المحتوى الرئيسى

زواج الميتاڤيرس

01/27 21:36

يقولون في الأمثال الشعبية إن "اللي يعيش ياما يشوف"، وقد أتاح لنا العمر الطويل بفضل الله أن نرى الكثير مما يُبهِر ويُدهِش ويُفاجِئ، مع العلم بأن كل الأفعال السابقة لا تحمل معان إيجابية بالضرورة وهذا مفهوم، فليس كل جديد جيد.

وهكذا عندما كتبتُ في هذا المكان قبل عدة أسابيع مقالًا عن الثورة التي تحدثها تقنية الميتاڤيرس في العلاقات الإنسانية، كنتُ ما زلت أستكشف معالم الطريق الذي تقودنا إليه هذه التقنية العجيبة، لكن فيما يبدو فإن سرعة التطور تتجاوز كل الحدود، وبينما كنتُ أحاول تصوّر كيف يمكن توظيف الميتاڤيرس "على الضيّق" من خلال ابتكار أشباه للأهل الغائبين واستدعائهم بحيث نراهم ونخاطبهم، فلا ينقصنا منهم إلا الملمس والرائحة-أقول بينما كنتُ أحاول بناء هذا التصوّر، إذا بخبر على الصفحة الأخيرة بجريدة المصري اليوم الثلاثاء الماضي يحمل عنوان "أول حفل زفاف على ميتاڤيرس بالهند"، وقبل الاستطراد أفتح قوسين لأقول إن الكومبيوتر لم يتقبّل مني كلمة ميتاڤيرس بسهولة، وقام بتغييرها عدة مرات إلى ميتافيزيقا! لكنني تغلّبت في النهاية على هذا الكومبيوتر المتخلّف الذي لم يتأقلم بعد على عالَم الميتاڤيرس!

يقول خبر المصري اليوم الذي كتبَته مي أبو دوح إن عروسين في الهند قرّرا الاحتفال بزواجهما على خطوتين، الخطوة الأولى تكون مخصّصة لإتمام المراسم القانونية للزواج في قرية العروس وذلك بالحضور الفعلي لعدد محدود من أسرتّي العروسين، أما الخطوة الثانية فإنها تأتي ابتهاجًا بالانتهاء من طقوس العقد في حفل افتراضي كبير. الديكور الخاص بهذا الحفل الافتراضي مستوحَى من عالم هاري بوتر وصمّمه بنفسه العريس الذي يعشق مجال تكنولوجيا المعلومات. المدعوون من الأصدقاء والأقارب البعيدين كثيرون، لكن المفاجأة الكبيرة هي أن تقنية الميتاڤيرس ستتيح الحضور لوالد العروس بعد أن توفّي في شهر أبريل الماضي. سيظهر شبيها العروسين وهما يرحبّان بالضيوف ويتلقيّان التهاني، ولن يأخذ أحد على خاطره لأنه لم يدع لحفل زفاف السيد فلان والآنسة فلانة لأن الجميع مدعوون. بعد قراءة الخبر طافت بذهني تفاصيل صغيرة لا تقل غرابةً عن غرابة الخبر نفسه، سألتُ مثلًا عن موضع النميمة في هذا الزفاف الافتراضي الهندي وما إذا كانت ستتاح الفرصة للمدعوين الافتراضيين كي يعلّقوا على فستان العروس وتسريحتها وماكياچها أم لا. في ظني أنه لو غابت النميمة عن هذه الأمور سينقطع الخيط الواهي الذي يفصل بين الحقيقة والخيال، فأفراحنا العربية لا تتم أبدًا بدون نميمة فهل يكون الأمر مختلفًا في الهند؟ عمومًا لو قرّر العريس الهندي أن ينفّذ تصميمًا افتراضيًا يحاكي به كل التفاصيل الدقيقة في الأفراح بما في ذلك ظاهرة النميمة فإن هذا سيحتاج منه جهدًا خرافيًا لإنجاح فكرته، لأنه في حالة الفرح الكبير سيتعين عليه إرسال بطاقات دعوة لعشرات الأشخاص بحيث يطلب منهم إما أن يقوموا بالتحكّم عن بعد في أشباههم الافتراضيين في كل المواقف المحتملة كموقف افتتاح البوفيه مثلًا، أو موقف التقاط الصور الجماعية، أو موقف مشاركة العروسين في الغناء والرقص. وإما يطلب العريس ممن قرر دعوتهم أن يحددوا له سلوكياتهم المتوقعة في المواقف السابقة ويعهدون له هو بتحريك أشباههم الافتراضيين. وهنا ستواجهنا معضلة المصداقية، فمن هو ذلك المدعو الذي يقبل حين يتحكّم في شبيهه الافتراضي أو يتحكّم فيه العريس أن يجعل هذا الشبيه يزاحم ويداور ويناور ليتخطى دوره في الطابور عند الذهاب إلى البوفيه؟ كلنا نحضر أفراحًا وكلنا نعلم مهازل التكالب على البوفيهات بغض النظر عن مستوى المدعوين، فمن تراه يملك شجاعة الاعتراف بهذا السلوك المحرج؟ ولو جئنا لتفصيلة أخرى تتعلق بلحظة إلقاء العروس ببوكيه الورد الذي تمسكه بيدها خلف ظهرها، وهي لحظة تتدافع فيها كل الفتيات في سن الزواج لالتقاط البوكيه ظنًا منهن أن التي ستظفر به سيبتسم لها الحظ ويرزقها الله بابن الحلال، هنا كيف ستتعامل تقنية الميتاڤيرس مع هذا التدافع في حالة ما إذا لم يكن المدعوون هم الذين يتحكمون في أشباههم الافتراضية، هل سيتدخل العريس لاختيار فتاة بعينها تكون هي صاحبة الحظ السعيد التي تظفر ببوكيه العروس أم كيف سيكون التصرف؟ هذا السؤال مشروع بالمناسبة لأنه حتى مع استخدام تقنية الميتاڤيرس وارد جدًا أن تكون هناك محسوبية! 

وقع العروسان الهنديان تحت وهم أن ما يصنع السعادة هو الحفل الكبير وقائمة المدعوين الطويلة والديكور المتميّز، ولذلك لم يكتفيا بالاحتفال مع الدائرة الضيقة بعقد الزواج وقررا توسيع النطاق افتراضيًا. بحثا عن السعادة خارجهما لا يعلمان أنه لو احتشد العالم كله للاحتفال بلحظة زواجهما فلا قيمة لذلك ما لم يكونا هما يشعران بخصوصية هذه اللحظة وما فيها من تحقُق وفوز واكتمال، وهذا هو الفارق بالضبط بين المطبوع والمصنوع وبين الحقيقة والميتاڤيرس. إن إفشاء السعادة جميل بالتأكيد، والفرح مُعْد كما أن الحزن مُعْد، لكن دائمًا هناك بؤرة تتكثّف عندها المشاعر على أي شكل تكون حزنًا أو فرحًا، وكلما ابتعدنا أكثر عن هذه البؤرة يقّل التركيز حتى نصل إلى نقطة تصبح فيها المشاعر أقرب ما تكون إلى الحيادية. ومازلت أتذكّر إلى الآن مثلًا شعبيًا كانت تردده أمي رحمة الله عليها في المناسبات السعيدة، وكان المثل يقول "أنا واختي نعمل فرح بنت اختي"، ومعناه ألاّ نهتم بالتجهيزات الكبيرة لاحتفالاتنا فالسعادة قد تتحقق بأبسط الترتيبات وبأقل عدد ممكن من المدعوين. أعلم تمامًا أن هذا المثل يسبح عكس التيار في ظل هوجة الأفراح الأسطورية التي نسمع عنها وينزل فيها العروسان بالمظلات أو يشقّان البحر أو يخترقان الضباب.. إلخ، وحيث الولائم العامرة والهدايا الثمينة والموسيقى التي تصّم الآذان، لكن هذا كله لا يصنع السعادة. وإذا أدخلنا تقنية الميتاڤيرس في الموضوع وصارت كل هذه البهرجة من صنع الخيال، فإن هذا يزيد في إرباك المشاعر.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل