المحتوى الرئيسى

على مشارف القرن التاسع عشر

07/26 20:58

لم يكن العام الميلادى 1776 عاما عاديا، بل يراه الكثيرون نقطة فاصلة بين زمنين متباينين أشد ما يكون التباين. ففى هذا العام صدر الكتاب الذى وصفه البعض بأنه أعظم كتاب عرفه الإنسان، والأكثر تأثيرا فى تطور الحضارة البشرية على الأرض. كان الفيلسوف الأسكتلندى «آدم سميث» قد أمضى سنوات عشر يؤلف فى نحو ألف صفحة كتابا من جزءين عنوانه «بحث فى طبيعة وأسباب ثروة الأمم». قبل صدور هذا الكتاب سيطرت على أوروبا والعالم من ورائها مفاهيم جانحة حول طبيعة الاقتصاد ومصادر القوة وأسباب الثروة. كان التجاريون قد غلبوا بفكرهم على معتقد الدول والمؤسسات والأفراد، فلم يكن امتلاك أمة للثروة إلا اقتطاعا من أنصبة أمم أخرى، ولم تكن الثروة تتمثّل إلا فى مقدار ما تملكه الدولة من الذهب والمعادن النفيسة النادرة. من هنا تحولت الرغبة الوطنية المشروعة فى نمو الاقتصاد إلى مطامع استعمارية، خرجت بإسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا وغيرهم من الدول القوية التى امتلكت أساطيل وجيوشا إلى خارج الحدود، بحثا عن الذهب والعبيد والموارد التى لن تحصد وفقا للمعتقد السائد حينها إلا بالغزو والفتوحات.

كان استعباد البشر إذن مبررا للحصول على عناصر الإنتاج وأسباب الثروة، وكان احتلال الأمم وغزو الحضارات له ذات المبررات. تركزّت الثروات فى طبقات رقيقة من الناس، بينما لم يتعد متوسط عمر الإنسان العادى أكثر من أربعة عقود. انشغلت الطبقة العاملة التى تعمل ثلثى اليوم لتحصيل حد الكفاف، الذى يبقيها بالكاد على قيد الحياة. ثم صدر كتاب ثروة الأمم وتزامن صدوره مع اختراع المراجل البخارية، التى يرجع الفضل فيها إلى «توماس سيفرى» ثم «توماس نيوكمان» و«جيمس وات» الذى طوّر المرجل عام 1796 ثم انطلقت على أثر ذلك ثورة صناعية هائلة، سرعان ما غيّرت مفاهيم الإنتاج والاقتصاد العالمى كله.

وفقا لآدم سميث يمكن أن تنشأ التجارة بين الدول على أساس من التخصص وتقسيم العمل الذى يحقق النفع للجميع، دون أن ينتج عن ذلك خسارة حتمية لأحد طرفى التبادل التجارى. كذلك تجسّدت مصادر القوة فى أى مجتمع فى الحرية والمنافسة والعدالة. حرية العمل والتجارة والتنقّل والإنتاج والبيع والشراء... والمنافسة التى تفرز الأفضل باستمرار، ولا تمنح المنتج الوطنى ميزة إجبارية تعمل لصالح المنتج والتاجر على حساب المستهلك. والعدالة التى تفرضها قوانين وسلطات تحمى الحرية وتشجّع المنافسة الشريفة.

المفاهيم التى تحسبها بديهية ومنطقية اليوم لم تكن موجودة آنذاك، وكما قال الاقتصادى الكبير «ألفريد مارشال»: فقد كان «آدم سميث» ثوريا مصلحا بمفاهيم عصره وليس محافظا كلاسيكيا كما تم تصنيفه لاحقا. أعظم ما حققه آدم سميث من تحفته «ثروة الأمم» هو ذلك الأمل فى الحياة والرفاهة الذى ألقاه فى روع الإنسان المتوسط والمؤسسات الصغيرة والدول الفقيرة. الجميع يمكن أن يحيا جنبا إلى جنب، وأن يحقق الثراء بمزيد من الإنتاج الحر والتخصص والاعتماد على الآلات وإزالة القيود والحواجز على حركة التجارة والأفراد.

التداعيات السياسية لذلك التأثير العميق لفكر «سميث» لم تكن أقل أهمية من التداعيات الاقتصادية وانطلاق النمو فى الناتج الإجمالى بمعدلات غير مسبوقة. فقد خفّفت مفاهيم الثروة الجديدة من حتمية صدام الحضارات والتوترات العسكرية وصراع الطبقات، وأنشأت عوضا عنها ضرورة للتعاون الدولى والتكامل الاقتصادى ونشأة التحالفات التى تتحقق معها مزايا نسبية وتنافسية أكبر فى محيط العلاقات الدولية. كذلك تحدد دور الدولة فى حماية المنافسة، وتمهيد الطرق، وتقديم الخدمات العامة التى يعزف المال الخاص عن الاستثمار فيها. تأثرت دساتير الدول جميع بكتاب ثروة الأمم وفلسفته الحرة المنبعثة فى رحم أوروبا الحبلى يومئذ بمبادئ الثورة الفرنسية والتغيرات الاجتماعية الكبرى المصاحبة للثورة الصناعية.

يقر آدم سميث بأن الثروة يجب أن تقاس بمقدار جودة المأوى والملبس والغذاء، وليس بعدد حقائب الذهب فى الخزانة. كما أكد على أهمية توافر أسباب المعيشة والرفاهية للجميع بتكلفة مناسبة. هذا الفكر يضع آدم سميث دائما على قمة هرم الاقتصاديين الكبار، وفى مقدمتهم «كارل ماركس» و«جون ماينرد كينز» اللذان يستدعيان عادة للمقارنة بآدم سميث، فترجح فى الغالب كفة «كينز» كونه يقع فى المنتصف بين اليمين المحافظ واليسار المتمرد. وإذا كان «بندول» الساعة يتأرجح باستمرار بين اليمين واليسار فإنه يرى أكثر ما يرى فى وضع وسط، وكذلك كان «كينز» فى مواجهته للتحديات التى اعترضت الفكر الكلاسيكى الحر، وفى تعزيزه لدور الدولة فى حفز الطلب والقضاء على الكساد الكبير. لكن إذا اعتمدنا نموذجا آخر للمقارنة بخلاف رقّاص الساعة فإن «سميث» يتغلب على منافسيه بقوة الفكرة وشمولها وثوريتها، ثم بأثرها على حياة البشر فى مختلف الأنحاء. فبينما عالج «ماركس» سوءات توزيع الثروة بنظام ساعد فى تأجيج الصراع الطبقى، كانت معالجة آدم سميث أقل حدة وأعمق تأثيرا على نظام العبودية وتحقيق المساواة. كما أن أفكار «كينز» قد ساعدت على تضخم سلطة وحجم مؤسسات الدولة بشكل لم يوضع له حدود، على عكس صاحب ثروة الأمم الذى وضع حدودا واضحة لتدخل الدولة تصلح للتطبيق فى كل مكان وزمان مع قليل من التعديل.

وإذا كانت حياة «آدم سميث» قد شهدت على بعض التناقضات مع فلسفة كتابه الأهم، حيث قضى اثنى عشر عاما فى ختام حياته يعمل مفتشا فى الجمارك، وأقدم على حرق ملابسه الشخصية بعدما تبيّن له أنها مهرّبة إلى البلاد ولم تمر على الإدارة الجمركية! فإن هذا لا ينقص من قدره شيئا، ولا يقلل من أهمية كتابه وأصالة أفكاره التى أخذ بها عظماء معاصريه من أمثال «فولتير» و«جيفرسون» و«هوبز»... وغيرهم، بل هو لم يدع إلى فرض أفكاره عنوة ولا تعجّلها على نحو يلزمه مقاطعة الأعمال التى لا يؤمن بها، مثله فى ذلك مثل العديد من الإصلاحيين الذين يخالفون المجتمع ولكنهم لا يتمردون على قوانينه السارية، ولا يفرضون أفكارهم بالقوة.

تسللت فلسفة «ثروة الأمم» إلى ضمائر الكتّاب والساسة والشعوب، حتى أن طبعاته الأولى قد نفدت عن آخرها فى وقت قياسى، ولما سقطت حقوق النشر حرصت مطابع الجامعات على طباعتها ونشرها كما لم يحدث مع كتاب آخر فى علم الاقتصاد. ولك أن تعرف عزيزى القارئ أن الطبعة الأولى لكتاب سميث تباع اليوم بنحو 150 ألف جنيه إسترلينى، كونها تحمل قيمة تاريخية عظيمة، غيّرت من مسار الحضارة وساهمت بصورة فعالة فى رسم ملامح التطور الذى نرفل فيه اليوم.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل