المحتوى الرئيسى

الاحتفال بعودة طالبان دليل جديد على أزمة الإسلام السياسى

09/20 21:05

احتفى العديد من الإسلاميين، ولا سيما الشباب منهم، بعودة حركة طالبان للسيطرة على أفغانستان بعد انسحاب القوات الأمريكية منها نهاية الشهر الماضى. اعتبر الكثير من شباب التيارات الإسلامية انتصار طالبان العسكرى بمثابة عودة لروح الحركة الإسلامية بعد الهزائم السياسية المتتالية التى مُنيت بها فى مناطق عدة خلال السنوات الأخيرة، كما هى الحال فى كل من مصر وتونس. إلا أن ردود الأفعال الاحتفالية هذه تشير إلى الأزمة العميقة التى يعيشها مشروع الإسلام السياسى أكثر من أى شىء آخر. فالاحتفاء المبالغ فيه بعودة طالبان إلى الحكم هو نتيجة مباشرة لفشل حركات الإسلام السياسى فى منطقتنا العربية فى بناء مشروعها السياسى، وغياب الأمل لدى الكثير من شباب الإسلاميين فى فرص تغيير هذا الواقع.

لم تكن هذه حال حركات الإسلام السياسى قبل نحو 25 عاما. لقد شكلت نهاية تسعينيات القرن الماضى لحظة فارقة فى مسار حركات الإسلام السياسى من خلال ظهور ما أسماه البعض حركات الإسلام الديمقراطى، التى بدت أنها تملك مشروعا للتغيير السياسى قادرا على المزج بين القيم الدينية الإسلامية وقيم الحرية وحقوق الإنسان.

ففى تركيا، شهدت نهاية التسعينيات تغيرات عميقة فى بنية الحركة الإسلامية التركية، حيث فاز حزب الرفاه الإسلامى الذى كان يتزعمه آنذاك نجم الدين أربكان، بأكثرية الأصوات فى الانتخابات البرلمانية عام 1995، بنسبة 21.4 فى المائة. شكل حزب الرفاه حكومة ائتلافية، ليتولى أربكان نفسه رئاسة الوزراء. لكن الدوائر العلمانية التركية لم تقبل أن يكون رئيس وزراء الدولة التركية من أصحاب التوجه الإسلامى، فتزايدت الضغوط على أربكان من داخل المجتمع والدولة على السواء، حتى اضطر إلى تقديم استقالته فى فبراير 1997. فى أعقاب تلك الأزمة، أيقنت مجموعة من السياسيين الإسلاميين، من بينهم رئيس الجمهورية التركى الحالى رجب طيب أردوغان، أنه لا بد من بناء مشروع سياسى مختلف حتى يستطيعوا طمأنة الدولة والمجتمع التركى. فاختار هؤلاء السياسيون الانفصال عن حركة أربكان، وأسسوا حزب العدالة والتنمية بوصفه نموذجا لحركة إسلامية تسعى إلى التوفيق بين القيم الدينية وقيم الجمهورية التركية.

تلك كانت الحال أيضا فى إيران، حيث مهدت نهاية الحرب العراقية ــ الإيرانية عام 1988، ووفاة آية الله الخمينى بعدها بعام، لظهور خطاب إسلامى جديد يسعى إلى تطوير الأسس الفكرية للجمهورية الإسلامية الإيرانية. تجلى ذلك فى خطابات دينية جديدة من قبل الشباب والطلاب والنساء والمفكرين الدينيين، الذين سعوا إلى التوفيق بين مبادئ الجمهورية الإسلامية، وقيم الديمقراطية، والحقوق الفردية، والتسامح، والمساواة بين الجنسين. وقد تُوج هذا التيار بصعود الرمز الإصلاحى محمد خاتمى إلى سدة الرئاسة الإيرانية عام 1997.

ألهمت تجربة العدالة والتنمية فى تركيا، والتيار الإصلاحى فى إيران، السياسيين الإسلاميين والباحثين والمفكرين على السواء، إذ رأوا فيها المسار الذى يجب أن تسير فيه الحركات الإسلامية. وسَكَّ عددٌ من الكتاب مفهوم «ما بعد الإسلاموية» فى إشارة إلى تلك النسخة الجديدة من حركات الإسلام السياسى. فبينما استندت النسخ التقليدية من الإسلام السياسى إلى معاداة القيم الغربية كالديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان، سَعَت تلك الحركات الإسلامية الجديدة إلى بناء خطاب سياسى يمزج بين القيم الدينية الإسلامية وقيم الديمقراطية والتعددية، بل وأحيانا العلمانية أيضا.

ولم يكن الباحثون المصريون بعيدين عن هذا الجدل البحثى والسياسى. ففى عام 2004، أصدر الكاتب والمفكر المصرى عمرو الشوبكى كتاب «إسلاميون وديمقراطيون»، بمشاركة مجموعة من باحثى حركات الإسلام السياسى فى مصر وخارجها. وقد ضم الكتاب مجموعة من الإسهامات المميزة التى لم تسعَ فقط إلى تحليل العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، بل تطرقت أيضا إلى إشكاليات بناء تيار إسلامى ديمقراطى، وفرص نجاحه. وقد نجح الكتاب فى فتح حوار بين الإسلاميين وغيرهم من القوى السياسية فى مصر، وكذلك داخل الحركات الإسلامية نفسها، حول مشروع بناء حركة إسلامية ديمقراطية.

أجمع قطاع كبير من الباحثين أن مرحلة الإسلام السياسى بشكله التقليدى قد انتهت، وأن حركات الإسلام السياسى تتجه إلى ما وصفه المفكر الإيرانى آصف بيات بـ«ما بعد الإسلاموية». ويعرف بيات هذا المفهوم على أنه المشروع الذى يسعى إلى إعادة تعريف أهداف الحركة الإسلامية لتؤكد على حقوق المواطنين، بدلا من الواجبات الدينية التى سعت سابقا إلى فرضها عليهم، وعلى بناء نظم تعددية، بدلا من نظام الصوت الدينى الواحد، ولتهتم بمستقبل مجتمعاتها أكثر من اهتمامها بالماضى الإسلامى.

وجاءت لحظة الربيع العربى التى رأى كثيرون أنها تشكل دفعة جديدة للحركات الإسلامية الديمقراطية، فى مواجهة النسخة التقليدية للإسلام السياسى. وقد حققت الأحزاب الإسلامية فى مصر وتونس بالفعل نتائج متقدمة فى الانتخابات التى جرت نهاية العام 2011. بيد أن صعود تلك الحركات الإسلامية إلى السلطة جاء أسرع من جهودها لبناء مشروع الإسلام الديمقراطى الذى تحدث عنه عمرو الشوبكى وآصف بيات. وربما كان أيضا الوصول السريع إلى السلطة عقبة على طريق بناء مثل هذا المشروع. فلسان حال قيادات تلك الحركات الإسلامية فى مصر يقول «إذا كنا وصلنا إلى الحكم بالفعل، فما هى الحاجة الآن إلى إجراء مراجعات لأفكارنا». فقد جاء التغيير الفكرى لدى الحركات الإسلامية فى كل من تركيا وإيران قبل وصولها إلى سدة الحكم، والأرجح أن هدف الوصول إلى السلطة كان بحد ذاته أحد أهم دوافع العمل من أجل بناء مثل هذا الخطاب. لم تكن جماعة الإخوان المسلمين فى مصر مستعدة لفتح حوار حول تغيير خطابها السياسى، بل وعندما حاول بعض شباب الجماعة طرح تلك الأفكار للنقاش، تصدت القيادات لتلك المحاولات بشدة، رافضة أى نقاش حول بنية الحركة الفكرية.

كم يختلف اليوم عن الأمس. فقبل نحو 20 عاما كان شباب الحركات الإسلامية ينظرون إلى مشروع محمد خاتمى وحزب العدالة والتنمية فى بناء تيار إسلامى ديمقراطى، على أنه المشروع السياسى الملهم لهم. أما اليوم فهم يحتفلون بانتصار مقاتلى حركة طالبان وعودتهم لحكم أفغانستان. إلا أن هذا الاحتفال بعودة طالبان هو مجرد انعكاس للأزمة التى يعيشونها، ولا يعبر عن مشروع حقيقى أو حتى عن مستقبل حركات الإسلام السياسى. فأزمة حركات الإسلام السياسى ليست فى خروجها من السلطة، وهى لن تنتهى بعودة طالبان إلى سدة الحكم فى أفغانستان، بل إن المشكلة أعمق، وهى عجزها عن بناء مشروع سياسى ديمقراطى. لقد ظن الكثير من الباحثين أن طريق حركات الإسلام السياسى طريق مستقيم يسير من الإسلام السياسى إلى مرحلة ما بعد الإسلام السياسى من خلال بناء خطاب سياسى ديمقراطى. بيد أن الطريق ليس سهلا أو مستقيما كما تصورنا قبل نحو 20 عاما، بل هو طريق وعر وملتو، لكن الأساس فيه يظل المشروع الفكرى وليس سلاح طالبان.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل