سبعون سنة على حريق القاهرة

سبعون سنة على حريق القاهرة

منذ سنتين

سبعون سنة على حريق القاهرة

القاهرة الساحرة الساهرة... إزاى؟ باتت فى ظلام كلها دخان ولهيب ونيران وصراخ وعذاب ودمار بتاكلها النار!\nكلمات أحمد شفيق كامل شدا بها عبدالحليم حافظ من ألحان عبدالوهاب فى الأغنية الجميلة ذكريات.\nوبعد مضى سبعين سنة على الحدث الجلل لازلنا نقول إزاى؟ وماذا حدث فى يوم السبت الأسود السادس والعشرين من يناير 1952 فى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا.\nتفجرت الحرائق فى القاهرة واستمرت مشتعلة حتى منتصف الليل، وأتت النيران على 700 مبنى فى جميع أنحاء القاهرة من أقصاها إلى أدناها. أجمع شهود العيان فى هذا اليوم الملعون أن الحرائق كانت مدبرة بشكل مخطط على يد جماعات عامدة ومدربة، ورصد الشهود ثلاثين سيارة نقل تقل أفرادا يحملون أدوات لاقتحام الأهداف عنوة من أجنات ومعاول وأنابيب غاز أسيتيلين لإذابة القضبان الحديدية التى تحمى الأبواب والنوافذ. وصفائح من الجاز والبنزين والمواد الملتهبة استخدموها فى إشعال النيران.\nأتت النيران على أبرز معالم القاهرة التى ميزتها وجعلتها قبلة الشرق الأوسط، فاحترق فندق شبرد درة فنادق مصر وفنادق مترو بوليتان وبلازا وفيكتوريا وما مجموعه 13 فندقا و300 محل تجارى منها أفخم محلات الشرق الأوسط شيكوريل وعمر أفندى والصالون الأخضر الذى كانت الطبقة العليا فى الشرق الأوسط تشد الرحال إلى مصر من أجل التردد عليه. كما احترق 73 مطعما وملهى ومقهى منها ملهى الأوبرا ونادى Turf Club الإنجليزى الذى كان يرتاده أفراد الجيش البريطانى من الرتب الصغيرة، ومقهى الأمريكين، ومقهى جروبى ذو الشهرة العالمية الذى كان الملك فاروق يرسل علبا من الشيكولاتة المميزة التى ينتجها إلى ملك بريطانيا فى مناسبة أعياد ميلاد بناته إليزابيث ومارجريت.\nواحترق فى هذا اليوم بنك باركليز أحد رموز الشبكة البنكية البريطانية ودور العروض السينمائية مترو وريفولى وميامى وديانا التى جعلت من القاهرة عاصمة السينما فى الشرق الأوسط إنتاجا وعرضا.\nيقول شهود العيان إن الشرطة اختفت من مسرح الأحداث وإن تواجدت فقد كان موقفها من المخربين سلبيا ولم تتم السيطرة على الأمور حتى نزل الجيش إلى المسرح وفرض سيطرته على الأمور.\nقدم النحاس باشا استقالة حكومته الوفدية إلى الملك الذى رفضها وعينه حاكما عسكريا فأعلن الأحكام العرفية وحظر التجول ومنع التظاهر والتجمعات وعطل الدراسة بالمدارس والجامعات إلا أن الملك أقال النحاس فى اليوم التالى وكأنه يقول بيدى لا بيد عمرو.\nوالنيران ــ كما غنى عبدالحليم ــ صبحت رماد، ولكن يظل السؤال من هو التنين ذو الرءوس العشرة التى تنفث النار والدمار الذى أشعل الحريق؟ من هو المجرم الأثيم الذى سمحت له نفسه أن يحرق تاج العلاء فى مفرق الشرق؟\nعلينا أولا أن ندرك الجو الملتهب الذى ساد مصر فى هذا الوقت والتقطب والعداوات والكراهية التى مزقت الشعب. عداء بين القصر والوفد مما دفع الملك إلى تشكيل الحرس الحديدى لإرهاب الوفد ودفع الوفد لتشكيل كتائب القمصان الزرقاء لإرهاب أعدائه، وكون حزب مصر الفتاة كتائب القمصان الخضر وشكل الإخوان المسلمون جماعات مسلحة وتشكل تنظيم الضباط الأحرار، وتعددت الاغتيالات فدبر الحرس الخديوى محاولات لاغتيال النحاس باشا واحدة بإطلاق النار عليه وأخرى بسيارة مفخخة فجروها بجانب منزله واغتيال أمين عثمان.\nومن جانبهم اغتال الإخوان المسلمون النقراشى وردت الحكومة باغتيال المرشد العام حسن البنا على يد رجل الشرطة الأميرالاى محمود عبدالمجيد الذى كان يرأس تنظيما موازيا للحرس الخديوى فى الشرطة وقبلها قام محمود العيسوى الوفدى باغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر بسبب قراره دخول مصر الحرب إلى جانب الحلفاء ومحاولة اغتيال حسين سرى عامر على يد الضباط الأحرار.\nكل هذا الشقاق والتقطب والكراهية والتخوين والقتل بين الشعب المصرى حدث فى وقت توحش فيه الاستعمار البريطانى بسبب تحديات الحرب العالمية الثانية وما بعدها عندما حاولت بريطانيا التشبث بإمبراطوريتها التى مالت شمسها نحو المغيب فاقتحم السفير البريطانى غرفة الملك فاروق بعد أن حاصرت الدبابات قصر عابدين فى حادث 4 فبراير 1942 وقبل الملك فاروق صاغرا التوقيع على قرار تعيين النحاس باشا رئيسا للوزراء ثم فقدت بريطانيا رشدها عندما أعلنت مصر فى يوم 8 أكتوبر 1951 إلغاء معاهدة 1936 ومعاهدة 1899 بشأن الإدارة المشتركة للسودان ورفضت بريطانيا الانصياع للإرادة المصرية وأعلنت أنها سترد بقوة على مصر. وانسحب العمال من خدمة المعسكرات البريطانية فى مدن القناة وبدأت أعمال الفدائيين ضد القوات البريطانية. وفى يوم 8 ديسمبر 1951 قامت القوات البريطانية معززة بالدبابات والطائرات بتدمير قرية كفر أحمد عبده فى السويس التى يقطنها أكثر من ألف نسمة بدعوى شق طريق إلا أن حقيقة الأمر أن القرية تقع بين محطة المياه ومعسكرات الجيش تحسبا لقطع المياه عن المعسكرات.\nكان لهذا العمل ردود فعل غاضبة فى الشارع المصرى ثم كانت القشة التى قصمت ظهر البعير عندما حاصر الجيش البريطانى حكمدارية البوليس المصرى فى مدينة الإسماعيلية فى يوم 25 يناير 1952 وطالبوهم بالاستسلام وتسليم أسلحتهم الخفيفة ورفض الرجال الأباة الإنذار فدكت القوات البريطانية مبنى الحكمدارية مما أسفر عن سقوط 56 شهيدا و73 جريحا.\nكان هذا الحادث هو الشرارة التى فجرت برميل البارود وتفجرت أعمال العنف فى اليوم التالى وظهر التقطب والكراهية والاحتقان على السطح واحترقت القاهرة.\nوبعد مرور سبعين سنة على الكارثة فلازلنا نتساءل عن المسئول أو المسئولين ودور كل منهم ويشير كل طرف بأصابع الاتهام على عدوه التقليدى، بين من يقول الإنجليز ومن يقول الإخوان المسلمون ومن يقول مصر الفتاة ومن يقول «حدتو» والشيوعيون ومن يقول الضباط الأحرار ومن يقول الملك.\nورغم نفورى الشديد من الملك فاروق إلا أنى أعتقد مخلصا بأنه لم يكن له يد فى الحريق فلا أرى له مصلحة فى ذلك إلا أن إصراره على إقامة حفل سبوع ولى عهده ودعوة كبار السياسيين وضباط الجيش والشرطة بينما دماء الشهداء والجرحى لم تجف يكشف عن سماكة جلد وتبلد كبير فى الإحساس.\nإن حادث حريق القاهرة وما أظهره من تقطب وانقسام شديد فى صفوف الشعب وعجز النظام عن السيطرة عليه يؤكد حتمية قيام ثورة 23 يوليو 1952 بعد ستة شهور من الحدث بعد أن رأى الجيش حتمية التدخل لمنع حريق آخر أكبر وأخطر لا يأتى على القاهرة وحدها بل قد يأتى على مصر كلها.\nولعل ما حدث فى يوليو 1952 كان بروفة لما قام به الجيش فى عام 2011 عقب سقوط حكم مبارك.

الخبر من المصدر