المحتوى الرئيسى

هل يجوز قول مدد ياحسين والتوسل بالنبي وبأولياء الله الصالحين؟.. الإفتاء تجيب

10/26 20:16

تلقت دار الافتاء سؤالا يقول فيه صاحبه هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبأولياء الله الصالحين؟.. وقولنا: مدد يا فلان؛ كقولنا: مدد يا حسين، أو مدد يا رسول الله، هل هذا القول إن صدر من عامّي لا يعرف معناه بناءً على قولٍ مِن شيخٍ يأثم الشيخ؟

اجابت دار الإفتاء أن التَّوَسُّل: تَفَعُّلٌ من الوسيلة، والوسيلة في الأصل: ما يُتَوَصَّلُ به إلى الشيء ويُتَقَرَّبُ به، كما قال العلامة ابن الأثير في "النهاية" (5/ 185، ط. المكتبة العلمية).

واوضحت الدار أن قضية حياة المسلم هي أن يتقرب إلى الله ويحصل رضاه وثوابه، ومن رحمة الله بنا أن شرع لنا العبادات وفتح باب القربة إليه، ليتقرب المسلم إلى الله بشتى أنواع القربات التي شرعها الله عز وجل، والقرآن كله يأمرنا بالوسيلة إلى الله، أي بالتقرب إليه سبحانه.

وقد أجمع المسلمون أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الوسيلة العظمى، واتفقت الأمة على التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم من غير خلاف من أحد يُعتَدُّ به.

وجاءت النصوص والأدلة المتكاثرة من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة بمشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك حاصل قبل مولده، وفي حياته الدنيوية، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى ذلك اتفقت المذاهب الأربعة.. وعددت الدار الأدلة فقالت :

- قوله تعالى يخبر عن حال أهل الكتاب قبل مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: 89].

أخرج الإمام الطبري في "جامع البيان" عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يقول: "يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب- فلما بعث الله محمدًا صلى الله وآله عليه وسلم ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه".

وأخرجه الآجري في "الشريعة"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "دلائل النبوة" من طريق آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت اليهود فعاذت اليهود بهذا الدعاء، فقالوا: اللهم نسألك بحق محمد النبي الأمي، الذي وعدتنا أنك تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بُعِث النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم كفروا به، فأنزل الله: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ﴾ بك يا محمد على الكافرين".

- وقوله تعالى: ﴿ولو أَنَّهم إذ ظَلَمُوا أَنفُسَهم جاءوكَ فاستَغفَرُوا اللهَ واستَغفَرَ لهم الرسولُ لوَجَدُوا اللهَ تَوّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64].

مشيرة الي أنه قد فهم الصحابة من هذه الآية العموم؛ فروى ابن جرير وابن المنذر في "التفسير"، والطبراني في "المعجم الكبير"، والحاكم في "المستدرك" وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إنّ في النساء لخمسَ آياتٍ ما يَسُرُّني بهن الدنيا وما فيها، وقد علمتُ أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها.. فذكر منها قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾. قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 12، ط. مكتبة القدسي): [رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح] اهـ.

فقد فهم سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه العمومَ من الآية؛ حيث حَدَّث بذلك التابعين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

بل ورد ما يدل صراحةً على أن هذه الآية عامة لكل المسلمين وجميع الأمة:

فقد رواها معاوية بن قرة، عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا" أخرجها الكلاباذي في "بحر الفوائد"، واللالكائي في "شرح السنة"، والتيمي في "الحجة".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت" أخرجه ابن جرير والثعلبي في "التفسير"، والبيهقي" في "شعب الإيمان".

وأما الأدلة من السنة النبوية المطهرة:

- فحديث الأعمى الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّد إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ» رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي وصححه جمع من الحفاظ، وفي بعض رواياته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «وَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَمِثْل ذَلِكَ»، وعند الطبراني وغيره أنَّ راوي الحديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه علَّم هذا الدعاء لمن طلب منه التوسط له في حاجة عند عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته، وفي ذلك طلب صريح للمدد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

- وحديث الخروج إلى المسجد للصلاة: فعن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ؛ فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنَ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَأَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ» رواه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة، وهو حديثٌ صحيحٌ؛ أشار إلى صحته الحافظ ابن خزيمة عندما استدل به في العقائد؛ قال الحافظ البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 98، ط. دار العربية): [رواه ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق فضيل بن مرزوق؛ فهو صحيح عنده] اهـ.

كما قوّاه الحافظ البغوي في "مسند ابن الجعد" (ص: 302، ط. مؤسسة نادر)؛ حيث ساقه وغيره من الأحاديث من طريق عطية العوفي، ثم أسند إلى الإمام ابن معين قوله فيه: "صالح"، وهذه قرينة تدل على قبوله له، وقوّاه الحافظُ ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (2/ 274، ط. مكتبة الرشد)؛ فقال: [ومثل هذا لا يدرك بالرأي، ولا يكون إلا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ، والحافظُ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي فيما نقله عنه تلميذه الإمام المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 305، ط. دار الكتب العلمية)، والحافظ الدمياطي في "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح" (ص: 641-642، رقم 1321، ط. النهضة الحديثة)، والحافظ العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (ص: 384، ط. دار ابن حزم)، وأقره المرتضى الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" (5/ 89، ط. مؤسسة التاريخ العربي)، كما حسَّنه أيضًا الحافظ ابن حجر العسقلاني في "نتائج الأفكار" (1/ 268، ط. دار ابن كثير)، وحسنه الحافظ السيوطي في "تحفة الأبرار بنكت الأذكار" (ص: 9).

وقد أجاب الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 267، ط. دار ابن كثير) عن تضعيف الحديث بعطية العوفي فقال: [ضَعْفُ عطيةَ إنما جاء مِن قِبَل التشيع، ومِن قِبَل التدليس، وهو في نفسه صدوق، وقد أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأخرج له أبو داود عدة أحاديث ساكتًا عليها، وحسَّن له الترمذي عدة أحاديث؛ بعضها من أفراده] اهـ.

مؤكدة أن السائلون لله تعالى الذين توسل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بحقهم هم أعمُّ من أن يكونوا أحياءً أو منتقلين، وهذا يدل على جواز التوسل بالمخلوق سواء أكان حيًّا أو مُتَوَفًّى، كما أن في التوسل بالعمل الصالح (وهو المشي إلى الصلاة) دليلًا آخر على جواز التوسل إلى الله في الدعاء بالمخلوق، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظم المخلوقين قدرًا وأعلاهم شأنًا، فالتوسل به أَوْلَى.

- وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند موت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهما، وهو حديث طويل، وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، اغْفِرْ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ ولَقِّنْهَا حُجَّتَهَا وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي، فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» رواه الطبراني في "الأوسط" (1/ 67، ط. دار الحرمين)، و"الكبير" (24/ 351)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 121، ط. السعادة)، وغيرهما. قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 257): [رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح، وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح] اهـ.

- وفي التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم قبل مولده: ما أخرجه الحافظ أبو الحسين بن بشران -كما ذكر ابن ناصر الدين في "جامع الآثار" (1/ 469، ط. قطر)- ومن طريقه الحافظ ابن الجوزي في "الوفا بفضائل المصطفى" -كما ذكر ابن تيمية في "الفتاوى" (2/ 159)- عن ميسرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيًّا؟ قال: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْأَرْضَ وَاسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَخَلَقَ الْعَرْشَ كَتَبَ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَخَلَقَ اللهُ الْجَنَّةَ الَّتِي أَسْكَنَهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَكَتَبَ اسْمِي عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْقِبَابِ وَالْخِيَامِ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، فَلَمَّا أَحْيَاهُ اللهُ تَعَالَى نَظَرَ إلَى الْعَرْشِ فَرَأَى اسْمِي فَأَخْبَرَهُ اللهُ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِك، فَلَمَّا غَرَّهُمَا الشَّيْطَانُ تَابَا وَاسْتَشْفَعَا بِاسْمِي إلَيْهِ»، وإسناده جيد لا بأس به؛ كما قال الحافظ الصالحي في "سبل الهدى والرشاد" (1/ 86، ط. دار الكتب العلمية)، وقوَّى إسنادَه الحافظُ عبد الله الغُماري في "الرد المحكم المتين" (ص: 138).

وتابعت دار الافتاء :وكما جرى العمل على ذلك منذ بدء الخليقة قبل مولده صلى الله عليه وآله وسلم فعلى ذلك أيضًا جرى عمل الصحابة والسلف الصالح من بعده:

- فروى الأئمةُ آباءُ بكرٍ: ابنُ أبي شيبة في "المصنف" (6/ 356، ط. مكتبة الرشد)، وابنُ أبي خيثمة -كما في "الإصابة في تمييز الصحابة" (6/ 216، ط. دار الكتب العلمية)-، والبيهقيُّ في "دلائل النبوة" (7/ 47، ط. دار الكتب العلمية)، وأبو يعلى الخليلي في "الإرشاد" (1/ 313-314، ط. مكتبة الرشد)، من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار -وكان خازن عمر- قال: أصاب الناس قحط في زمن سيدنا عمر رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال: «ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّكُمْ مُسْقَوْنَ، وَقُلْ لَهُ: عَلَيْكَ الْكَيْسَ»، قال: فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى سيدنا عمر رضي الله عنه وقال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه. وهذا حديث صحيح؛ صححه الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (7/ 91-92، ط. دار الفكر)، وصححه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 495، ط. دار المعرفة).

- وروى الإمام أبو محمد الدارمي في "سننه" عن أبي الجوزاء أوس بن مالك، قال: قحط أهل المدينة قحطًا شديدًا، فشكَوْا إلى السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: "انظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فاجعلوا منه كُوًى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف"، قال: ففعلوا، فمُطِرْنا مطرًا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسُمِّيَ عامَ الفَتْق.

ولكل هذه الأدلة الصريحة من كتاب ربنا سبحانه وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أجمع علماء الأمة من المذاهب الأربعة وغيرها على استحباب التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، صلى الله عليه وآله وسلم، واتفقوا على أن ذلك مشروع قطعًا ولا حرمة فيه، وأنه أحد صيغ الدعاء إلى الله عز وجل المندوب إليها، ولا عبرة بمن شذ عن إجماع العلماء.

واستشهدت الدار بقول الإمام المجتهد بقية السلف تقي الدين السبكي في كتابه "شفاء السقام" (ص: 119، ط. دائرة المعارف النظامية): [اعْلَمْ أنه يجوز ويَحسُنُ التوسلُ والاستغاثة والتشفعُ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجوازُ ذلك وحسنُه من الأمور المعلومة لكلِّ ذي دِين، المعروفةِ مِن فعل الأنبياء والمرسلين، وسِيَر السلف الصالحين، والعلماء والعوامِّ من المسلمين، ولم يُنكِر أحدٌ ذلك مِن أهل الأديان، ولا سُمِع به في زمنٍ مِن الأزمان، حتى جاء ابنُ تيمية؛ فتكلَّم في ذلك بكلام يُلَبِّسُ فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يُسبَقْ إليه في سائر الأعصار] اهـ.

ويقول الإمام تقي الدين الحصني الشافعي في كتابه "دفع شُبَهِ مَن شبَّه وتمرَّد" (ص: 436-437، ط. دار المصطفى): [والمراد أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واللواذ بقبره مع الاستغاثة به كثير على اختلاف الحاجات، وقد عقد الأئمة لذلك بابًا، وقالوا: إن استغاثةَ مَن لاذ بقبره وشكى إليه فقره وضره توجب كشف ذلك الضر بإذن الله تعالى] اهـ.

ويقول الإمام القسطلاني في "المواهب اللدنية" (3/ 606، ط. المكتبة التوفيقية): [وأما التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته في البرزخ: فهو أكثر من أن يُحصَى، أو يُدرَك باستقصاء] اهـ.

وكذلك الحال في التوسل بالأنبياء والمرسلين، وبالأولياء والصالحين من آل البيت وغيرهم، وبالملائكة المقربين، هو مشروع بالكتاب والسنة وعمل الأمة سلفًا وخلفًا، ولا حرمة فيه، ومما ورد فيه من الأدلة:

- قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: 21].

قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (21/ 447، ط. دار إحياء التراث العربي) في تفسير قوله تعالى: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾: [نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد] اهـ.

وقال العلامة الشهاب الخفاجي في "حاشيته على تفسير البيضاوي": [في هذه دليلٌ على اتخاذ المساجد على قبور الصالحين] اهـ.

- حديث «أعينوا عباد الله»؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ للهِ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا سَقَطَ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلاةٍ فَلْيُنَادِ: أَعِينُوا عِبَادَ اللهِ» رواه البزار في "مسنده" (11/ 181). قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 132): [رواه البزار، ورجاله ثقات] اهـ.

ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 91)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1/ 325، ط. مكتبة الرشد)، و"الآداب" (ص: 269، ط. مؤسسة الكتب الثقافية) موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: [هذا موقوفٌ على ابن عباس رضي الله عنهما، مستعملٌ عند الصالحين من أهل العلم؛ لوجود صِدقِهِ عندهم فيما جرَّبوا] اهـ.

وكذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللهِ، احْبِسُوا عَلَيَّ، يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ للهِ فِي الْأَرْضِ حَاضِرًا سَيَحْبِسُهُ عَلَيْكُمْ» أخرجه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (9/ 177، ط. دار المأمون للتراث)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10/ 217)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 455، ط. دار القبلة).

وحديث عُتبة بن غُزْوان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، فَإِنَّ للهِ عِبَادًا لا نَرَاهُمْ» أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" وقال عقب روايته: وَقَدْ جرّبَ ذَلِكَ.

وفي الحديث دليل على الاستعانة بمخلوقات لا نراها، يجعلها الله عز وجل سببًا في عوننا ونتوسل بها إلى ربنا في تحقيق المراد سواء أكانوا أحياء لا نراهم؛ كالملائكة عليهم السلام، أو منتقلين عن دنيانا؛ كأرواح الأنبياء والأولياء والصالحين.

وممن فعل ذلك: إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، والإمام النووي، ونقله عن بعض أشياخه؛ فأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في "مسائل الإمام أحمد" (ص: 245، ط. المكتب الإسلامي)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" (10/ 141، ط. مكتبة الرشد) عن الإمام أحمد بن حنبل قال: "حججت خمس حجج؛ اثنتين راكبًا، وثلاثًا ماشيًا، أو ثلاثًا راكبًا، واثنتين ماشيًا، فضللت الطريق في حجة، وكنت ماشيًا فجعلت أقول: يا عباد الله، دلوني على الطريق" قال: "فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق".

وقال الإمام النووي في "الأذكار" (ص: 224، ط. دار الفكر): [قلت: حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم أنه افلتت له دابة أظنها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث، فقاله، فحبسها الله عليهم في الحال، وكنت أنا مرة مع جماعة، فانفلتت منها بهيمة وعجزوا عنها، فقلته، فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام] اهـ.

وإذا جازت الاستغاثة بالغائب -الذي لا يعرف المستغيثُ عينَه ولا يتحقق سماعَه- فلأن تجوز بمن عُرِفَتْ أعيانُهم وتحققت حياتُهم وثبت في السُّنة سماعُهم من باب أَوْلَى.

- وأخرج الإمام مالك في "الموطأ"، وأحمد في "المسند"، والنسائي في "المجتبى"، وابن حبان في "صحيحه" عن عمران الأنصاري، أنه قال: عدل إليَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأنا نازل تحت سرحة بطريق مكة، فقال: ما أنزلك تحت هذه السرحة؟ فقلت: أردت ظلها، فقال: هل غير ذلك؟ فقلت: لا، ما أنزلني إلا ذلك، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى، وَنَفَخَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ السِّرَرُ؛ بِهِ شَجَرَةٌ سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا».

قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (13/ 67، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [وأما قوله «سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا» ففيه قولان، أحدهما: أنهم بشروا تحتها بما سرهم واحدًا بعد واحد أو مجتمعين، أو نُبِّئوا تحتها فسُرُّوا من السرور. والقول الآخر: أنها قطعت تحتها سُرَرُهم يعني ولدوا تحتها؛ يقال: قد سُرَّ الطفل إذا قطعت سرته.

وفي هذا الحديث دليل على التبرك بمواضع الأنبياء والصالحين ومقاماتهم ومساكنهم، وإلى هذا قصد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بحديثه هذا] اهـ.

والتبرك هو نوعٌ من التوسل؛ لأن قاصدَه يطلب البركة من الله تعالى بصاحب المكان المتبرك به.

ولقد نصَّ أئمة المذاهب المتبوعة وعلماء المسلمين في قديم الدهر وحديثه على مشروعية التوسل بالأنبياء والصالحين، وعدُّوه من المستحبات الشرعية، ووشَّوْا به كتبهم وزينوها.

قال العلامة السيد الشريف الجرجاني الحنفي في "حاشيته على شرح المطالع" (ص: 14، ط. دار الطباعة العامرة 1277هـ) موجهًا نفع التوسل بالصالحين وزيارة مراقدهم بعد وفاتهم: [فإن قيل: هذا التوسل إنما يُتَصَوَّرُ إذا كانوا متعلقين بالأبدان، وأما إذا تجردوا عنها فلا؛ إذ لا جهة مقتضية للمناسبة.

قلنا: يكفيه أنهم كانوا متعلقين بها متوجهين إلى تكميل النفوس الناقصة بهمة عالية، فإنّ أثر ذلك باقٍ فيهم، ولذلك كانت زيارة مراقدهم مُعَدَّةً لفيضان أنوار كثيرة منهم على الزائرين، كما يشاهده أصحاب البصائر ويشهدون به] اهـ.

وصنف علاَّمةُ زمانه المحدِّثُ السيدُ محمد مرتضى الزبيدي الحنفيُّ رسالةً سمَّاها: "تحفة أهل الزُّلْفة، في التوسل بأهل الصُّفّة"؛ كما ذكر في كتابه "تاج العروس" (24/ 26، ط. دار الهداية).

وقال الإمام الشلبي في نهاية كتابه "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" (5/ 148، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [هذا ما ظهر لكاتبه، بلغه الله مقاصده بمحمدٍ وآله] اهـ.

وقال العلاَّمة ابن عابدين في "منحة الخالق -المطبوع مع- البحر الرائق" (2/ 210، ط. دار الكتاب الإسلامي) في معرض ذكره لزيارة القبور للنساء: [وإن كان للاعتبار والترحم والتبرك بزيارة قبور الصالحين فلا بأس] اهـ.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل