المحتوى الرئيسى

مع زيادة معدلات الجريمة.. الدراما فى قفص الاتهام !

11/28 12:52

مع ارتفاع معدل الجريمة في المجتمع، وزيادة حالات الانتحار خاصة بين الشباب, والتعامل مع العنف والجريمة بتبلد مشاعر، حتى أصبحت مشاهد القتل والدماء معتادة، وأمرا غير مفزع حتى عند حدوثها في وضح النهار.. ومع اهتمام صناع الفن بعنصري الإثارة والجريمة وزيادة جرعة توظيفهما فنيا، والتفنن في عرض أنواع مختلفة من الجرائم المستحدثة على الشارع المصري, أصبح الفن والمحتوى الدرامي والإعلامي المقدم على الشاشات المختلفة في موضع الاتهام.. فهل الفن مدان ويجب أن يقف في قفص الاتهام للمحاكمة؟، وهل يتحمل جزء من هذا الخلل المجتمعي؟, أم أنه بريء حتى تثبت إدانته؟.. هذا ما نجيب عنه في السطور التالية.. 

بالبحث في تاريخ السينما المصرية، نجد أنها امتلأت بالعديد من الأفلام التي تناولت عالم الجريمة، وذلك منذ بداية عهدها, ورغم ذلك لم تنتشر البلطجة والعنف في الشارع المصري آنذاك, لكن زادت تلك الظاهرة في الآونة الأخيرة، مع انتشار نمط معين من الأفلام والمسلسلات التي انحرف بها المسار نحو تقديم الجريمة بأبشع الصور، وزيادة الجرعة من مشاهد الدماء والقتل والبلطجة، ومن تلك الأعمال أفلام “عبده موتة, إبراهيم الأبيض, القشاش, تراب الماس”، وكثير من الأعمال التي ينتجها “آل السبكي”, وكان القتل والخنق والذبح أشهر نهايات مسلسلات شهر رمضان الماضي، ومنها “نسل الأغراب” بطولة أحمد السقا وأمير كرارة، و”اللي ملوش كبير” بطولة ياسمين عبد العزيز وخالد الصاوي وأحمد العوضي، و”موسى” بطولة محمد رمضان، وكشفت الدراسات الجنائية عن تطور الجريمة خلال العشر سنوات الماضية من حيث أساليب ارتكابها وتنفيذها, مما جعلها تختلف عن الحقب السابقة لها.. والسؤال

الذي يفرض نفسه “إلى أي مدى ساهم الإنتاج الدرامي في تشكيل اتجاهات الجمهور نحو عالم الجريمة في الواقع؟”.

يقول د. وليد هندي - استشاري الصحة النفسية - : “الدراما حجر أساس لتشكيل شخصية الإنسان ووجدانه, لما لها من عامل أساسي في تحديد منهج تفكيره واتجاهاته النفسية وطرق تعامله مع المواقف والمشاكل الإجتماعية المختلفة، بل وإيجاد حلول لها, لذا لا يجب التعامل معها على أنها وسيلة للترفيه والتسلية فقط، والتغاضي عن تأثيرها ودورها في تنشئة الفرد”.

ويتابع: “تاريخ الفن المصري حافل بالأعمال المهمة التي لعبت دورا مؤثرا في حياة المصريين، وكانت بمثابة مؤسسة تربوية, ومن أهم تلك الأعمال مسلسل (أبنائي الأعزاء.. شكرا) للراحل عبد المنعم مدبولي، وكيف كان يحث على بر الوالدين والترابط الأسري, وشاهدنا نموذج المرأة العاملة والمطلقة وترسيخ مفاهيم إحترامهما من خلال مسلسل (أوراق الورد) للراحلة وردة الجزائرية، وأعمال أخرى عملت على غرس الانتماء الوطني والتربية الأخلاقية مثل (ليالي الحلمية), وأعمال عززت قيم العلم والتفكير الإيجابي مثل مسلسل (هند والدكتور نعمان)، وشاهدنا التعليم ووسطية الدين في الأعمال الدينية مثل مسلسل (محمد رسول الله), حتى الفكاهة كانت تقدم بشكل راقي بعيدا عن التنمر والإساءة، بالإضافة إلى الأعمال الخاصة بالأطفال، وكيف كانت تعمل على تنمية ملكات التخيل والإبداع”.

ويستطرد قائلا: “للآسف الدراما الآن تحولت إلى أداة هدم وليست بناء، وأصبح بعضها عائقا أمام خطط الدولة لتحقيق التنمية المستدامة بإختراقها للقيم الأخلاقية، وكيف تلهث خلف الإثارة ضاربة القيم والعقائد والثوابت بعرض الحائط، بل وأصبحت أيضا مرشدا لتنفيذ بعض الجرائم، ومنها جرائم مستجدة لم تكن موجودة من قبل, وأذكر منها مشهد قتل سيدة لزوجها ومحاولة اخفاء معالم الجريمة وتحليل الجثة بإستخدام مادة كميائية, لنا أن نتخيل عدد المخالفات الدرامية التي وصلت إلى 948 مخالفة لـ18 عمل فني في عام واحد، بل وخلال شهر واحد, وأعمال جسدت القتل بدم بارد، والإدمان وتعظيم لدور المدمن والبلطجي، وإهانة المرأة، بل والعنصرية أحيانا, ولأول مرة نرى صراع بين الشر والشر، فمن الثوابت أن الصراع الدرامي مبني على الصراع بين الخير والشر، لكي ينتصر الخير في النهاية لبث رسائل إيجابية, بل وشاهدنا أيضا (التحفيل) والتطاول والسخرية والسادية في بعض البرامج التي لا تندرج تحت أي تصنيف عمري, وهناك دراسات تؤكد أن تدمير الشباب الذي يشكل 60% من المجتمع, يكون بسبب عرض الإدمان والتدخين وتصدير البلطجة والعنف من خلال الشاشات, بالإضافة إلى الألفاظ النابية التي أصبح يرددها الشباب دون حياء, فالدراما حاليا تعمل على طمث الهوية وإحداث إضطرابات إجتماعية، وترسيخ لقيم الإنتقام حتى بين أفراد الأسرة الواحدة, فهي حرب ناعمة، لذلك أعتبرها أكبر خطر على المجتمع، فالعدو صديق مقيم في كل بيت مصري, وهناك قنوات فضائية ومنصات إلكترونية تعمل على بث العنف 24 ساعة، ونرى من خلالها حلول إبتكارية للعنف والجريمة وتجسيد نموذج مثالي لها بصورة حرفية، وبالتالي يقبل عليها الشخص وهو متبلد الإحساس، لأنه اعتاد رؤيتها بإستمرار”.

ويضيف قائلا: “أتمنى أن يكون هناك وقفة مع النفس وتيقظ من الأسرة، خاصة فيما يشاهده الأطفال ومنعهم من مشاهدة الأعمال التي تجسد العنف والضرب والرعب، لما لها من آثار سلبية عميقة على نفسية الطفل، ومن الممكن أن تؤدي إلى شعوره بالهلع والانطواء والعزلة الإجتماعية واكتسابه لقيم مزدوجة ومتضاربة تؤهله أن يصبح فرد مشوه ذهنيا، ومنفصل عن الواقع، وعندما يكبر يحدث ما يسمى إعادة إنتاج السلوك، ويعتقد أن العنف الوسيلة الأمثل للتعبير عن الغضب، لافتقاده لمهارات التفكير الرشيد”.

أتمنى أيضا من الدولة تغليظ العقوبات والغرامات على أي لفظ خارج، وتفعيل الدور الرقابي للحد من انتشار الأعمال التي تحث على العنف والجريمة وتصور البلطجي في دور البطولة, والاهتمام بعقد دورات تدريبية وورش عمل للمؤلفين والمخرجين الشباب حتى نصل إلى منتج درامي نقي يحمل قيمة فنية ويعزز المفاهيم الإنسانية، بدلا من التحريض على السلوكيات الغير مرغوب فيها.

بينما ترى الناقدة خيرية البشلاوي، أن الجريمة ليست ظاهرة مستجدة, فالمجتمع يعاني من تفشي الظواهر الإجرامية منذ بداية الحضارات، لكن نوع الجريمة وطرق التعامل معها أختلف، بالإضافة لزيادة معدلات الانتحار بين الشباب، وقصص تدمي لها القلوب كان من الممكن حدوثها دون أن يعلم بها أحد, لكن وجود السوشيال ميديا ساهم في وصول السلبيات بشكل أكبر وأسرع, وتضيف خيرية: “لا يمكن أن تشير كل أصابع الاتهام إلى الفن والإعلام فقط, لأن المجتمع يعاني من شروخ أحدثتها مجموعة عوامل وعناصر قوية يتعرض لها الشعب المصري، وبالأخص الطبقات الأقل حظا, وفي نفس الوقت لا يمكن تبرئة الفن والتغاضي عن الآثار السلبية التي قد تتسبب فيها الأعمال ذات الطابع العنيف، لأنها تعمل على بث نوع من التطبيع مع الجريمة، وتخلق نماذج إجرامية قد تسلب مشاعر الجمهور وتنجح في كسب تعاطفه, وهو دور سلبي للفن، لأنه ضد الثوابت، ويجعل من الجريمة (تحصيل حاصل) وليست حوادث (تشيب لها الولدان), كما أنه المجرم كبطل، وأصبحت المسألة أسوأ بإعطاء مبررات للجاني لإرتكاب الجريمة، ليصبح الدم شيء عادي، وكأنه ماء يسكب, وهي نقطة خطيرة يجب أن يلام عليها الفن”.

خيرية أستكملت حديثها بالقول: “الفن الآن أصبح لا يسمو بالمشاعر، لكنه بات يعمل على تعزيز غرائز العنف وإدارة آلة الخوف، ليعود بنا إلى الخلف، أي للطبيعة الأولى لإنسان الغابة، وإحياء لمبدأ البقاء للأقوى، (وحقي بدراعي)، وتلك الأنماط الفنية تعتبر تربة خصبة للمنتجين لضمان تحقيق الربح، لذلك يتم إنتاجها دون دراسة للأبعاد النفسية للجريمة المطروحة دراميا، ومدى تأثيرها السلبي على المتلقي”.

واختتمت البشلاوي حديثها بالقول: “العنف لا يمكن محاربته دون حل أزمة الوعي وتكاتف جميع مؤسسات الدولة، بداية من التعليم, فالإنسان الواعي المتعلم المثقف لن يقع تحت تأثير العوامل الخارجية، أضف إلى ذلك المناخ العام, لأن التطبيع مع الجريمة تزامن مع التطبيع مع الفساد والتملق والرشاوي، وأصبحنا نعاني ترهل في القيم الإنسانية، بعد استبدال الطبقة المتوسطة التي كانت (رمانة الميزان)، وتحولها لطبقة فاسدة نتيجة لما تتعرض له من ضغوطات إقتصادية وإجتماعية، فنحن بحاجة إلى إعادة تأهيل لمنظومة الأخلاق, لأن مفهوم الفساد أعمق من حمل الأسلحة البيضاء, فالفساد هو قبول إنهيار القيم دون أن يتحرك ساكنا, ويجب الانتباه لضرورة عودة الفن لدوره في تحقيق رسائله المنشودة, ومما لا شك فيه أن الدراما تساهم في البناء القيمي للإنسان، بشرط أن تتضمن محتوى جيد وهادف, فالفن سلاح ذو حدين، لأنه يعتبر مصدر للتطهر وكبح جماح الشر إن كان محترما وراقي، ومن الممكن أن يهبط بغرائز الإنسان إلى الحضيض وتطبيعها مع النزعات الشريرة عندما يبالغ في تقديم القبح والجريمة”.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل