المحتوى الرئيسى

أفغانستان.. الشريعة الإسلامية تلزم احترام حقوق النساء والفتيات

09/16 20:51

فى السابع عشر من شهر أغسطس/آب، وفى أول مؤتمر صحفى يذاع لها على التليفزيون منذ دخول كابل، استمع العالم إلى تطمينات طالبان بعدم التعرض بالأذى لمن قاومها أو الانتقام ممن عمل ضدها، بل والأهم من ذلك أنها طمأنت المجتمع الأفغانى حيال استمرار النساء فى العمل، واستمرار الفتيات فى الذهاب إلى المدرسة «طالما كانت هذه الأنشطة تتوافق مع تعاليم الشريعة الإسلامية».

ينبغى التوضيح أنه لا يوجد فى الإسلام تفسير واحد وموحّد للشريعة يمكن لأيٍ كان أن يحتكره أو يتحكم فيه. فمن أهمّ ما يميّز الإسلام عن غيره من الأديان السماوية هو غياب الكهنوت، إذ لا يوجد فى الإسلام رهبان ولا حاخامات ولا قساوسة، ولهذا فكل المؤمنين فى الإسلام سواسية كأسنان المشط.

ووفقا للقرآن، لا يحقّ لأحد أن يُكره أحدا غيره فى الدين، ولا أن يفرض عليه أى تشريع دينى (البقرة 2/ 256: «لا إكراه فى الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ»). وأفضل شاهد على هذه المقاربة المساواتية التى ميزت الدين وشريعته نجده فى التنوع الذى تزخر به التأويلات الدينية والاجتهادات التشريعية وفى تعددية المذاهب الفقهية القائمة إلى يومنا هذا. ويلاحظ أن النساء، كالرجال، لديهن الحقوق والمسئوليات نفسها فيما يتعلق بتفسير الشريعة، ومن المهم أن يُسمح لهذا التراث الغنى والمتنوع بالاستمرار فى جميع أنحاء العالم الإسلامى، بما فى ذلك أفغانستان.

من المؤكد أن كل السلطات فى أفغانستان، سواء الرسمية أو الفعلية، على دراية بالفرق الواضح بين الشريعة والفقه فى التراث القانونى الإسلامى. فلفظ الشريعة، ويعنى حرفيا الطريق أو المسار الذى يفضى إلى مورد الماء، يحيل على الرسالة الإلهية بما هى مجموعة القيم والمبادئ الدينية المُرسلة لتوجيه البشر إلى كيفية إدارة شئون حياتهم من أجل الفوز فى الدنيا والنجاة فى الآخرة، والشريعة هى القيم الإسلامية التى يتشارك فيها المسلمون مع البشرية قاطبة لأنها قيم عالمية ولأن الإسلام رسالة إلى العالمين، ومجموع هذه القيم يشكل مقاصد الشريعة، التى يُبيّنها القرآن وتتجلّى فى ممارسات الرسول، والتى يعتقد المسلمون أنها مقدّسة وأبديّه وصالحة لكل زمان ومكان.

أما الفقه، وهو مشتق من فَقِهَ بمعنى فَهِم وعلم، فهو العلم الذى كان نتيجة جهد بشرى لفهم هذه الرسالة الإلهية وترجمتها إلى قواعد وقوانين دنيوية، ولذلك فهو بشريّ يتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص وعلى العكس من الشريعة، فالفقه بشريّ ليس مقدّسا، وهو متغيّر وليس أبديّا. ويرجع إلى الفقه فضل تفاعل قيم الشريعة ومبادئها ومقاصدها مع واقع المسلمين ومع سياقاتهم المتغيّرة عبر الزمان والمكان، وهذا ما ساعد على استمرار صلة الشريعة الإسلامية بالأزمنة المختلفة التى يعيشونها وعلى المحافظة عليها.

ولكن عندما يشيع سوء فهم خطير يؤدّى إلى التسوية بين الشريعة الإلهية، بما تحمله من سلطة وبما لها من مكانة فى قلوب المسلمين وعقولهم، والفقه بما هو اجتهاد بشرى غير المعصوم من الخطأ ولا يمكن أن يكون نهائيا ومطلقا، فإن الكثيرين يدّعون أنهم ينطقون بالشريعة، بينما هم فى الحقيقة يتكلمون عن الفقه، وبذلك يضفون على الفقه قداسة لا تخصه وإنما هى تخصّ الشريعة.

طالما اشتمل الفقه أصنافا متعددة من الفهم ومن التفسيرات الإنسانية للشريعة. وفى واقع الأمر يحظى الاختلاف بين الفقهاء بالاعتراف على نطاق واسع مثلما يحظى بالاحترام فى التراث التشريعى الإسلامى. وقد روى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اختلاف أمّتى رحمة». هذا التشجيع على «المعارضة» وعلى تقبل الاختلاف فى الرأى هو أحد أسباب وجود المذاهب الفقهية المختلفة وبقائها إلى اليوم واستمرارها فى أداء دورها التنظيمى فى المجتمعات الإسلامية.

مع بدء أفغانستان لفصل جديد من تاريخها تستمر خلاله الشريعة فى لعب دورٍ محورى، بات من الضرورى ألا نحيد عن قيم الشريعة ومبادئها ومقاصدها الفعلية، المتمثلة فى ما يلى:

1ــ الكرامة المتأصلة فى كل البشر، رجالا ونساءً على السواء. وهذا مبدأ تؤكّد عليه جميع المصادر الأصلية للإسلام، وألزمت المسلمين كافّة بحمايته، كما ألزمت أولياء الأمور باتخاذ جميع التدابير لضمان تلك الحماية.

2ــ المساواة بين الرجال والنساء أمام الله. وهذا مبدأ يُعبّر عنه القرآن بشكل لا لبس فيه من خلال التأكيد على أن الله تعالى خلق الرجال والنساء من نفس واحدة. وخاطبهم سويا وذكّرهم بتساويهم فى الخلق وبتساويهم إزاء الله فى مسئولية وجودهم وبتساويهم كذلك فى الجزاء فى الآخرة (النساء 4 / 1، التوبة 9/ 71، والأحزاب 33/ 35). كما نجد تأكيدا على هذا المبدأ نفسه فى السنة النبوية أيضا.

3ــ وجوب إقامة العدل والقسط. والعدل هو المصطلح العام الذى ينطوى فى يومنا هذا على مبدأ المساواة بين البشر لتحقيق العدالة الفعلية. والعدالة كانت دوما جزءا لا يتجزأ من فلسفة القانون فى الإسلام، وهكذا ينبغى على أية قوانين أو تعديلات قانونية ــ تقدم باسم الشريعة والإسلام ــ أن تعكس قيم العدالة والمساواة. أما القسط، فيُحيل بشكل خاص إلى الوعى العميق بأشكال الظلم المنهجية والهيكلية التى تتجلى فى أى مجتمع، ويحيل كذلك على وجوب تحقيق العدالة بالتمييز الإيجابى لفائدة الفئات المتأثرة بهذا الظلم بمن فيها النساء. وكثيرة هى الآيات التى تكررت فى القرآن لتحث على القسط (ومن ذلك على سبيل الذكر لا الحصر: النساء 4/ 135، المائدة 5/ 8، النحل 16/ 90). وعلى نفس المنوال، نجد إدانة شديدة فى القرآن للتطفيف، بمعنى عدم المساواة والتمييز (الآيات ١ــ٦ من سورة المطففين).

4ــ الالتزام بضرورة حماية المجموعات المستضعفة، بما فى ذلك الناجون والناجيات من العنف. فالرسول يحث المؤمنين على منع الإساءة عندما قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».

هذه المبادئ، التى هى لبّ الشريعة، تتسق مع المبادئ والقيم العالمية لحقوق الإنسان، وتؤدّى عند اتّباعها وتطبيقها إلى تحقيق المساواة بين الجنسين وإلى إقامة العدالة فى القانون وفى الممارسة العملية. وهكذا يمكن القول إن الشريعة من هذا المنظور هى أقرب إلى مفهوم الأخلاقيات التى توجّه البشر نحو العدالة والسلوكيات الصحيحة.

لطالما سعى الفقهاء المسلمون عبر العصور إلى معالجة تغير السياقات والاحتياجات فى مجتمعاتهم. وإلى إيجاد حلول مناسبة للقضايا المستجدة، فكانوا يرجعون إلى نص القرآن المقدس، ويتدبرونه بواسطة المعارف التى تتطوّر عبر الزمن وفى ضوء الخبرات المكتسبة والقضايا المستجدة دون أن ينقطعوا خلال ذلك عن تطبيق المناهج الفقهية الإسلامية التى أتى بها علم أصول الفقه، ومن الممكن لهذا التوجه المجدى والغنى أن يخلق معرفة إسلامية صالحة للأزمنة المتبدلة وللأمكنة المختلفة قادرة على أن تستمر فى النهوض بوظائفها، بل وعلى أن تزدهر فى أفغانستان اليوم بطريقة يتكيف فيها التشريع الإسلامى مع احتياجاتها، ويعالج القضايا المتعلقة بالعدالة والنوع الاجتماعى.

وقد يتساءل المرء عن كيفية تحقيق ذلك. يمكن للفقهاء القيام بذلك اليوم باستخدام منهجية الاجتهاد (أى بَذل الجهد لتكوين حكم حول مسألة شرعيه)، والاجتهاد هو منهجية محورية فى الفقه الإسلامى طالما استخدمت لإيجاد حلول للمسائل المستجدة مع الاسترشاد بمجموعة القيم الكُليّة (الشريعة). كانت هذه هى الممارسة التى اتبعها الفقهاء القدامى بالشكل الذى سمح لهم بتطوير حلول للوفاء باحتياجات مجتمعاتهم الجديدة. وكانت الافتراضات التى جاءوا بها تضرب بجذورها فى معارف وقيم ومعايير ومؤسسات زمنهم، والتى هى شديدة الاختلاف عن واقع مجتمعاتنا اليوم واحتياجاتها، بما فى ذلك المجتمع الأفغانى.

إن مبادئ العدالة والمساواة بين الجنسين تعنى أن النساء والفتيات يحقّ لهن السعى إلى التعليم والوصول إليه على قدم المساواة مع الرجال. فالآيات الأولى التى نزلت على الرسول أمرت البشر جميعا ــ رجالا ونساءَ ــ بالتعلم: «اقرأ باسم ربّك الذى خلق» (العلق 96/ 1ــ5)، وإلى السعى إلى اكتساب المعرفة (الآيات ٧٨ من سورة النحل 16/ 78، الإسراء 17/ 85، طه 20/ 114). إضافة إلى أن العديد من الأحاديث المسنودة إلى الرسول تدعو الرجال والنساء إلى السعى فى طلب المعرفة («اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد» أو «اطلبوا العلم ولو فى الصين»). وكانت الكثير من صحابيات الرسول صلّى الله عليه وسلّم راويات للحديث، مما يُشير إلى تقبّل وضعهن كمصدر للمعرفة. ومنذ الأيام الأولى من الإسلام وإلى اليوم ساهم الكثير من المسلمين، رجالا ونساءً، فى كل الحقب وفى البلدان المختلفة فى إنتاج المعرفة فى مختلف المجالات، ممّا ينفى أى ادعاء بشرعية حرمان الفتيات من الحق فى التعليم.

مع الظهور الأخير لـحالات متزايدة من الزواج القسرى، بما فى ذلك زواج القُصر، من المهم التأكيد على أن صحّة عقد الزواج فى الإسلام تستلزم الوفاء بالعديد من الشروط، ومن أهمها شرط القبول الحر من قبل كلا الطرفين. القرآن يحظر بوضوح الزواج القسرى فى الآية ١٩ من سورة النساء التى تقول: «لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرها». ويؤكّد الحديث النبوى الشريف على نفس ما جاء فى القرآن الكريم من منع إجبار النساء فى الزواج، إذ يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم صراحةً ــ فى حديث صحيح منسوب إليه ــ إنه لا يجوز للمرأة أن تُنكح دون رضاها. وعلى الرغم من عدم وجود آيات قرآنية أو دليل فى السنة يقتضى موافقة الولى فالعادات والأعراف فرضت أن يتطلب الزواج هذه الموافقة من الولى دون أن ينفى ذلك شرط رضا المرأة. وتكفل الكثير من مواثيق حقوق الإنسان، ومنها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، الحقّ فى عقد الزواج دون إكراه وبرضا الطرفين الكامل، كذلك الحق فى الاختيار الحر للشريك. وهذا الحق مكفول بالفعل فى العديد من البلدان الإسلامية مثل باكستان وتونس والجزائر والمغرب والمملكة العربية السعودية.

ولكى يتسنى للطرفين العازمين على الزواج إبداء الرضا والقبول، ينبغى أن يكونا على دراية تامة بـتبعاته، والفقه الإسلامى واضح حيال ذلك من حيث اشتراط أهليّة العاقدين العقلية والقانونية والفكرية والبدنية، وصلاحيتهما لوقوع العقد بينهما وإبداء الرضا والقبول. وهذا الشرط يعنى بالضرورة أن زواج القصّر بحكم تعريفه لاغ وباطل. إنّ الزواج القسرى بمثابة اغتصاب، وهى جريمة شنعاء يُحرّمها الشرع ويعتبرها شكلا من أشكال الحرابة وهى حدّ من الحدود ذات العقوبات المغلّظة. والزواج القسرى، بما فى ذلك زواج القصّر، لا يعدّ شرعيا من جهة المصالح المرسلة (والتى يقابلها فى عصرنا وفى القوانين المعاصرة مبدأ المصلحة العامة) وذلك بالنظر إلى الآثار الضارة التى يلحقها بالنساء والفتيات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الدمار النفسى، والحمل المبكر الذى يضر بالأم والطفل ويقلل من إمكانية الحصول على تعليم. كما يحدّ الزواج القسرى وزواج القصر أيضا من قدرة الفتيات والنساء على تطوير أنفسهن وإمكانياتهن لكسب الدخل أسوة بالرجال، وهو الحق الذى يعطيه لهن القرآن (النساء 4/ 32). ويتسق تشديد الأدلّة الشرعية على حظر زواج الإكراه وزواج القصّر مع معايير حقوق الإنسان التى تحظر بدورها زواج من هم تحت سن الثمانية عشرة بالنسبة إلى الذكور والإناث على السواء. وكذلك فعلت الكثير من البلدان الإسلامية مثل بنجلاديش وتركيا والجزائر وسيراليون والمغرب التى راجعت النصوص الخاصة بالحد الأدنى لسن الزواج فى تشريعاتها ورفعته إلى ١٨ و١٩ وحتى ٢١ عاما.

أخيرا، وفيما يتعلّق بالحقّ الهام فى المشاركة السياسية، فإن للنساء الحق فى المشاركة السياسية على قدم المساواة مع الرجال اتّساقا مع المادة السابعة من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التى صادقت عليها دولة أفغانستان فى عام ٢٠٠٣. وتُلزم الاتفاقية الدول الأطراف بالقضاء على التمييز ضد المرأة فى حياة البلاد السياسية والعامة، وكفالة إعطاء المرأة الحق فى المشاركة فى صياغة السياسات الحكومية على قدم المساواة مع الرجال.

إن التاريخ والممارسة الإسلامية متوافقان تماما مع هذا الالتزام الدولى، فالكثير من الروايات عن الرسول وعن الصحابة تزخر بأحداث سياسية لعبت فيها النساء، وأولهن خديجة زوجة النبى الأولى، دورا بارزا. ومن بين تلك الروايات أن الرسول لم يكتف بـبيعة الرجال عندما رغب فى الهجرة إلى المدينة، بل طلب مبايعة النساء أيضا (الممتحنة 60/ 12). كما نجد أن زوجة النبى أم سلمة كانت هى من يقدم له المشورة القانونية والسياسية، وهى من أشارت عليه أثناء صلح الحديبية، وكذلك خلال فتح مكة. وفى المقابل لم يرد أبدا عن الرسول أو عن صحابته أو الخلفاء أى دليل يفيد الاستخفاف بآراء النساء أو منعهن من المشاركة فى السياسة لكونهن نساء، بل على العكس نجد أن آراء النساء كانت دوما محل تقدير واحترام، وقد ولّى الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، الصحابية ليلى بنت عبدالله العدوية القرشية التى لقبت بـالشفاء قضاء الحسبة.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل