عودة إلى طه حسين!

عودة إلى طه حسين!

منذ سنتين

عودة إلى طه حسين!

مرة بعد أخرى تتأكد الحاجة الماسة إلى مشروع ثقافى جديد ينير الطرق المعتمة بالتجديد والإبداع والانفتاح على العصر وتأكيد الحريات العامة.\nلا يعقل فى بلد عريق كمصر أن تكون أزماته الثقافية والفنية أقرب إلى فرقعات فى الهواء تغيب عنها البديهيات وتأخذ وقتها بالضجيج قبل أن تنسى كأنها لم تحدث.\nغابت البديهيات فى أزمة «أغانى المهرجانات»، تمنع بالمصادرة أو تترك بالتجاوز.\nفى الرقابة بالمنع وصاية تناقض النصوص الدستورية التى تصون الإبداع.\nوفى التجاوز بالألفاظ خروج عن أية قيمة فنية أو أخلاقية.\nإذا كانت هناك قواعد قانونية فإن الحرية هى الأصل والتجاوز محله القضاء.\nبالضجيج الزائد غابت البديهيات مرة أخرى فى أزمة أن تعرض أو تمنع مسرحية للمفكر الفرنسى «جان بول سارتر»، باسم الدفاع عن الأخلاق العامة وقيم المجتمع.\nلم يكن الذين دعوا للمنع على علم بموضوع المسرحية الذى يناهض العنصرية دون أن يمس أى أخلاق، ولا بأفكار «سارتر» فيلسوف الوجودية الأكبر فى القرن العشرين، ولا وصل إلى علمهم أن المسرحية بعنوانها المباشر «المومس الفاضلة» عرضت قبل ستين سنة فى مصر دون أن تثير أدنى ضجيج، كأننا أمام نوع من التراجع الفادح عن إرث الستينيات فى الحريات الثقافية.\nكان التراجع الثقافى هو الوجه المكمل للانقلاب السياسى والاجتماعى على ثورة يوليو.\nفى مطلع يوليو كان يتصدر المشهد الثقافى ثلاثة أدباء كبار؛ الدكتور «طه حسين» و«عباس محمود العقاد» و«توفيق الحكيم».\nكان «طه حسين» الأكثر حماسا لحركة «الضباط الأحرار»، فيما بدا «العقاد» متحفظا، لا أيّد بحماس ولا عارض بوضوح، فيما كان «الحكيم» ملهما لـ«جمال عبدالناصر» بروايته «عودة الروح».\nفى الخيارات الرئيسية استندت «يوليو» إلى جوهر مشروع «طه حسين» فى مجانية التعليم، والنظر إلى أوضاع وأزمات الثقافة المصرية، التى نقلتها من حال إلى حال.\nلم يكن مشروعه معلقا فى الهواء، فقد أصدر كتابه الأشهر «مستقبل الثقافة فى مصر» عام (1938) بعد عامين بالضبط من توقيع اتفاقية (1936)، التى اعترفت بريطانيا بمقتضاها أن مصر دولة مستقلة.\nحاول بكتابه الصغير فى حجمه المدوى بأثره أن يؤسس لمستقبل الثقافة المصرية فى ظروف سياسية جديدة، رغم إحباط الرهان على تلك الاتفاقية إلا أن الفكرة نفسها بدت ملهمة للمستقبل بأكثر من أى توقع.\nلم تكن مصادفة أن أغلب الذين تصدوا للمهام الثقافية فى حقبتى الخمسينيات والستينيات هم من تلاميذ عميد الأدب العربى، الذى يعد رمزا للاستنارة والروح النقدية، غير أن التوجهات بدت مختلفة بشأن دوائر الحركة، حيث تبنت «يوليو» التوجه شرقا إلى العالم العربى، فيما كانت نظرة العميد التوجه غربا عبر المتوسط إلى القارة الأوروبية.\nكان «طه حسين» ثوريا فى تفكيره الثقافى والعقلانى، لكن لم يُعهد عنه ميل إلى تعديلات جذرية فى بنية العلاقات الاجتماعية.\nبالمقابل كان «محمود عباس العقاد» محافظا فى تفكيره ونظرته الثقافية، هو مثقف موسوعى عَلّم نفسه بنفسه واكتسب نفوذا استثنائيا بارتباطه بزعيم ثورة (١٩١٩) «سعد زغلول» حتى إنه وصف بـ«قلم الوفد الجبار»، غير أنه اصطدم بخليفة «سعد» وخرج عليه مقتربا من الملك «فاروق».\nلم يقترب «العقاد» من يوليو ولا كان له تأثير يذكر فى مشروعها الثقافى.\nفى العلاقة بين الرجلين، «طه حسين» و«العقاد»، تعقيدات بلا حد ومساجلات معلنة ساهمت فى إثراء الحياة الثقافية والفكرية.\nوكان «توفيق الحكيم» وسطيا، وهو يوصف عن حق برائد المسرح العربى.\nنظراته الثقافية جديدة بمعايير زمانه فى تعقيدات العلاقة بين الشرق والغرب، على ما صورها فى روايته «عصفور من الشرق».\nبدت اجتهاداته الأدبية والفكرية مثيرة وسجالية دون أن تتوافر فيها مقومات مشروع ثقافى كـ«طه حسين» و«العقاد».\nحاور قائد «يوليو» أكثر من «طه حسين» فيما لم يلتقه «العقاد».\nوقد ساعدت تجربة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى «الأهرام» على احتضان القامات الثقافية الكبيرة.\n«أردت بوجودهم أن أؤسس لصحافة القيمة والارتفاع بمستوى الحوار العام، وأن يكون المثقفون والأدباء والمفكرون الكبار فى قلب المشهد يتابعون ما يجرى فيه ويكتبون عن معرفة».\nسألته: «لماذا غاب عن الدور السادس عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين؟».\nهنا تبدت ذكريات قديمة وأسباب خفية.\nاستقر بذاكرته ذلك اللقاء، الذى نشر تفاصيله فى أول يوميات كتبها لـ«أخبار اليوم» عام (١٩٥٥) تحت عنوان: «صومعة عقل».\nبعد سنوات من هذا المقال ذهب إلى نفس المكان للقاء جديد مع عميد الأدب العربى، ولديه طلب محدد أن يأخذ موقعه على رأس كبار المفكرين والمثقفين والأدباء بالدور السادس من «الأهرام».\nقال الدكتور «طه»: «لماذا.. وأنت عندك الأخ توفيق؟».\nأدرك رئيس تحرير «الأهرام» أن هناك مشكلة ما بين الأديبين الكبيرين يصعب تجاوزها.\nعندما وصلت إلى مسامع «الحكيم» قصة اللقاء الذى جرى سأل «هيكل»: «لماذا لم تبلغنى؟».\nأجابه «الحكيم»: «بصفتى رئيس الدور السادس»!\nكان عميد الأدب العربى يدرك حساسيات كبار المثقفين فهو كبير وهم كبار، فنأى بنفسه عن أية منازعات من هذا النوع.\nكانت العلاقة بين الرجلين «طه حسين» و«توفيق الحكيم» بالغة التعقيد، فيها حب وتقدير، إلى درجة أنهما ألّفا معا رواية «القصر المسحور»، أحدهما يكتب فصلا والآخر يرد عليه، على خلفية مسرحية «شهر زاد» لـ«الحكيم»، وفيها مشاعر غيرة ومشاحنات.\nوقد كان «طه حسين» أول من استخدم كلمة «ثورة» لوصف ما حدث فى (٢٣) يوليو.. و«توفيق الحكيم» أول من هاجمها فى «عودة الوعى» بعد رحيل «جمال عبدالناصر».\nغير أن قيمة الأدباء لا تحددها مواقفهم السياسية المتغيرة وإن كانت تضفى، أو تسحب من أوزانهم العامة.\nالعودة إلى «طه حسين» ضرورية للتدبر والتعلم، لكنها لا تصلح وحدها للتقدم إلى المستقبل بأوراق اعتماد جديدة.\nإذا لم يكن هناك مشروع ثقافى جديد، يدرك حقائق عصره واحتياجات مجتمعه فإننا سوف نظل ندور فى حلقة مفرغة من الجهل والتجهيل.

الخبر من المصدر