المحتوى الرئيسى

من القاهرة

12/02 21:12

من القاهرة قدّمت لنا المخرجة هالة جلال أحدث أفلامها التسجيلية الذي يشارك في الدورة ٤٣ لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي ويحمل نفس العنوان. مَن لم يكن مطّلعا على مسار الفيلم الذي استمر العمل فيه خمس سنوات سيكون من الصعب عليه أن يتكهّن بأن قصة فيلم "من القاهرة" تدور حول امرأتين تعيشان في العاصمة وتعانيان من كل ما يعانيه سكان المدن الكبرى من ضوضاء وزحام وعنف، مضافًا إلى ذلك معاناتهما الخاصة في مدينة لا ترحّب بالنساء، فهذا الفيلم لا يُقرَأ من عنوانه مثلًا كفيلم "القاهرة ٣٠" الذي لا يترك مجالاً للشك في أنه يحكي عن الحياة في العاصمة خلال فترة تاريخية معينة، فأي شئ وكل شئ يمكن أن يكون من القاهرة، وفي الندوة التي أعقبت الفيلم قالت هالة جلال إن تفكيرها في عنوان الفيلم استقر على المكان "القاهرة" لكنها احتارت بعد ذلك بين كل حروف الجر: على.. في.. إلى، وفي الأخير اختارت "من القاهرة".

من الوهلة الأولى يشعر المشاهد بتلاشي المسافات بين ما يراه على الشاشة والواقع، وبين بطلتّي الفيلم والمخرجة، وعندما يتضح أن من قامت بالمونتاچ هي نفسها واحدة من البطلتين يصبح التوحد تامًا بين كل عناصر العمل. تظهر هالة جلال في بداية الفيلم ونهايته وفي مشاهد متفرقة منه لتؤكد للجمهور أنها ليست مجرد صانعة للعمل لكنها جزء من تفاصيله. هي مثل نساء القاهرة، ومنهن البطلتان هبة وآية تخاف من أشياء كثيرة: السرعة والزحام والسيارات والقيادة وصوت الشارع، وهي تخاف من النوم والطيران ومن التواصل مع الناس. جسدها عبء عليها كما تشكّل أجساد النساء عبئًا عليهن، وهذا العبء على أي حال يتجاوز المساحة الجغرافية للعاصمة ليلاحق النساء في كل زمان ومكان لكن بدرجات متفاوتة، فالسمنة عبء والعقم عبء ونوع الزي المناسب عبء والعلاقة الحميمة مع الآخر عبء، وكل الأعباء مصدرها هذا الجسد. أعجبني جدًا إعجاب إحدى البطلتين ولعلها هبة، فيما أذكر، بالجسد البلاستيكي للمانيكان لأنه يبقى مشدودًا وناعمًا ولأنه لا يستجيب لأوامر الآخرين ونواهيهم "يا دنيا البلاستيك الجميلة كم أحسدك"، بليغة هذه العبارة، لكنها أيضًا مقلقة لأنها تعني أن الوضع الوحيد الذي ترتاح فيه المرأة هو ذلك الوضع الذي تكون فيه جسدًا بلا روح، وهذا عكس رسالة الفيلم تمامًا لأنه يحث على التمرد والمواجهة والتغيير، ويستلهم أبياتًا من شعر فؤاد حدَاد يقول فيها "لا انا منهزم ولا منتصر ولا مُستَريح.. وف كل خطوة انا بانكسر وارجع صحيح".

يحكي الفيلم عن امرأتين من القاهرة قررت كل منهما أن تتحدى واقعها وتنظر في وجه المجتمع بعينين مفتوحتين. هبة الفنانة التشكيلية والمصوّرة التي تحدّت كل مشاعر الإحباط التي كانت تسرّبها لها أمها فأثبتت لها أنها "نفعت" و"قدرت" بعد أن كانت تعايرها وتكرر "مش حاتنفعي ومش حاتقدري"، وتحدّت وضعها كمطلقة من زوج لم يظهر لنا أبدًا فأفسحت لابنتها ورد في مشاعرها وأيامها قدر استطاعتها، وحين اتخذت قرارًا مجنونًا بأن تتوقف عن العمل فإنها تكون بذلك قد أتاحت لورد أن تتمدد في داخلها أكثر فأكثر. وآية المونتيرة التي تحدّت ظروف يتمها المبكر برحيل أبويها فتماسكَت وصَلَبَت عودها، ولعلها عندما كانت تمارس رياضة الدربي وتتصادم مع باقي اللاعبات فإنها كانت تختبر قدرتها على صّد الصدمات فتسقط لكن لا تنكسر كما يقول فؤاد حداد، ثم أنها تحدّت محيطها وقررَت أن تخلع حجابها لتشبه نفسها وهذا قرار لو تعلمون عظيم في مجتمع يعتبر البعض منه أن الغلاء ينتهي عندما تتحجّب النساء (كما في أحد لقطات الفيلم). تدخل هالة جلال على تفاصيل حياة هبة وآية، تزورهما وتتبادل معهما الحديث والضحك وفي الأثناء تحدد زوايا التصوير وتترك كل موقف يصنع الحوار الخاص به. في الندوة التي أعقبت العرض سألَت واحدة من الحضور: هل هناك سيناريو للفيلم؟ تقصد أن تقول إن كم التلقائية في الحوار ينبئ عن أنه ابن اللحظة. على المستوى الشخصي جاءني نفس هذا الإحساس أكثر من مرة، فمن الصعب مثلًا أن نتصور أن تندّر هبة على نساء باريس اللائي يلبسن الشرابات الفيليه ومقارنتهن بنفسها وهي تتحرك بالمواصلات العامة من وإلى السيدة عائشة- هو مشهد مكتوب بالقلم فالسخرية حقيقية وخفة الظل حقيقية والضحكة حقيقية جدًا، وما يخرج من القلب يدخل القلب، وهذه الدعابة دخلت قلبي من أوسع أبوابه. لا أحد يمثّل في هذا الفيلم بما في ذلك المخرجة هالة جلال التي تظهر بالصوت والصورة لكن الكل يعيش. إنه عمل أشبه ما يكون برواية فوضى الحواس للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي حيث كانت تتدخل مستغانمي من وقت لآخر لتشارك في صنع حدث معين كأن تحضر فيلمًا مع أبطالها ثم تختفي وتتركهم يتابعون العرض ويكملون الحكاية. حتى هذه العفريتة الصغيرة ورد التي تتعثّر في إجابة سؤال أمها how old are you المرة تلو الأخرى فإنها بخجلها وارتباكها وتغييرها الموضوع تبدو أكثر من طبيعية. بين صورة ورد على أفيش الفيلم وهى صغيرة وظهورها فيه توجد عدة سنوات صنعت فارقًا يبدو ملحوظًا كما هي العادة في المراحل المبكرة من حياتنا.

أهم أخبار الوسيط

Comments

عاجل