المحتوى الرئيسى

محمود العربى ظاهرة عظيمة فى حياته وفى وفاته | المصري اليوم

09/14 04:06

غادر دنيانا، يوم الخميس الماضى، محمود العربى، الرجل الذى كان أسطورة فى التجارة وفى الصناعة وفى التعامل مع البشر عاملين وزبائن، جعل الجميع يحبه ويقدره. لم يُخْفِ محمود العربى أنه وُلد فقيرًا وابنًا لمزارع بسيط فى قرية أبورقبة بمركز أشمون بمحافظة المنوفية، وتعلم تعليمًا بسيطًا فى كُتاب القرية، وبدأ عمله فى الموسكى بائعًا، ثم أصبح شريكًا، ثم بدأ عمله الخاص بالتجارة فى الأدوات المكتبية، ونظرًا لذكائه وعقليته التجارية الفذة، انتقل من التجارة إلى تأسيس شركته عام 1964، وانتقل إلى الصناعة.

خواطر حول رحلة حديثة إلى أمريكا وتأثير الكورونا

مصطفى النحاس الزعيم الديمقراطى الوحيد فى تاريخ مصر

الديمقراطية تترنح فى أنحاء العالم

وكانت الطفرة حين زار اليابان وقابل مسؤولى شركة توشيبا، فأقنعهم بإقامة مصنع فى مصر. وكان يملك أرضًا فى طريق مصر- الإسكندرية، فعاينها الخبراء اليابانيون، ووجدوا أنها تصلح، وبدأ المصنع الأول الذى تطور إلى مجموعة كبرى من المصانع، فى مجمع كبير فى المنطقة الصناعية فى بنها، وأصبحت مصانعه تقدم حوالى 400 منتج صناعى، ويصدر إنتاجه إلى 22 دولة، وأصبح للشركة 2800 مركز توزيع و180 مركزًا متقدمًا للصيانة، واشتهرت شركة العربى بجودة المنتجات والاهتمام الشديد برعاية الزبون بعد الشراء، فالصيانة تتم على أعلى مستوى، وبطريقة سهلة، ومنظمة، بحيث اكتسب الثقة، وتفوق على المنافسين، الذين لا يهتمون بخدمة ما بعد البيع. وتعاون «العربى» مع كبرى الشركات اليابانية، بالإضافة إلى توشيبا، مثل سونى وسيكو وهيتاشى. وكرّمته اليابان بإعطائه وسام الشمس المشرقة، الذى منحه له إمبراطور اليابان.

قامت شركة العربى بتشغيل عشرات الآلاف من العاملين، وفتحت بيوتًا كثيرة، وراعت حقوق العمال من مرتبات مجزية ومكافآت سخية وتأمين اجتماعى وصحى، ووضعت لوائح حاكمة للعاملين، بحيث مُنع البقشيش تمامًا، ولم يُسمح بالتداخل فى العمل. وكانت مقولته: (مافيش حد بيشتغل عندنا، فيه حد بيشتغل معانا)، واعتبر جميع العمال شركاء. وكانت الشركة ملتزمة بقوانين الدولة، فلم نسمع أنها خالفت القوانين أو لم تدفع ضرائبها بانتظام. أدار «العربى» الشركة مع أخيه وأبنائه وأبناء إخوته بنظام حديث منع ازدواج المسؤولية.

كان «العربى» يفكر فى قريته الفقيرة، فعمل الكثير من أبنائها فى شركاته، وبنى مستشفى ضخمًا فى القرية لعلاج أهالى المنطقة، وأسهم فى تحسين الخدمات فى القرية.

محمود العربى مثال مهم لمصرى بسيط استطاع بكفاءته وفكره وأمانته أن يصبح رجل أعمال ضخمًا يساند الاقتصاد المصرى. دخل مجلس النواب، لدورة واحدة، تحت ضغط، ورفض الدخول بعد ذلك لأنه أراد أن يتفرغ لعمله الأساسى بدون الاستفادة من وضعه السياسى كما يفعل البعض.

شُيِّعت جنازة محمود العربى فى موكب رهيب شاهده المصريون على «يوتيوب»، وتناقلته صفحات «فيس بوك». ربما تكون جنازة «العربى» هى الجنازة الشعبية الوحيدة شديدة الضخامة لتاجر أو رجل أعمال فى تاريخ مصر. شهدت مصر جنازات شعبية ضخمة، كانت أولاها جنازة سعد زغلول، ثم مصطفى النحاس، ثم جمال عبدالناصر، ولم تشهد مصر جنازات شعبية للعائلة المالكة، فبعضهم مات منفيًا مثل إسماعيل وحسين كامل وفاروق، ومَن مات فى مصر شُيع جثمانه فى جنازة رسمية، وكان آخرهم الملك فؤاد فى عام 1936.

فى العصر الجمهورى بعد عبدالناصر، كانت جنازة السادات جنازة رسمية حكومية، وهى واحدة من أكثر الجنازات فى التاريخ الحديث التى حضرها رؤساء دول وملوك، ولكن لم يشارك فيها الشعب المصرى. وكانت جنازة مبارك أيضًا جنازة رسمية، بحضور أعداد قليلة. هناك شخصيات عامة أُقيمت لها جنازات شعبية ضخمة، من أهمها وأكبرها جنازتا أم كلثوم وعبدالحليم حافظ لأنه كان لهما تواجد شعبى كبير وصورتهما كانت ومازالت محفورة فى قلوب المصريين، وكذلك كانت جنازة الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس أركان الجيش، بعد اشتباك على الجبهة، جنازة شعبية ضخمة.

بعكس فنان ضخم مثل محمد عبدالوهاب، الذى كان له تأثير بالغ على الموسيقى والغناء وله مكانة فنية ضخمة، إلا أنه لم يكن له الحضور الشعبى الكبير فى قلوب الجماهير. ولذا لم تكن جنازته تماثل أم كلثوم وعبدالحليم. الجنازات الشعبية هى المقياس الحقيقى لحب الناس وتقديرهم للإنسان، وفى تقديرى تفوق الجنازات الرسمية لأنها الجنازات التى يذكرها التاريخ، وتظل عالقة فى وجدان الشعب.

شركة العربى كانت مثالًا عظيمًا لتوظيف رأس المال فى خدمة المواطن والمجتمع والدولة بأكملها: إنتاج حديث قادر على المنافسة فى الجودة والسعر، ورعاية كاملة للعاملين، مع أجور عادلة. هذا النوع من الرأسمالية يجب على الدولة أن تشجعه وتقدم له تسهيلات، وتمنع عنه أى معوقات. فلسفة النظم الاشتراكية هى أن تقدم الدولة هذا النوع من الأعمال بنفس الكفاءة، مع رعاية العاملين، وقد فشلت دول العالم الثالث فى تطبيق هذه النظم، وفى نفس الوقت فشلت فى خصخصتها بطريقة تحفظ حقوق الدولة وتستمر المصانع والمشروعات والإنتاج، وكانت النتيجة هى مجموعة صغيرة من رجال الأعمال المتميزين الذين يقدمون خدمات ثقافية وتعليمية واجتماعية، وعدد كبير من الشركات الحكومية الخاسرة، وعدد من رجال الأعمال لا يلتزمون بحق الدولة ولا حق العاملين.

والآن ما مستقبل شركة العربى بعد رحيل مؤسِّسها؟. أعتقد أن عقلية محمود العربى كانت تفكر فى هذا اليوم، وبالتأكيد وضع مخططًا للمستقبل، بحيث تستمر الشركة تحت إدارة أعظم الكفاءات، وبطريقة علمية، وحسب القواعد التجارية. الشركات العائلية فى مصر تكون جزءًا كبيرًا من القطاع الخاص، وفى دراسة ثبت أن معظم هذه الشركات تفشل عند تولى الجيل الثالث. ولذا على أصحاب الشركات العائلية بغض النظر عن الشكل القانونى للشركة أن يفكروا فى كيفية إدارة الشركات ونظامها فى الجيل الثالث، وهو ما يتطلب قوانين ونظمًا للشركة توضع منذ اليوم الأول، بحيث يمكن أن يستمر العمل ويكبر فى الأجيال القادمة.

أهم أخبار كورونا

Comments

عاجل