المحتوى الرئيسى

ثلاثة أيام تاريخية... لا تُنسى

01/23 19:51

ذكريات طيبة تسكن النفس، ولا تغادرها، لوجه يبشر دوما بالخير، وبأخلاقيات التواضع والمروءة، والحس الإنسانى، وبالغيرة الوطنية، وحلاوة الإيمان الروحى، والمجسد سلوكا وأعمالا.

تحضر صورته، وأحيانا صوته الدافئ، كصوفى معرفى، بات ليله على التسبيح والتأمل، يترقب فجرا يلوح بالبشائر، يضىء أمام السالكين دروبا للسلامة والمعرفة والرزق وكرامة الإنسان، يشاهدهم من بعيد، من شرفة قصره فى لحظات الصباح الأولى، كما قال ذات حديث.

بيننا مودة القلب، وصفاء العقل، ووحدة الهموم العربية، ونبض الغيرة على الاتحاد والأمة، ولذعة الحزن على ما يجرى فى وطننا العربى، وابتسامة الفرح والدهشة أمام مشاريعه الثقافية والعلمية والإنسانية المفعمة بالخير العام، وبالأمل فى معاودة صنع الحضارة العربية، والتجدد الحضارى.

إيمانه كبير، فى دور التربية والكلمة والإبداع والضمير المسئول والرؤية الثاقبة، فى تطوير المجتمع، وبث الحيوية والعمل المنتج فى الإنسان، يتوغل فى التاريخ، تصحيحا وإعادة كتابة، والحفر فى سرديات الماضى ودروسه، يبحث فى هجرة الأنباط إلى الخليج، ويحقق فى مرسوم بابوى صدر فى شهر أغسطس عام 1624 لجمع الأموال لتأسيس أسطول برتغالى لإعادة احتلال هرمز، ويكشف الغطاء عما لحق الموريسكيين المسلمين، من تقتيل وطرد وعبودية من الأندلس، ويبرئ أحمد بن ماجد، «ويرد الجميل» لمصر، فيرمم المجمع العلمى المصرى، بعد أن حرقه الإرهاب، ودمر فيه أكثر من مائتى ألف كتاب، وأهمها مجلدات (وصف مصر)، ويتقدم صاحبنا، بعد الترميم، بإهداء هذا المجمع نسخته الشخصية النادرة من مجلدات (وصف مصر) التى لا تقدر بثمن.

كم حدثنى عن (أم الدنيا)، وعن الناس الطيبين فيها، وعن (بهية) صبية متجددة، لها (نهارات وليالى قادمة).

فى أكثر من مكان ووطن، له أيادٍ بيضاء، وله ولبلاده الإمارات الصيت الطيب، والراية البيضاء أيضا، عرفناه كطالب جامعى نجيب، رأى ذات يوم مبكر فى (الزراعة) وكأن «الشجر هو شِعر الأرض»، وفى عقود تالية، كان راعيا ومؤسسا لبيوت الشِعر ولمنتديات للشعراء فى مدن عربية تعشق، مثله، الشِعر ولغة الضاد الرسولية.

تعلمت الكثير، من نبله ووطنيته، ومن صبره وإرادته التى لا تعرف اليأس، منذ أيام (نادى العروبة)، وتأسيس «الخليج والشروق»، ولا تغيب عن الذاكرة حزنه ووجعه، فى ليلة «قاهرية» كئيبة عقب إعلان هزيمة عسكرية عربية (1967)، ورحنا نردد معه قوله (يا ندامة…)، كما أذكر قلقه العميق، قبل أعوام، أمام ظاهرة استغلال المقدس وتسييسه، فى وطننا العربى، والذى ما زال يعانى كمركب هائم فى لجة كبيرة.

لمست على مدى سنين طويلة، الكثير من ينابيعه النفسية، المكتنزة بالقيم الإنسانية، والتواضع الفطرى غير المتكلف، والسريرة النقية، واللسان العف، والخطاب الدافئ، والغيرة الوطنية والقومية، حقق الحلم الذى كان يراوده منذ عقود، الحلم الذى كان ضربا من الخيال العربى قبل ثمانين عاما، وأصدر «المعجم التاريخى للغة العربية»، باعتبار أن اللغة هى عماد الهُوية وذاكرتها الثقافية، والتى تضبط تفكيرها.

يملك رؤية فكرية إنسانية ومعرفية، فيما يكتب من إبداعات أدبية، ونصوص بحثية وتاريخية، ويمسك بوصلة متماسكة، أخلاقية وفى الشأن العام، لا تعرف اليأس أو البطالة، ولا تعيقها حمولات الحكم ومسئولياته.

نختزن ذكريات جميلة، نتشاركها أحيانا، وأخرى عن أحداث ومواقف ولحظات وجع، يتجاوزها بابتسامة مكتنزة بحمد لله وشكره. يقلقه «اتساع الخرق على الراقع» فى العالم العربى، وارتفاع منسوب المعايير المزدوجة فى البيئة الدولية.

ويحضر إلى الذاكرة، فى مثل هذه الأيام. قبل خمسين عاما، مشهد اليوم الحزين، الذى قتل فيه المغفور له الشهيد الشيخ خالد بن محمد القاسمى حاكم الشارقة، فى يوم الرابع والعشرين من يناير 1972، «ووقوف جيش الاتحاد، بالمرصاد للمحاولات التى تهدف إلى النيل من اتحادنا واستقلالنا «على حد قول سمو الشيخ محمد بن راشد المكتوم، وزير الدفاع حينذاك. (كتاب؛ حديث الذاكرة ــ الجزء الأول، للشيخ الدكتور سلطان).

كما يحضر إلى الذاكرة، مشهد تشييع الجنازة، فى صبيحة يوم عيد الأضحى، فى السادس والعشرين من يناير، وأتذكر رفيقى العمر تريم وعبدالله عمران، رحمهما الله، ونحن فى طريقنا إلى مقبرة الجبيل، ومدى الحزن والنشيج الذى خيم على هذه الجنازة الرسمية والشعبية، والتى كان يتقدمها صاحب السمو رئيس الدولة وأصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى حكام الإمارات، طيب الله ثراهم أجمعين.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل