المحتوى الرئيسى

قراءة فى اتفاق إعلان المبادئ

07/22 21:22

لعل أقوى دلالات الارتباك القائم هو الانقسام حول اتفاق إعلان المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا؛ يقول الفريق الأول إن توقيع اتفاق إعلان المبادئ المنظّم لعملية بناء سد النهضة كان خطيئة مصرية دبلوماسية لا تغتفر. فى حين يقول الفريق الثانى إن توقيع اتفاق إعلان المبادئ ألزم إثيوبيا بعدة بنود حول تنظيم عملية ملء السد، ولكن المؤامرة التى تحاك ضد مصر جعلت المجتمع الدولى يتنصل من مسئوليته، وهو ما دفع آبى أحمد أن يضرب بعرض الحائط اتفاقية إعلان المبادئ.

لكن ما لا يُطرح فى هذا النقاش ــ أى فى ثنائية مع أو ضد اتفاقية إعلان مبادئ بين جمهورية مصر العربية وجمهورية إثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية وجمهورية السودان حول مشروع سد النهضة الإثيوبى العظيم فى ٢٣ من شهر مارس لعام ٢٠١٥ ــ هو البُعد القانونى وتبعات هذا القرار فى حلبة القانون الدولى مقابل تبعاته على أرض الواقع، بمعنى أن هناك فرقا كبيرا بين ما ينبغى أن يكون قانونيا وما يتم على أرض الواقع... بالرغم من عقود، بل قرن واحد من محاولات إرساء قانون دولى ملزم ومنظم للعلاقات الدولية، إلا أن القانون الدولى وآلية التدخل لإرساء هذه القواعد لا تزال ضعيفة جدا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، والدليل هو إنشاء مجلس أمن عتيق يعكس ميزان القوى لدى الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية ويضمن لتلك الدول مصالحهم بالرغم من اضمحلال إمبراطوريتهم، مثل فرنسا وإنجلترا. وهو ما يعنى أن كثيرا من مبادئ وفقه القانون الدولى لا يعكس طموحات عادلة ولكن يؤخذ من ممارسات وأعراف القوى العظمى التى ليست مكتوبة فى تشريع واضح ما عدا مجموعة اتفاقيات منظمة لعمل الأمم المتحدة والممارسات القانونية فى الحروب، مثل اتفاقيات جنيف والعهد العام للأمم المتحدة ومعاهدة فيينا لتنظيم قانون المعاهدات الدولية لعام ١٩٦٩ والتى دخلت حيز التنفيذ عام ١٩٨٠... لعل المسافة بين توقعات القانون الدولى والسياسات الخارجية لهذه البلدان والتوازنات بينهم هى التى تحمل لنا مفتاح الفرج فى تفكيك الجدل القائم حول اتفاقية إعلان المبادئ بين مصر وإثيوبيا والسودان.

فى البداية، يبدو أن الفريق المناصر لاتفاقية إعلان المبادئ على حق؛ فلأول مرة يأتى نص صريح يسمح لدولة المصب لنهر عابر للحدود أن يلزم دولة المنبع بالتنسيق معه بالتساوى فى ضوء هذه الاتفاقية. وهو ما يثير بالمناسبة حفيظة دول أوروبية وآسيوية تسيطر على منابع أنهار عابرة للحدود مثل الصين وروسيا، ويفسر أحد أبعاد مقاومتهم لمشروع قانون مجلس الأمن بإيقاف إثيوبيا لعملية الملء الأحادى لسد النهضة.

نصت اتفاقية إعلان المبادئ فى بندها الخامس على الاحتكام إلى لجنة خبراء دولية بشأن عملية التشييد والتخزين وتبادل المعلومات. ولكن بالنظر للبند الثالث نرى إشارة أهم وهى: «ففى حالة حدوث ضرر ذى شأن لإحدى الدول، فإن الدولة المتسببة فى إحداث هذا الضرر عليها، فى غياب اتفاق حول هذا الفعل، اتخاذ جميع الإجراءات المناسبة بالتنسيق مع الدولة المتضررة لتخفيف أو منع هذا الضرر، ومناقشة مسألة التعويض كلما كان ذلك مناسبا». إذن ما هى المشكلة والمعوقات فى تطبيق هذه المادة؟

الإجابة تكمن فى تاريخ هذه الاتفاقية، فإثيوبيا تمتاز بتاريخ مختلف تماما عن باقى الدول فى قارة أفريقيا. فعلى عكسنا نحن فى مصر، لم تُستَعمَر إثيوبيا من قوة عظمى بل حاربت حروبا باسلة كثيرة، وصحيح أنه تم وضعها تحت الوصاية بعد اجتياح إيطاليا لأديس أبابا فى أكتوبر من عام ١٩٣٥، حتى تم تحريرها من قبل الحلفاء والمقاومة الإثيوبية فى عام ١٩٤١ ورجعت الإمبراطورية الإثيوبية، لكن إثيوبيا لم تتعرض لاستعمار مثل الاستعمار الإنجليزى لمصر منذ عام ١٨٨٢ وقيامهم بإنشاء الدواوين والنظارات والحكومات وإبرام اتفاقيات باسم الشعب المصرى. فعلى عكس معركة رأس التين فى عام ١٨٨٢، قام الإمبراطور منليك بهزيمة الجيش الإيطالى فى عام ١٨٩٦ فى أداوا، مما يعنى أن منذ زمن الإمبراطور يوحنس الرابع فى عام ١٨٧٢ حتى دخولها عصبة الأمم فى عام ١٩٢٣ تحت زعامة راس تافارى، كانت إثيوبيا تتمتع بسيادة قانونية فى اتفاقياتها.

سرعان ما أدركت بريطانيا خطورة الأمر على مصالحها الزراعية فى مصر والسودان حتى حاولت أن تقنع منليك ببناء سد على بحيرة تانا لخفض آثار الفيضان على دول المصب، قام ملك إثيوبيا منليك بإبرام اتفاقية فى عام ١٩٠٢ مع إنجلترا وقام هو بدوره بوضع نص يمنع بناء أى سد على نهر النيل الأزرق مقابل الاعتراف بأراضى إثيوبيا، وهو ما معناه أنه تم إرساء عرف قانونى دولى مهم، ألا وهو أن نهر النيل الأزرق ليس بحيرة أو نهرا خاضعا لدولة المنبعِ، ولكنه نهر دولى أصيل. ما يهمنا هنا أن هذه الاتفاقية كانت قبل قيام راس تافارى (هيلا سيلاسى) بالتقدم بطلب انضمام لعصبة الأمم فى عام ١٩٢٣ عندما تم الموافقة على الانضمام بشروط تعجيزية أتاحت للقوى العظمى مثل إيطاليا أن تسيطر على إثيوبيا من خلال حجج مختلفة مثل إبطال تجارة الرق وإرساء مبادئ حقوق إنسان... إلخ. هذا هو ما يجعل قضية سد النهضة ونهر النيل مختلفة تماما عن العرف الدولى فى التعامل مع الأنهار، لأن إثيوبيا اعترفت بضرورة تحرير نهر النيل الأزرق وعدم خضوعه لسلطة دولة واحدة عبر الزمن منذ عام ١٩٠٢، وهو ما يعنى أن نهر النيل يختلف عن العرف الدولى فى التعامل مع الأنهار، وهو ما يستوجب التعامل مع قضية سد النهضة من هذه الزاوية القانونية التى استندت لهذا العرف السائد حتى جاء إعلان المبادئ حول سد النهضة فى ٢٠١٥، أى بعد أكثر من مائة عام.

إذن ما العمل؟ أتصور أن الحكومة تحاول تحسين موقفها من خلال تعديل قانون المحكمة الدستورية والاحتذاء بتجربة الهند فى رقابة المحكمة الدستورية الهندية على بنود الاتفاقيات الدولية التى تتعارض مع دستور وقوانين الهند. ولكن كما أشار الأستاذ القدير الدكتور إبراهيم عوض فى مقال فى هذه الجريدة، أن المحكمة الدستورية لا تحتاج لتعديل لممارسة دورها الرقابى على التشريعات التى تمس مصر، محلية أو دولية. ولعل ما تسعى الحكومة عمله الآن هو الرجوع للعرف الأقدم حول نهر النيل السائد منذ اتفاقية ١٩٠٢، وهو ما قدمته مصر فى مستنداتها لمجلس الأمن فى جلسته الأخيرة الخاصة بقضية سد النهضة. وهناك أصوات أخرى تقول إن اتفاقية إعلان المبادئ لم تُعرض على البرلمان للتصديق عليه، مما يعنى أنها لاغية، ومما يعنى تباعا أنه عرف قانونى أضعف فى ميزان القانون الدولى.

لكنى أقول إن كل هذا لن يجدى وإن معاهدة فيينا لتنظيم المعاهدات تضع آلية تلقائية لتنظيم عملية الانسحاب من المعاهدات ما لم يتم النص عليها صراحة (المادة ٥٦)، وهو ما يستوجب فى حالة الانسحاب من أى اتفاقية إبلاغ جميع الأطراف بمدة زمنية لا تقل عن ١٢ شهرا، كما أن فى حالة خرق أى معاهدة يجوز إيقاف العمل أو إنهاء أى اتفاقية دون موافقة جميع الأطراف (المادة رقم ٦٠)، أما إذا كان بعض الأطراف، وليس كلهم، مجتمعين فى نيتهم لإيقاف بعض بنود الاتفاق، فيجوز إيقاف العمل ما لم ينص الاتفاق على آلية لإيقاف أو انسحاب أو بطلان المعاهدة (المادة ٥٨)، وهو ينطبق على اتفاقية إعلان مبادئ سد النهضة.

لعل المأزق الوحيد فى الانسحاب أو إبطال أو إيقاف العمل باتفاقية إعلان المبادئ هو تحفظ مصر على المادة رقم ٦٦ فى الفقرة الخامسة التى تُلزم الدول بالخضوع لولاية المحكمة الدولية بصورة إلزامية بالإضافة إلى عدم قبول إثيوبيا سلطة محكمة العدل الدولية، ولكن هناك سابقة قانونية لتطبيق المعاهدة دون موافقة الأطراف. ففى عام ١٩٤٧ تم إحالة قضية قناة كورفو إلى المحكمة الدولية من خلال مجلس تطبيقا لقرار رقم ٢٢ من مجلس الأمن طبقا للبند الثالث من المادة رقم ٣٦ فى الفصل السادس من العهد العام للأمم المتحدة، وهو ما أرسته محكمة العدل الدولية فى حكمٍ آخر عندما تقدمت الكاميرون ضد نيجيريا دون وساطة مجلس الأمن مباشرة بشكوى لمحكمة العدل الدولية فى عام ١٩٩٨ ورأى المحكمة تطبيق ولايتها إجباريا طبقا للفقرة الثانية من المادة ٣٦ من النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل