هذه الدعوة لم تجد لها آذانا صاغية فى موسكو. فتطوّر الأمر خلال الشهور التالية لتعلن الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية أنها قطعت علاقتها بالكنيسة الروسية بسبب حربها على أوكرانيا، معلنةً «الاستقلال الكامل» فى تحرّك تاريخى ضدّ السلطات الروحية الروسية. هذه الخطوة تشكّل خسارة فادحة للكنيسة الروسية إذا ما عرفنا أن ثلث أبرشيات الكنيسة الروسية يقع فى أوكرانيا. والأبرشية تشير إلى الوحدة الجغرافية التى يتولّى رعايتها أسقف.

لم يتوقّف الأمر عند حدود أوكرانيا، بل انتقد أساقفة الكنيسة الروسية فى إستونيا وليتوانيا موقف الكنيسة من الحرب الروسية، لينضمّوا بذلك إلى قيادات دينية مسيحية أخرى مثل بابا الفاتيكان ورئيس أساقفة كانتربرى. وحتى داخل روسيا نفسها، نشرت مجموعة من رجال الدين الأرثوذكس والكهنة الروس رسالة مفتوحة تدعو إلى إنهاء الحرب. وجاء فى الرسالة: «نحن، كهنة وشمامسة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ندعو بالأصالة عن أنفسنا إلى ضرورة إنهاء الحرب بين الأشقّاء فى أوكرانيا، وندعو إلى المصالحة ووقف فورى لإطلاق النار«. وقد وقّع على هذا الخطاب 286 من الكهنة والشمامسة.

لا نبالغ إن قلنا إن الكنيسة الروسية هى الخاسر الأكبر من الحرب الروسية على أوكرانيا حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها، وبصرف النظر عن النتيجة النهائية للعمليات العسكرية، سواء انتصرت روسيا فى تلك الحرب أم خسرت. لقد انهارت المكانة الروحية للكنيسة الروسية فى العالم الأرثوذكسى خارج روسيا، بل وحتى وسط أتباعها داخلها. فملايين المسيحيين الأرثوذكس حول العالم يتساءلون اليوم عن السبب الذى يدفع الكنيسة الروسية إلى إعلان دعمها لحربٍ يقتل فيها المسيحيون بعضهم بعضا. أما الطموح الذى لطالما راود قيادات موسكو الدينية فى أن تتولّى هذه الأخيرة قيادة العالم الأرثوذكسى بدلا من كنيسة القسطنطينية، فيبدو أن المغامرة الروسية فى أوكرانيا قد وضعت نهاية له.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل