المحتوى الرئيسى

الحلقة الرابعة: أبيض كصوت الملائكة

08/05 18:42

ابتلع الجميع موت الشّاعر، برغم المرارة التي خلّفها، وتقبّلوه قبولاً صامتًا، فما من حيلةٍ لديهم أمام حقائق الوجود المرعبة والمؤكّدة منذ الأزل، لكن الأب "عم يوسف" الوحيد الذي رفض أن يبتلع هذه الحقائق، وأصرّ على الاحتجاج ضدها، بالطّريقة التي لم يفكّر بها أحد: المحكمة. كان يريد أن يثبت للسّلطات، لهذه الكتلة المعدنيّة العمياء التي قتلته، أن القتيل لم يكن عاديًّا، وما حدث هو جريمة اغتيال مكتملة الأركان، مؤامرة على أمله الوحيد في الحياة.

أما الرّفاق، فقد شرعوا في لملمة نُثار "عليّ" المبعثر في جميع الأرجاء: أوراقه، كتبه القليلة، دفاتره، خطاباته، تصاويره، وحتى ملابسه المتروكة في مدينة الطّلبة. كل شيء سوى أحلامه التي حاولوا القبض عليها قبل أن تضيع.

تسجّل مجلّة "الكاتب"، أكتوبر 75- والتي نشرت نعيًا للشّاعر في عددها السّابق مع قصيدة له: "متواليّات المغنّي والنّهر"- هذه المحاولة المبكرة:

                  نعي "الكاتب" سبتمبر 75

"في الشّهر قبل الماضي، اختطف الموت الشّاعر الشّاب، عليّ قنديل، وكان موته ضربة ساخرة من ضربات القدر، فهو لم يمت على فراش أو عقب مرض، وإنما مات في الطّريق، ضحيّة سيّارة عمياء وسائق مجنون، وكان عليّ قنديل موهبة تعد بالكثير، وتستقطب الكثير من زملائه وأبناء سنه، ولد بقرية الخادميّة مركز كفر الشّيخ، في 5 إبريل 1953، وتفوّق في دراسته الإعداديّة فالتحق بالمدرسة الثانويّة للمتفوّقين في القاهرة، والتي أهّلته للالتحاق بكليّة الطبّ عام 1971، وفي كفر الشّيخ، اشترك في تأسيس جماعة أدبيّة باسم "حوريس". وفي القاهرة، اشترك في تأسيس ندوة مجلّة الشّباب الأسبوعيّة، وفي المدينتين معًا كتب شعره المتدفّق الوهّاج، وتعلّق بحلم جميل: أن يجدّد في القصيدة العربيّة، وأن يشحنها بكهرباء جديدة، وفي محاولته الدائبة لتحقيق حلمه- الذي شاركته فيه مجموعة من زملائه وأصدقائه- راح يجدّد ويغامر بحبّ بالغ للشّعر وإيمان صوفيّ برسالته. ثم مات عليّ قنديل، فجأة وبغير مقدّمات، ومع الدّهشة واللّوعة تجمّع أصدقاؤه وزملاؤه، وراحوا يجمعون شعره ويتأمّلون فيه، حتى صار لديهم ما يقرب من الملف، جاءونا به بغية أن يظلّ عليّ قنديل زميلهم متوهّجًا ومضيئا".

وفيما يشبه الملف، كتب حلمي سالم ما يشبه الـ(مانيفستو):

"ليس الحزن على "عليّ قنديل" سوى إدراك لما كان يعد به- وعدًا موهوبًا- من عطاء، كان واحدًا من الشّعراء المصريين الشبّان الذين يحاولون- بإخلاص ومسئوليّة- خلق حساسية جديدة في القصيدة.. يحاولون في معاناة شهيدة وصمت.

إن الموجة الشّعرية الطالعة- التي يعد عليّ قنديل أحد تجسّداتها الدقيقة- وعت وعيًا كاملاً أن القصيدة العربيّة في حاجة إلى كهربائيّة مختلفة.

إن "الإصلاحيّة الشّعريّة" لم تعد قادرة على تقديم حل ملائم لمشكلة تطوّر القصيدة، لقد آن الوقت لـ"ثورة شعريّة جديدة".

إن هذه الكهربائيّة الجديدة بدأت ترى أنه قد حان وقت التأكيد الشّجاع على:

أن الشّاعر الذي لا يرتبط بحركة شعبه الصّاعدة، وبحركة شعريّة معبّرة بجدليّة راقية ومعقّدة عن الاستمراريّة التاريخيّة، شاعر لن يبقى في ضمير أمّته لبرهة من الزّمن.

إن القصيدة العربيّة دائمة البحث عن شكلها الحقيقيّ. أي: لا ثبات في شكل القصيدة، بل تغيّر وصيرورة.

وإذا كان الشكل- بمعناه الحضاريّ لا بمعني الثوب أو الوفاء- هو الخبرة الاجتماعيّة لجماعة بشريّة محدّدة في مكان وزمان محدّدين عندما تتّخذ صيغة ثابتة.

وإذا كانت هذه الصيغة تعمل جاهدة لأن تصبح مستقرة وسائدة حفاظًا على البقاء، فإن ضرب هذه الصيغة الثابتة هو المهمّة الجوهريّة.

أي إن ضرب الشّكل السكونيّ في الفن يصبح مهمّة الفنّان الأساسيّة، لأنه يصبح ضربًا لصورة من صور الصيغ الاجتماعيّة والفكريّة والفنيّة التي تتجه نحو الثبات والسيادة، أي إلى الرجعيّة.

              مقدمة ملف "الكاتب" أكتوبر 75

كيف جعل صلاح عبد الصبور، رئيس تحرير "الكاتب"، من صفحاتها ميدانًا للشّعراء الشبّان الذين يعلنون الثورة عليه هو بالأساس، ومعه كل التجارب التي خرجت من إهابه الجبّار وسلطته السّاحرة؟ إن هذه "الحساسيّة الجديدة" التي يتحدث عنها "حلمي" تستهدف بوضوح "الإصلاحيّة الشّعريّة" التي مهّد لها الطريق وشيّد معالمها عبد الصبور ورفاقه من جيل الخمسينات، وجاء الجيل الثاني في الستينات صورة باهتة منها، وهو نفسه الشّاعر والمسئول الثقافيّ الكبير الذي اتهمه عفيفي مطر باضطهاده والاعتراض على نشر ديوانه الأول "من دفتر الصّمت" في هيئة الكتاب قائلاً: "لن يحدث ولو على جثّتي".. "رجاء النّقاش.. ثلاثون عامًا مع الشّعر والشّعراء".

بمعنى آخر. لقد كان العداء صارخًا بين هذه "الموجة الشّعريّة الجديدة" وبين المؤسّسة الثقافيّة الرسميّة التي تصدر "الكاتب"، والتي يعرف الكثيرون قصّة تحوّلها من مجلّة "سياسيّة يساريّة" أيام أحمد عبّاس صالح، إلى "ثقافيّة يمينيّة" بعد أن وافق "عبد الصّبور" على تولّيها. وإذا كان الشّعراء الشبّان نشروا ملفهم الصّغير فيها على طريقة "جرامشي" في احتلال المواقع والتسويّة والثورة السلبيّة، فهل كان "عليّ" رفيقهم الميّت هو الذي فتح لهم الأبواب المغلقة، أم أن الأمر تشوبه بعض الانتهازيّة المشروعة في هذا السّياق؟

اتخذ "حلمي سالم" من موت عليّ قنديل تكئة لإعلان الثورة على الماضي، وإشهار ملامح الموجة الشعريّة الجديدة، من داخل معاقل السّلطة الثقافيّة نفسها. أما عليّ قنديل فقد طمرته الموجة التي لم تتحقّق بعد بالكامل، "فثمّة مسافة بين الطّموح والتجسّد"، كما يقول "حلمي" نفسه، غير أنها "مستمرّة المحاولة المخلصة في اتجاه الحلم" الذي سيهرب أبدًا.

أما سيّد حجاب، قائد "ندوة الشّباب"، فقد سار على نفس طريق "حلمي" في مقالته بالعدد نفسه من "الكاتب"، واتّخذت "كائنات علىّ قنديل الطالعة"- عنوان إحدى قصائده شديدة الخصوصيّة كما هو واضح من العنوان- "ملامح عامة" للجماعة، فماذا ترى تلك الكائنات الشّعريّة الطالعة؟ يسأل "حجاب" ويجيب: "هم يسعون نحو شمول الرّؤية وعمق نفاذها، لا كما سعى الشّعراء- السّاسة في الخمسينات، فأولئك ظنّوا تعرضهم لقضايا السّياسة المثارة عالميًّا هو طريق الشّمول والإنسانيّة، أما شعراؤنا فشمول الرّؤية عندهم وعمق نفاذها يصدران عن امتلائهم بجدل الكون والإنسان، كل شيء لديهم يتحرك ويتحرك، ولا نهاية للجدل، أشعارهم نفسها حركة دائبة وتحولات مستمرّة وجدل لا ينقطع، والإنسان عندهم كائن اجتماعيّ وسياسيّ وتاريخيّ وأنثربولوجيّ، وكل شعرهم منذور لهذا الإنسان، ومعجون بهذا الجدل، قواميسهم اللّغوية الخاصّة، وصورهم الجزئيّة، وموسيقاهم الشّعرية، ومعمار قصائدهم، والدّهشة- الإدانة- البشارة، كل هذه الأشياء عندهم تعكس جدل الإنسان في الكون".

وبعد، أين عليّ قنديل؟ إننا لا نراه سوى "واحد منهم" بتعبير سيّد حجاب، لا وجود له خارج هذه المجموعة، أو جيتو مجلّة "الشّباب" الشّعريّ، والمقال بعد ذلك ترجمة نثريّة لأشعار علىّ قنديل. أما جمال القصّاص، صاحب المقال الثالث في ملف "الكاتب"، فقد ابتعد عن التبشير بالجماعة، وآثر التسامي فوق الصّراع برمته، محاولاً الاقتراب وجدانيًّا من رفيق دربه الرّاحل، ابن جلدته: "في زحمة الاقتراب والتردّي، وصخب الحديث عن أزمة الشّعر المعاصر نطالع ملامح شاعريّة أصيلة، تغتلي بفرح الأسئلة، تملك حساسيّة جديدة باللّغة والمنهج والتصوير والتصوّر، إنه عالم طازج بليونة الماء، يستضيء وتتوحد مفرداته وتنمو عشبًا وأزهارًا على خريطة الزمن الموغل في الوحشة والغرابة، زهرة تتفتّح للهدوء والضّجيج، رجّة تختمر في خلايا الترحّل والاندفاق، حلم باكتشاف الولادة الشّاملة، ومعجزة البرق والمطر وانتظار التفتّح، منسلخًا من عفويّة الأشياء، واقفًا على صيرورتها، ذائبًا في الكون كالفراشة الحائمة. إنه عالم عليّ قنديل- الشّاعر الحالم بالرياح المغامرة وبالمخاض إذ يجيء من رعدة الطين، وتشقّقات الحجارة، وبالطبيعة إذ تصحو مليئة بكائنات التحوّل، مطلقة روح الأشياء كي تخاصر العناصر البريئة، وتكسر عقم الترصّد والضرورة وينزل كل شيء ساحة الإشراق".  

                             "الكاتب" أكتوبر 75

سقط الملف الصّغير إذن في فخ "المراهقة الثوريّة" التي لا ترى سوى مجموع الأجزاء في كيان جديد آخذ في التّشكل. يقول "جمال": "كنا عائدين من جنازة رفيقنا في كفر الشّيخ. ومرهقين للغاية. لم تتح لنا وقتها فرصة كافية لمراجعة نصوصه المبعثرة في كلّ مكان، حيث طلبت منا المجلة الكتابة على عجل قبل صدور العدد الجديد، لذا لم تخرج كتابتنا عن كونها انطباعات، وهو أمر منطقيّ، إذا وضعنا في الحسبان إحساسنا العميق وقتها بالفاجعة".

هذه الانطباعية هي ما دعت "واحدًا منهم" أيضًا، هو حسن طلب، لنقض وتقويض الملف في العدد التّالي للمجلّة: "ما كتبه حلمي سالم ليس مقالاً بالمعنى الدّقيق، بل ديباجة موجزة مركّزة على حقيقة يتيمة، هى أن علي قنديل كان واحدًا من حركة أدبيّة شابة تسعى لخلق حساسيّة جديدة من خلال فهم استراتيجيّ للفنّ على أنه مجرّد تشكّيل، ولعل حلمي سالم لم يكن معنيًّا بخصوصيّة الكّتابة عن عليّ قنديل بقدر ما كان مهتمًّا بالإشارة إلى تلك الحركة التي ينتمي إليها، ومن هذه الزّاوية تكون ديباجته قد أدت المطلوب منها".

يرى "حسن" الآن أن تجربة السّبعينات في الشّعر المصريّ استنفدت نفسها: "كانت الثّورة على أجيال الروّاد مبرّرة في ذلك الزّمن، أيّ جماعة تبحث عن الاتّفاق في البداية، وفي ثورتنا لم يكن هناك مستوى واحد من الإنتاج يجعلنا نطبّق على الجماعة مقولة واحدة، وكنت أخاف أن تتحوّل المسألة إلى جمعيّة تعاونيّة، وليست جماعة شعريّة، لأنها لو استمرّت متكاتفة كجماعة طوال الوقت ستناصر بعضها في الخطأ والصّواب، إن الشّاعر الحقيقيّ يبحث دائمًا عن الاختلاف والتمايز".

أما جمال القصّاص فيشدّد على فكرة التعدّد داخل الكتلة. ويقول إنها- الكتلة- "هي التي تحفظ التنوع بين الشعراء، إن التيّار أو الحركة أو الجيل كيان يسند بعضه بعضًا، والشّعراء من خارج الأجيال عراة بمعنى ما، لكن من عيوب الكتلة أن يتم النّظر إلى كلّ الشعراء بقانونها نفسه، لا بقانون كلّ شاعر على حدة، لذا لابد لها أن تتفتّت في النّهاية بعد أن تؤدي دورها، وساعتها يجب أن يضرب لها الجميع "تعظيم سلام".

كان مقال أو ردّ "حسن طلب" على زملائه في مجلّة "الكاتب"، هو الخروج الأوّل عن السّياق الاحتفاليّ بـ"موت شاعر شاب"- وهو عنوان الملف- أما الخروج الثاني عن هذا السّياق، فكان مقال الدّكتور جابر عصفور "حالة وخم شعري" في نفس العدد من المجلّة- نوفمبر 75- حيث هاجم "عصفور" الحركة الشّعريّة المصريّة الرّاهنة كلّها، مشيرًا إلى استرخاء الشّعراء الرّواد: "صلاح عبدالصبور قانع بيوميات كاتب مسالم أو مستسلم، وحجازي مغترب يكتب في عامين قصيدتين. ويشغله تدريس العربية في السوربون ومراسلة صحيفة مصوّرة"، أما أمل دنقل، وعفيفي مطر، وإبراهيم أبو سنة، فلا جديد لديهم، بحسب "جابر"، وأما التجارب الجديدة فـ"مسطّحة لأسماء يضنيها السّعي وراء النّشر أكثر مما تضنيها المعاناة الإبداعيّة. وكأن حركة الشّعر الحرّ في مصر قنعت بما أنجزت فلا تتجاوز إطار محلّك سر". ولم يستثن "عصفور" سوى قصيدة "القاهرة" لعليّ قنديل، المنشورة في العدد السّابق، مؤكدًا أن "عليًّا"، الشّاعر الميّت، هو أشعر الجميع.

في ذلك الزمن، كان يمكن لخلاف حول قصيدة أن يفجّر معركة بالأيدي والبذاءات بين أمل دنقل ونجيب سرور، فلّاحيْن رفيعيّ الموهبة يحطّمان الزمن البازخَ والتقاليد على مقهى ريش. ماذا سيفعلان وهما جزء من مجتمع شعريّ كبير تعرّض بالكامل للاستبعاد من الخريطة بجرّة قلم؟ إن مقال "عصفور" الذي أغضب الكثيرين، بمن فيهم "العرّاب"، عفيفي مطر نفسه، دفع الأخير لأن يقول لـ"الشّهاوي" بصوت لم يسمعه سواهما: "هل كان عليّ قنديل سيكتب قصيدة "القاهرة" لو لم يقرأ لي كذا وكذا وكذا". قالها بأسىً بالغ وفي سريّة تامة، وهو واحد من المعسكر الشّعريّ المضّاد غير الرسميّ، فما الذي كان يحدث في المعسكر الآخر؟

عادل السّيوي يصحبنا إلى تلك الأمسية البعيدة في أتيليه القاهرة، والتي كانت مخصّصة لتأبين عليّ قنديل بعد أيام قليلة من وفاته. هناك في صدر القاعة الخارجيّة المكشوفة سنرى الشّاعر عفيفي مطر، والأديب الفلسطينيّ غالب هلسا، أما الجمهور فإن غالبيتهم من رفاق "عليّ" الشّباب، الذين لم يستوعبوا بعد صدمة الفراق، تتلبسهم حالة من الإنكار التام إزاء حقيقة الموت، وبينما غرق الجميع في الوجوم، جاء نجيب سرور، يحمل كأسًا من الكونياك- كانت الخمور تقدّم في الأتيليه خلال تلك الأيام- ثم طلب الكلمة ليقول للحضور: "أريد أن أقول شيئًا، وأرجو ألا تغضبوا مني. أنا سعيد بأن عليّ قنديل قد مات".

                               نجيب سرور

كان "نجيب" يرى أن "عليًّا" اتجه في قصائده الأخيرة إلى التهويم، وهو ما يمثّل بالنّسبة إليه مؤامرة على الشّعر المصريّ من قبل سدنة "أدونيس". والغريب أن أحدًا لم يلق بالاً لما قاله، واستكملوا حفل التأبين كالمعتاد. كانوا يريدون أن يفوّتوا عليه فرصة إفساد الحفل وحرف مسار الحوار إلى معركة بين الشّعريّتين: "السّياق الرسميّ والحساسية الجديدة". "نجيب" ابن مدرسة الروّاد، التي دأب الحاضرون- وأبرزهم "مطر"- على قتالها، وكان عليّ قنديل، قبل أن يموت هذه الميتة المفاجئة، هو "رأس الحربة" البارز في هذه المعركة.

إنه زمن الاقتراب أكثر من الناس، زمن التماهي بين الكتابة والفعل والقضيّة، وهو أيضًا زمن الكارثة بامتياز.

أما ملامح الكارثة فسوف يسهب فيها عفيفي مطر تقعيدًا وتنظيرًا بعد عام واحد- نوفمبر 76- لدى صدور ديوان "كائنات عليّ قنديل الطالعة"، دار الثّقافة الجديدة، والذي كتب "عفيفي" مقدمته، وهي أوّل وآخر مقدمة يكتبها "مطر" لشاعر آخر:

"يسيطر على مسار الحركة الثّقافيّة في العقدين الأخيرين نمط خاص من أنماط الاستقطاب الحاد في ثنائيّته ومانويّته، فالصّراع يدور- في علاقة واحدة: بين طرفين هما الحذف والاستبعاد من ناحية، والتحالف العشائريّ والتواطؤ الكلبيّ من ناحية أخرى، وأسهم التخلّف الشّديد والتبعيّة العاجزة في مدارس علم الاجتماع والاتجاهات السّياسيّة والدّراسات الاجتماعيّة والسّياسيّة، في أن يبقى الإسهام المبدع في المناهج أو التطبيقات غائبًا، وتم حصار الصيرورة وحركة الحياة على أرض مصر بين فكيّ الحلقتين الجهنميّتين المتمثّلتين في:

تزييف الوعي بالواقع، مما أسفر عن الانتماء المسطّح للنّضال الكلاميّ في غياب المعرفة الحقيقيّة وغياب الممارسة الواقعيّة، والسباحة السّهلة في نهر الشّعارات حتى أوصل ذلك في ظل الإحباط الشّامل وعشوائيّة المصائر الفرديّة والجماعيّة إلى صميم المستوى العقليّ والنفسيّ.

تزييف الواقع بالوعي، مما أسفر عن سيادة الاتجاهات البراجماتيّة وشيوع الفكر التبريريّ وتحوّل المرحليّة إلى انتهازيّة مغرورة وصلفة، حتى أوصل ذلك إلى اعتبار المكتوب والمعلن ومضمون الدعاية واقعًا بل هو الواقع، والتحقيق والتنظير المتهافت للمستقبل على أساس هذا الواقع الموهوم، وهكذا غرقت جميع المصطلحات العلميّة في التحليل السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ في الكذب وفوضى التقريبيّة ووجهات النظر الشخصيّة النفعيّة التي تلبس مسوح العلم وأردية الرّصانة، وفي ظل ما سبق، تكون هذه الكتابات بمعادلاتها في الثّورة والثّورة المضادة، وفي القديم والحديث، وفي الأصالة والمعاصرة، وفي الشّكل والمضمون.. إلخ، هذه الثنائيّات الشّهيرة الجهيرة، تكريسًا لسياق الاندماج التّام فيما هو قائم، وترسيخًا للالتزام الميكانيكيّ الخالي من الهواجس الخلّاقة والأسئلة المضيئة.

بعد أن جمعوا أشعار عليّ قنديل المبعثرة لإصدارها في كتاب، اضطلع عفيفي مطر بوضع هذه المقدّمة التي استغرق في كتابتها وقتًا طويلاً جدًا- عدة شهور بحسب "الشّهاوي"- لعل ذلك ما يبرّر تأخر الإصدار عامًا وأكثر بعد وفاة الشّاعر. إن عفيفي مطر أصرّ على أن "عليًّا" يخصّه، ومن ثم يجب أن يسيطر كليًّا على الشّاعر الميّت، ويصوغه من جديد على هواه، بعد احتضاره، ليشمل الزّمن بالكامل لا شخصه المفرد، كأنه يكتب شهادته الوحيدة الخالدة، لقد كان "عليًّا" مغريًا بالاحتكار، والشّاعر الكبير، كالحصان القويّ، دائمًا ما يكسب الرّهان.

وفي الشّهادة/ المقدّمة يعيد الشّاعر الكبير صياغة رؤيته للمشهد الثّقافيّ العام، والتي سبق أن رأى الجميع ملامحها الأساسيّة في الافتتاحيات المتتالية لمجلّة "سنابل"، لكن هذه المقدمة ستبقى في الزّمن أكثر من المجلّة السيّارة التي توقفت بأمر السّلطات:

"لقد سادت منهجيّة عجيبة في الكتابات النقديّة حول الشّعر، خصوصًا في مصر، تركز المسائل ووجهات النظر حول ما يسمى بقضيّة الأجيال، يكمن تحتها بصراحة شديدة موقف الحذف والاستبعاد وموقف التجميع القبليّ والعشائريّ، والمعايير النقديّة خاضعة بالدرجة الأولى لعوامل العمر أو مراحل الصعود والهبوط للأسهم الاجتماعيّة والوظيفيّة والأهميّة الخاصة غير الفنيّة لتيّار يراد حذفه أو تعويمه على السّطح، مع عدم الالتفات أو الاهتمام بالشّعر كمادة لتاريخ الرّوح والإبداع والتحوّلات الكبيرة في الحساسيّة، وساهمت هذه الكتابات في تدعيم ما هو قائم على مستوى الفنّ، وصنعت جوًّا من الإرهاب النفسيّ والفنيّ ودمّرت الأخلاقيّة الخاصّة بالخلق الشّعريّ، ومن بين هؤلاء النقّاد من لا يستطيع القراءة الصّحيحة لقصيدة مهما كانت، ومنهم من اعتمد كتابًا أو كتابين مترجمين، أو مدارس وتيّارات يقوم بالتّلفيق بينها ولا يبذل- حتى- جهد التوفيق، وكانت ثمار هذه الكارثة أن سيطرت على الشّعر في مصر أدنى مراتب التقليديّة على المستويين: القديم والحديث، وفرضت التماثل والتشابه والتكرار إلى حد أن سطرًا واحدًا من القصيدة كان يكفي لمعرفة بقيّتها، شكلاً ومضمونًا، أداة وبناءً، وبسيطرة هذا التطبيق النقديّ، انطفأت لدى الشّعراء جرأة الاكتشاف والمغامرة وبراءة الخلق غير المؤطّر بالأطر الحديديّة المقدّسة، فما من إضافة حقيقيّة كبيرة في الحركة الحديثة يمكن أن نعدّها ملكًا خالصًا لشاعر في مصر، مهما روّجوا لأكذوبة "الرّواد" وغيرها من الأكاذيب الشّعريّة التي لا تعد".

                              غلاف "الكائنات"

لو عدنا بالزمن قليلاً إلى الوراء، قبل عدة سنوات من صدور هذه المقدمة، سنجد "عفيفي" يقول المعنى نفسه- افتتاحية "سنابل"، عدد مايو 70: "ليس عبثًا ولا وهمًا ما نحاور ونجادل فيه بكلّ عنف ووضوح وبساطة، حينما نقول إن الحركة الثّقافيّة في مصر تحتاج- احتياج وجود ومصير- إلى الحوار الشّامل حول ما هو متعارف عليه حتى أبسط البديهيّات وأكثرها شيوعًا وثباتًا وأقدمها دورانًا على الألسنة حتى تكاد تصبح إيمانًا لا يتزعزع، ولا يتعرّض للسّؤال المبدئيّ حول حقيقة وجودها، ونعرف في نفس الوقت خطورة ما نقوله بهذه البساطة الشديدة، ومدى ما يمكن أن يثيره لو تخلّى مثقّفو مصر عن رضاهم المتطرّف عن أنفسهم، ولو تخلّوا عن إغمائهم الخرافيّ في نشوتهم الدونكيشوتيّة إذ نراهم ونرى أن "كل حزب بما لديهم فرحون"، فلو ناقشتهم ألف عام لتخلّوا لك عن جلودهم قبل أن يتخلّوا عن مصطلح واحد مما يشنشنون به شنشنة الببغاوات، وحينما وجهنا النظر اخترقت أعيننا نفس الظّاهرة.. هذا الرّكام الهائل من التقسيمات والتحليلات، هذه العمائر المقامة في الهواء من تنصيب الأجيال وتوزيع الريادات والألقاب والزّعامات، هذه الحركة التقدميّة التي أكثرت من الطنين والضّجيج، هذه المعارك الفارغة التي يكمن وراءها المرض الخبيث المتخفي: محاولة خلق زعامات في الثّقافة تعويضًا عن الفشل الداميّ لنفس هذه الزّعامات في مجالات أخرى، وذلك بالضّرب على وتر الضّعف والعاطفيّة المتميّعة في نفوس الشبّان الذين وقعوا تحت سطوة التزييف وتدليك الأعصاب".

إن مقدمة "كائنات عليّ قنديل الطالعة" لم تكن سوى نهاية لعمليّة استحواذ واعية على تاريخ شخص آخر، والتصرّف فيه وتوجيهه صوب مرامٍ محددّة، كأن جثة الشّاعر الشّاب شاهدة على عدالة القضيّة التي يطرحها "مطر"، وهو لن يشهر الجثّة للعيان وهي مشوبة بالنّدوب، حتى لو كانت هذه النّدوب قليلة للغاية، لابد أن يكون الشّاهد نقيًّا من الشّوائب، ومن هنا قرّر عفيفي مطر التدخّل في قصائد الشّاعر الميّت، لتصويب الهنّات العروضيّة والنحويّة في بعض المواضع. ولكي لا يتحمّل عبء هذا الذّنب الكبير وحده، استدعى "الشّهاوي" ليقتسما الثقل الفادح بالتساوي: "أريدك أن تتصوّر لو أن العمر امتدّ بعليّ قنديل، ألم يكن سيعود إلى الهنّات العروضيّة والنحويّة لتصويبها؟ قلت له إن عليًّا لا يتعمّد الخطأ". وهكذا اتفق الاثنان على العمل: "كنت أتصوّر أن ذلك سيكون في صالح الدّيوان، حتى لو اتهمنا البعض بخيانة الأمانة".

                                الشّهاوي

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل