مصطفى الفقى يكتب: العراق وهويته العربية

مصطفى الفقى يكتب: العراق وهويته العربية

منذ سنتين

مصطفى الفقى يكتب: العراق وهويته العربية

ابتليت البلاد بالحكم الديكتاتورى تارة والحصار الاقتصادى تارة أخرى\nالعراق بكل أعراقه ودياناته وطوائفه هو كيان كبير فى غرب آسيا، تعودنا أن نسميه بـ«حارس البوابة الشرقية» للوطن العربى، ولقد عانى فى العقود الأخيرة أشد المعاناة من التدخل الخارجى والضغط الأجنبى، فضلا عن التركيز الذى بدا واضحا منذ الغزو الأمريكى على هويته، فبتنا نتحدث عن عرب وكرد ومسلمين ومسيحيين وسنة وشيعة، بينما لم تكُن تلك الأمور تحتل مساحة كبيرة فى العقل العراقى قبل ذلك. ولكن تلك دائما هى لعبة الدخيل عندما يتبع سياسة «فرق تَسُد»، وقد حابى البريطانيون أهل السنة عام 1920 ومن ثم فعل الأمريكيون فعلا معاكسا عام 2003.\nوابتلى العراق بالحكم الديكتاتورى تارة والحصار الاقتصادى تارة أخرى، ثم بالفوضى التى لعبت فيها تنظيمات وميليشيات دورا غامضا، حتى أصبحنا أمام حقيقة مؤكدة، وهى أن ثراء أرض الرافدين وبلاد ما بين النهرين هو ما جعلها مطمعا، ففيها المياه والنفط والثروات الطبيعية والكوادر البشرية.\nفالأرض خصبة والمياه وفيرة والعقول مستنيرة والأيدى مدربة، وهنا يجب أن نعترف أن الانسحاب النسبى للدور العراقى فى منطقة الشرق الأوسط، أدى إلى خلل واضح فى توازن القوى.\nويكفى أن الأمين العام لجامعة الدول العربية لم يستطِع أكثر من الحصول على الاعتراف بأن العراق بلد مؤسس فى الجامعة العربية من دون تأكيد مطلق للهوية العربية فيه، وكان السيد برهم صالح ــ رئيس الجمهورية فيما بعد ــ هو الذى أبلغ الأمين العام بذلك، قائلا له تذكر أن الذى أشار إلى عروبة العراق هو سياسى كردى حتى يكون واضحا على المدى الطويل، أن الأكراد لا يعادون العروبة وأن القوميتين العربية والكردية قد تعايشتا فى تفاعل إيجابى ووئام حضارى مئات السنين.\nوظلتا قوميتين متجاورتين حتى إن كثيرين لا يعرفون أن صلاح الدين الذى تصدى لغزو الفرنجة المستترين بشعارات الصليب كان كرديا ويظل شخصية مضيئة فى تاريخ العرب والعروبة، فالعراق قد قذف أمته العربية بشخصيات كبرى على امتداد تاريخه والتى ستبقى بخيرها وشرها علامات فارقة فى التاريخ العربى والإسلامى.\nنحن لا نتباكى اليوم على عروبة العراق، فهى أكبر وأعمق من أن تنال منها ظروف عابرة أو أحداث طارئة، فكلنا نعرف أن الشعب العراقى شديد المراس عصىٌّ على الاختفاء، قادرٌ دائما على مواجهة أعدائه بصلابة تثير الإعجاب، إنه الشعب الذى استطاع ــ بالرغم من ظروفه فى العقود الأخيرة والمصاعب التى مر بها ــ أن يقهر تنظيم «داعش» شمال البلاد، وأن يطهر الموصل من جرائمه التى لا نظير لها، ولا عجب ألم تكُن البصرة فى الجنوب والموصل فى الشمال وبغداد بينهما هى مراكز الإشعاع الثقافى فى العصر العباسى فى ظل الحضارة الإسلامية، حتى إننا لا نكاد نعرف مفكرا كبيرا أو فقيها لامعا إلا وقد عاش فى العراق أو مر به.\nويكفى أن نتذكر الإمام الشافعى رحمه الله ومرحلتيه العراقية والمصرية وكيف طبعته المرحلتان بهوية الشعب الذى عاش فى أحضانه وتأثر بروحه. ودعنا الآن نطرح بعض الملاحظات المرتبطة بالوضع الحالى للعراق:\nأولا: إن التركيبة العرقية للشعب العراقى ــ عربية وكردية ــ هى ابنة شرعية للحضارة العربية الإسلامية ولا يجادل أحد فى أن العصر العباسى يجسد ذلك فى أحداثه وآثاره، فلا يمكن إنكار الإسهام العراقى فى الثقافة والعلم عبر التاريخ العربى، بدءا من المدرسة المستنصرية فى بغداد مرورا باسم الإمام موسى الكاظم أو الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، فالكل يقف أمام العراق من دون تفرقة بين شيعة وسنة، بل إننى أتذكر كطالب جامعى فى ستينيات القرن الماضى أنه قد اختلط علينا ذات يوم تعبير «المذهب الشيعى» «بالمذهب الشيوعى»، فنحن لا نعرف إلا الإسلام الذى قد تختلف داخله الفرق الدينية والطوائف الروحية، لكنه يظل إسلاما واحدا.\nوأذكر أن الرئيس الإيرانى الأسبق محمد خاتمى قال لى تعليقا على ادعاء الفوارق بين المذهبين السنى والشيعى: إن كتاب الله إلينا واحد وهو القرآن ونبى الله إلينا واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقبلتنا واحدة وأركان ديننا لا خلاف عليها، فالخلاف بيننا هو حدث تاريخى وليس خلافا فى جوهر العقيدة. وحكى لى ذات يوم الأستاذ نبيه برى، رئيس مجلس النواب اللبنانى الحالى، عندما كان طالبا، كان مدرس موفدا من مصر يعلمهم اللغة والدين، وكان يأخذهم إلى صلاة الجمعة كل أسبوع، مرة فى مسجد سنى ومرة فى حسينية شيعية حتى يتعلموا فى مستهل حياتهم أن الإسلام واحد من دون تمييز أو تفرقة لذلك، فإننى أظن أن محاولات الوقيعة بين أهل السنة وأشقائهم من أتباع المذهب الشيعى هى محاولات واهمة من أشخاص لا يدركون جوهر الإسلام الحنيف.\nثانيا: إن التأثير الإيرانى فى العراق يلعب دورا سلبيا فى مستقبل ذلك الشعب العربى الكبير، فقد اختلطت الأطماع السياسية بالروابط الدينية وحاولت حوزة قم أن تضع شيعة العراق تحت مظلتها، بعيدا عن عروبتها فى ظل حوزة النجف، ولقد عنَّ لى سؤال ذات يوم سألته لزميلى عندما كنا سفراء فى فيينا منتصف تسعينيات القرن الماضى وكان هو سفير العراق القريب من قلبى بشخصه وصراحته ووضوحه، سألته ماذا كان موقف العراقيين الشيعة من الحرب العراقية الإيرانية، وهل توزع ولاؤهم بين الجانبين؟ فانبرى السفير العراقى يشرح لى أن ذلك وهم كبير، فلقد قاتل العراقيون الشيعة تحت رايات العراق الواحد وقيادة صدام حسين لأعوام عدة ضد الخطر الإيرانى الداهم، ومن ثم أضاف أنه كان معاونا لرئيس أركان الجيش العراقى، قبل أن يُعين كسفير لبلاده فى جمهورية النمسا، وقال: «أنت تعرفنى منذ عامين، فهل عرفت مذهبى الدينى»؟ قلت له إننى عرفتك عراقيا قوميا مخلصا، فأردف قائلا أضف إلى معلوماتك أيضا أننى شيعى عراقى، ونحن نعتز بانتمائنا العربى تماما ويجب ألا يغيب عن ذهنك أن الشيعة العرب أسبق من التشيع الإيرانى بقرون عدة، فعروبتنا لا يزايد عليها أحد ولا يجادل فيها مؤرخ، ويومها تأكدت أن الحديث الذى يحاول التفرقة بين أبناء الشعب العراقى هو تآمر عليه وتزييف للتاريخ وكذب على الحقيقة.\nحتى إن المرجعية الدينية فى العراق هى عربية الأصل والهوية وتعتز بذلك مع ولائها للمذهب الشيعى الذى اعتنقته اختيارا منذ أحداث القرن الأول الهجرى.\nهذه قراءة فى ملف يبدو شائكا فى ظاهره على الرغم من أنه واضح فى جوهره، فالعراق عربى حتى النخاع، لكنه احتضن قوميات أخرى وديانات متعددة وربما كان ذلك التنوع واحدا من أسرار تألقه، ولا يخالجنى شك فى أن العراق الحديث سيطل على أمته العربية من جديد شامخا قويا على الرغم مما دفعه وما يدفعه من ثمن فادح لصموده ومواجهته الشرسة لجرائم أعدائه على أرضه وأطماعهم المتزايدة فى ثرواته الضخمة وتراثه الفكرى والثقافى الكبير، فضلا عن الإرث الحضارى الذى يتمسك به ويدافع عنه.\nلقد بدأ العراق يستعيد عافيته ويقترب من أشقائه العرب حتى يطوى صفحة الصراعات الدامية التى وضعته فى ظروف شديدة الصعوبة بالغة الحساسية، وسيعود إلى أحضان أمته التى لم يبرحها أبدا لكى يكون لها سندا وعونا وظهيرا للثوابت القومية التى لم يفرط فيها مع مرور الأيام.

الخبر من المصدر