المحتوى الرئيسى

خواطر من رحم أزمات الحرب

05/16 21:34

عند بداية اشتعال أزمة الحرب الأوكرانية ــ الروسية سألنى بعض المتابعين الكرام على مواقع التواصل الاجتماعى، عن رأيى فى مدى قدرة روسيا على تقويض الاقتصاد الأمريكى! السؤال نفسه كان غريبا ذكرنى بأسئلة حالمة لطالما رددها الكثيرون فى الدول العربية عن سيناريوهات تأديب القوات العراقية بقيادة صدام حسين للقوات الأمريكية المعتدية حينذاك. أسئلة بعضها من بعض أحيانا يكون من العبث محاولة الإجابة عنه إجابة جادة.

روسيا لن تؤثر فى قوة الاقتصاد الأمريكى ولا فى الدولار الأمريكى ولن تصنع نظاما عالميا جديدا، لسبب بسيط وهو أن اقتصادها مازال صغيرا، أصغر من حجم اقتصاد ولاية تكساس الأمريكية. ولا يعول على تراجع الدولار أمام الروبل أخيرا، لأن السيطرة على العملة الصعبة فى روسيا تخضع لنظام سيطرة كاملة من قبل المركزى الروسى، وليست متروكة لقوى العرض والطلب. كيف تعافى الروبل الروسى إذن رغم كل الظروف؟! يرى كثير من المراقبين أن روسيا تصنع وهم قوة العملة فيما يعرف بعملة بوتمكن Potemkin نسبة إلى «جريجورى بوتمكن» الذى حكم القرم عام ١٧٨٤ وصنع عملة قوية شكلا لكن لا أحد يريد أن يقتنيها. أسباب تعافى الروبل كلها مصطنعة بفعل التدخل الحكومى المحفوف بالمخاطر، ويمكن فيما يلى أن نرصد نوعين من أسباب التعافى المصطنع للروبل:

أولا: ثقوب فى جدار العقوبات على روسيا والتى تمثلت أساسا فى استثناء منتجات النفط وخاصة الغاز الطبيعى (منتج التصدير الأهم لروسيا) من حظر الاستيراد سواء من قبل الغرب الرافض أو دولتى الشرق الكبريين الصين والهند… كذلك استثناء حظر روسيا من الاستفادة من أرصدة احتياطيها النقدى المجمد فى بنوك الغرب من مدفوعات خدمة الدين، الأمر الذى لولاه لاضطرت روسيا إلى تدبير النقد الأجنبى بأى ثمن عند استحقاق موعد السداد…

ثانيا: قدر هائل من القيود المفروضة على تدفقات النقد الأجنبى، سواء بمنع الأجانب من بيع الأصول المالية أو بإجبار المصدرين على شراء عملة وطنية بنسبة ٨٠٪ من حصيلة التصدير، أو بإغراء المواطنين منذ فبراير الماضى (عشية الحرب) على استبدال العملات الصعبة بالروبل للاستفادة من ٢٠٪ سعر فائدة تمنح لبعض منتجات الادخار بالروبل. من القيود أيضا إجبار الحكومة الروسية للمستوردين على شراء النفط بعملة الروبل…

لكن الشاهد أن فائض ميزان التجارة الروسى فى تراجع مستمر منذ عام ٢٠١٨ وبنسبة اقتربت من ٤٥٪ عام ٢٠٢١، الأمر الذى كان ينبغى أن يؤثر سلبا على العملة الوطنية، وذلك بفرض ثبات العوامل الأخرى التى من شأنها التأثير على قوة العملة الوطنية، ناهيك عن تدهور معظم تلك العوامل بفعل الحرب والعقوبات الدولية وتوقعات المستقبل القاتم باستغناء أوروبا تدريجيا عن إمدادات الغاز الروسى، الأمر الذى ينذر بعجز مزمن فى ميزان التجارة الروسى.

وعلى الرغم من كون خطة الاكتفاء الذاتى الروسى من المحاصيل والسلع الزراعية الأساسية كانت تسير بشكل جيد ومستقر خاصة بعد أزمة الأمن الغذائى التى واجهت البلاد بُعَيد تفسخ الاتحاد السوفييتى، غير أن تبعات الحرب الراهنة والعقوبات المترتبة عليها تهدد بتراجع الإنتاجية على خلفية انخفاض الطلب العالمى من منتجات روسيا، وتراجع الواردات الروسية من البذور عالية الإنتاجية التى ينتظر أن يشملها الحظر.

ارتفاع الدولار الأمريكى عالميا له ما يبرره، وبلوغ مؤشرات قوة العملة مستويات مرتفعة أمر مفهوم إذا ما تركت الأمور لقوى السوق. فالرفع المخطط والمتوقع زيادة وتيرته خلال العام لأسعار الفائدة من قبل الفيدرالى الأمريكى، له تبعات على مختلف المتغيرات حول العالم.

رفع الفائدة الأمريكية تعنى ببساطة مزيدا من الضغوط على الدول المدينة التى ستكون مضطرة إلى سداد أصل وفوائد الديون الخارجية بدولار أغلى نسبيا.. كما تضطر إلى الاستدانة مجددا لسداد القروض القائمة بفوائد أعلى. من ناحية أخرى فإن ارتفاع تكلفة الحصول على الدولار تعنى تأثر تكلفة الواردات وزيادة عجز موازين التجارة مع ارتفاع فاتورة الاستيراد، خاصة إذا كانت مرونة الطلب السعرية على تلك الواردات منخفضة، يعنى فى حالة اعتماد الدولة على استيراد الضروريات من الخارج مهما ارتفعت أسعارها… وطبعا مزيد من عجز موازين التجارة يعنى عملات وطنية أضعف أمام الدولار الأمريكى، لتكتمل الدائرة الخانقة. الخوف من تكرار أزمة الديون فى العام ٢٠١٣ بالاقتصادات الناشئة مازال مسيطرا على المشهد العالمى، وعلى تصريحات مديرة صندوق النقد الدولى ورئيس مجموعة البنك الدولى…

وإذا كان البعض يلوح بتراجع نسبة الدولار الأمريكى كمكون فى سلال الاحتياطى للبنوك المركزية حول العالم، معتبرا ذلك دليل ضعف، فإن الأمر لا يخلو من سطحية فى التناول، إذ إن هناك عوامل كثيرة تؤشر على قوة العملة. وهناك مؤشر لقوة العملات يصدره صندوق النقد الدولى اعتمادا على الوظائف المختلفة للعملات الرئيسة، يقوم بمنح وزن نسبى لكل وظيفة، فمثلا وظيفة الدولار الأمريكى كعملة احتياطى تحصل على وزن نسبى ٢٥٪ ونفس الوزن بالنسبة لها كوسيط للتبادل والمعاملات، وكعملة إصدار لأدوات الدين بالعملة الصعبة وأخيرا وزن متساوٍ ١٢.٥٪ لكل من الاستحقاقات الدولية البنكية والالتزامات الدولية. بالرجوع إلى بيانات هذا المؤشر فإنه يمكن ملاحظة ثبات وضع الدولار الأمريكى محتلا قمة المؤشر طوال عقدين من الزمن بلا أى منازع حقيقى، على الرغم من ظهور اليورو خلال فترة المقارنة. يعنى تراجع الدولار نسبيا فى وظيفته كعملة احتياطى غالبا ما يعوضه مركزه كوسيط تبادل (وصل استخدام الدولار الأمريكى ٨٠٪ من حجم التعاملات الدولية عام ٢٠١٩) أو كعملة إصدار لأدوات الدين... قوة الدولار الأمريكى نابعة كذلك من مقومات كثيرة بخلاف حجم الاقتصاد والسيطرة على التجارة منها إنفاذ القانون والشفافية والحوكمة... وهى معايير تغيب فى دول أخرى اقتصادها كبير.

وإذا كان الروبل الروسى قد استحوذ على اهتمام مغالى فيه من قبل المتابعين، فإن تقلبات أسعار الذهب عالميا ومحليا كان لها نصيبها من الجدل المستحق، نظرا لارتباط المعدن النفيس بحالة عدم اليقين المصاحبة للأزمات الاقتصادية الكبرى. الادخار فى الذهب يمكن أن يكون ملاذا آمنا للأفراد والحكومات حال تكون فوائض سيولة يمكن الاستغناء عنها لسنوات، علما بأن أسعار الذهب حاليا باتت تعكس وضع الأزمة كونه يباع بأسعار مرتفعة وعند قمم تاريخية، ولذا فالشراء قبل الأزمات (أى عند احتمال وقوعها) يكون أكثر إثمارا من الشراء بعد تدهور الأوضاع على الأرض.

ولأن الذهب هو أحد مكونات سلة الاحتياطى للبنوك المركزية حول العالم، فإن تغيير وزنه النسبى داخل محفظة تلك البنوك هو مسألة فنية شديدة التعقيد، ولا يجوز أن يفتى فيها حتى كثير من المتخصصين. كذلك فإن توقيت وسعر شراء البنوك المركزية للذهب تحكمه عوامل كثيرة عادة لا يفصح إلا عن اليسير منها. وعلى أية حال فإن الرأى الغالب (حال ثبات العوامل كافة) هو تفضيل وقت «احتمال» الأزمات للشراء حيث تزداد درجة عدم اليقين، وعدم الشراء بعد حدوث الأزمة لأن الأسعار تكون فى أعلى مستوياتها. أما أن يتوهم البعض بأن إعلان البنك المركزى المصرى عن تدعيم احتياطيه من الذهب هو دليل على إحلال الدولار الأمريكى والاستغناء عنه تدريجيا، فهذا أيضا لا يختلف عن وهم هزيمة الروبل للدولار وإعادة العالم لما قبل اتفاقات «بريتون وودز» عام 1944 وإحياء قاعدة الذهب!

المركزى المصرى تواجهه توازنات مؤلمة، فبتبسيط أرجو ألا يكون مخلا، يؤدى رفع أسعار الفائدة (استجابة للرفع المتتالى للفائدة الأمريكية لمكافحة موجات التضخم غير المسبوقة منذ أربعة عقود) إلى ارتفاع تكلفة الدين العام، وإلى مزيد من تثبيط الاستثمار المحلى والأجنبى لارتفاع تكلفة الاقتراض، وإلى الضغط على الموازنة العامة للدولة بشكل تتأثر معه جميع أوجه الإنفاق الحكومى، ويتم نقله إلى المواطن فى صورة التزامات جديدة وأسعار أعلى للخدمات الحكومية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل