المحتوى الرئيسى

الأدب والفن القبطي.. إبداع في خدمة الدين

05/18 23:10

الأدب والفن القبطي.. إبداع في خدمة الدين

علاقة وطيدة تلك التى تجمع «الفن» و«الدين»، فى مختلف الثقافات والحضارات والديانات على مر العصور، إلا أنها ذات طابع فريد وخاص فى المسيحية عموماً والكنيسة المصرية خصوصاً، التى طوعت الإبداع الأدبى والفنى لخدمة «الدين»، حتى إننا نجد فى صلوات القداس العديد من أنواع الفنون.

فى تلك الحلقة من رحلتنا لإعادة اكتشاف التراث القبطى، واصلنا المسير فى دروب برارى «شيهيت»، المسماة حالياً وادى النطرون بمحافظة البحيرة، يلفنا بخور القداسات الذى عانق الأيقونات العتيقة فى الكنيسة الأثرية، التى صدحت فيها الألحان حينما رنم الشمامسة «مبارك شعبى مصر»، نبحث عن الأدب والفن اللذين أبدعتهما أنامل الأقباط فى القرون الأولى للمسيحية، ذلك الكنز من العلم والمعرفة، الذى فتش عنه وفيه وكشفه الغرب ونحن ما زلنا فى سُبات إلى يوم الناس هذا، وترك الباحثون والدارسون المصريون علماء الغرب يقودونهم لقراءة ما كتب أجدادهم لينهلوا من معينهم علماً وثقافة وأدباً وتاريخاً، ولا يعلم المصريون عنه إلا القليل، ولم تتحرك المؤسسات الرسمية للدولة لإعادة نشر حتى ما نشره الغرب عن هذا التراث باللغة العربية، وترجمة ما كُتب بلغات العالم عن نهر الحضارة المصرية الذى لا ينضب ماؤه.

لم نستكن إلى ما رسخ فى الأذهان من تصورات خاطئة من أن «القبطية» لا تعنى إلا «المسيحيين» فقط، وأن التراث القبطى لم يكن يحوى إلا «نصوصاً دينية فقط»، لنعيد الكشف عما يحتويه هذا التراث الغنى من نصوص «طبية، وأدبية تنوعت ما بين (القصة، والرواية، والشعر، والمسرح)»، احتوتها المخطوطات القبطية المكدسة فى الأديرة والكنائس الأثرية وتلك التى التقطها الرحالة والغزاة.

ما زلنا داخل الدير الأثرى، الذى يعود بناؤه إلى القرون الأولى للمسيحية فى مصر، يصحبنا فى الرحلة دليلنا الراهب الذى أطلق على نفسه الاسم المستعار «الأب كيرلس»، هو فى العقد الخامس من عمره، وقضى ربع قرن فى الرهبنة، كان راهباً موسوعياً، لم نمل من حديثه وهو يأخذنا إلى مكتبة الدير العامرة بأمهات الكتب والمخطوطات النادرة، بأسى تحدث معنا الراهب عن أن الغرب هو من ينقب ويفتش فى تاريخنا وتراثنا، والمصريون مستكينون إلى التصورات الخاطئة من أن «القبطية» لا تعنى إلا «المسيحيين» فقط، لا يعلمون أن هذا التراث جزء من نهر الحضارة المصرية الذى لا ينضب، وأن التراث القبطى لم يكن يحوى «نصوصاً دينية وفلسفية فقط»، بل حمل نصوصاً «طبية، وسحرية، وأدبية تنوعت ما بين (القصة، والرواية، والشعر، والمسرح)»، احتوتها المخطوطات القبطية المكدسة فى الأديرة والكنائس الأثرية، وتلك التى التقطها الرحالة والغزاة ووضعت فى متاحف ومكتبات الغرب، وإن كانت تعد الأعمال الدينية مدخلاً للأدب القبطى حتى إن الأنبا شنودة، المعروف بـ«رئيس المتوحدين» (348-466م)، ملقب بـ«عميد الأدب القبطى» حيث كان مُشرِّعاً شهيراً وكاتباً معروفاً باللغة القبطية.

ويوضح الراهب أن الأعمال الأدبية القبطية العامة، لم يعرف التاريخ إلا القليل منها فى «الرواية والمسرح»، وهى أعمال غير مكتملة لضياع أجزاء من المخطوطات، أبرزها رواية «قمبيز» وهى قصة أصلية باللغة القبطية تتضمن تاريخاً خيالياً لغزو مصر على يد الملك قمبيز، الذى كان ملكاً للفرس قبل ظهور المسيحية بخمسة قرون، ورواية «الإسكندر الأكبر» باللغة القبطية الصعيدية، وهما عملان غير معلوم من كتبهما حتى يوم الناس هذا، والغريب أن الروايتين لم يتم ذكرهما أو نشر نصوصهما باللغة العربية، رغم وجود العديد من الكتاب والباحثين الأجانب الذين تناولوهما فى كتاباتهم. ورواية «الإسكندر الأكبر» المشار إليها وجدت فى كتاب باللغة الصعيدية بدير الأنبا بيشوى المعروف بالدير الأبيض بمحافظة سوهاج، الذى يعود تاريخ تأسيسه للقرن الخامس الميلادى، وكانت تمثل أصلاً مخطوطاً يتكون من 220 صفحة تنقسم إلى 37 فصلاً، وكل فصل منها له شعار يتصدره عبارة عن آية من الكتاب المقدس، وتتسم الرواية بطابع مسيحى، وتتعامل مع الإسكندر الأكبر باعتباره أداة فى يد الله وكأنه نبى أو شهيد. أما رواية «قمبيز» فبقى منها جزء صغير يتكون من 6 ورقات من الرقوق، وهى محفوظة فى متحف برلين وترجع إلى القرن الثامن أو التاسع الميلادى، فيما يرجعها آخرون إلى ما قبل القرنين الخامس والسادس الميلادى، ومكتوبة باللغة القبطية الصعيدية، وهى جزء من مخطوط أكبر مصدره غير معروف، وتتناول قصة الملك الفارسى «قمبيز الثانى» الذى أرسل رسائل يحرض فيها سكان المناطق الشرقية ضد مصر فلا يستجيبون لدعوته، ويظلون على ولائهم لمصر وفرعونها والعجل المقدس «أبيس» إله منف، ويعلن المصريون عن عداوتهم لقمبيز وحرصهم على حفظ قلاع حدود بلادهم سالمة.

أما عن الشعر القبطى، فهو فى جوهره دينى، وأقدمه يرجع للقرنين التاسع والعاشر الميلاديين، وكان فى هذا الوقت لا يتبع نظام «القافية» التى لم يعرفها شعر الأقباط إلا فى القرن الرابع عشر الميلادى، وكان الشعر القبطى فى بداية نظمه ليس قياسياً وإنما إيقاعى، ففى كل شطر من البيت الشعرى يوجد عدد ثابت من المقاطع المشددة النبرة، ومجموعة من المقاطع غير المشددة تختلف فى عددها، والبيت الشعرى يتكون عادة من أربعة شطور، ولكنه أحياناً يكون مكوناً من ثلاثة أو خمسة شطور، وهو ليس للإلقاء وإنما للإنشاد والترتيل، ويقوم التنغيم بإخفاء عدم تساوى عدد المقاطع غير المشددة فى كل شطر من الربع أى البيت الشعرى. وهناك أعمال شبه درامية فى هيئة أشعار من مؤلفات القرن العاشر الميلادى، منها قصة الملك سليمان، وقصة «تيودوسيوس وديونسيوس» التى ترجع إلى أوائل القرن الثامن الميلادى، وكان بطلها صانعاً مصرياً بلغ منصب إمبراطور اليونان، وقد نسى أخاه الذى كان صانع خشب مصرياً ثم يلقاه ثانية ويعينه رئيساً لأساقفة العاصمة اليونانية. كذلك هناك القصيدة التى كتبت عن «أرخليدس وأمه سنكليتكس»، وتحكى أن «سنكليتكس» أرسلت ابنها «أرخليدس» للخارج ليدرس، ولكنه بدلاً من ذلك ذهب فترهبن فى دير «بن رومانوس» دون أن يخبرها، ولما عرفت مكانه ذهبت لزيارته فرفض لقاءها، لأنه نذر ألا يرى وجه امرأة، ولما دخلت عليه لتراه كان قد توفى.

وتوجد مواد كثيرة هامة تتعلق بموضوع الشعر القبطى، بعضها لم ينشر حتى الآن نشراً نقديّاً كاملاً، وهى موجودة فى مخطوطتين ترجعان إلى أواخر القرن التاسع الميلادى ضمن مخطوطات مكتبة مورجان فى نيويورك، الأولى تحمل رقم «مورجان 574»، والثانية «مورجان 575»، وهى لم تنشر بعد، وتتضمن الأولى 13 ترنيمة، كل واحدة تتكون من أربعة وعشرين بيتاً، وكل بيت منها يبدأ بحرف من حروف الأبجدية اليونانية بالترتيب من البداية إلى النهاية، وفى واحدة منها نجد الترتيب معكوساً، إذ تبدأ بالحرف الأخير من الأبجدية لتنتهى بالحرف الأول، وتحمل معظم الترانيم عنواناً بالقبطية، والمخطوطة الثانية أقدم «دفنار» معروف باللهجة القبطية الصعيدية. وهاتان المخطوطتان ينسبان إلى مكتبة الثرى الأمريكى «بييربونت مورجان» القبطية، التى اُكتشفت فى دير الملاك ميخائيل بالحامول فى الفيوم، وتعد من أهم مجموعات المخطوطات القبطية، التى تحتوى على نصوص قبطية متنوعة تساعد على تفهُّم ودراسة الحياة المسيحية فى العصور القبطية.

وأشهر كتب الشعر القبطى الموزون والمقفى، هو ذلك الكتاب الذى وضعه الأنبا أثناسيوس أسقف قوص للأقباط الأرثوذكس بمحافظة قنا، فى القرن الثالث عشر الميلادى، والمسمى «التريادون»، وهو شعر دينى باللغة القبطية الصعيدية، ويبلغ مجموع أبياته حوالى 734 بيتاً. يقول الدكتور إبراهيم ساويرس، أستاذ اللغة القبطية بكلية الآثار جامعة سوهاج، الحاصل على الدكتوراه فى الدراسات القبطية من جامعة ليدن بهولندا، لـ«الوطن»: «التراث القبطى يحوى كل الإنتاج العقلى والمادى، منذ القرن الرابع وحتى القرن الثانى عشر الميلادى، ويحتوى هذا التراث على شعر منظوم على مدائح دينية باللغتين العربية والقبطية أشهره شعر التريادون (التلاتات)، وهو مكتوب على غرار رباعيات الشاعر صلاح جاهين، التى تتكون من أربعة شطور، منها واحد مخالف، كما أن الأقباط لديهم نصوص طبية معقدة وموروثة عن مصر الفرعونية، كما يحوى التراث القبطى السير الذاتية التى برع الأقباط فيها، وهى متحورة حول قصص دينية وخلقية ولكن تمت صياغتها بطريقة أدبية على هيئة قصة، ورغم أنه لا يوجد إلا روايتان مكتشفتان للأقباط فإن هناك قصصاً فى الحياة اليومية للمصريين تم تدوينها داخل المخطوطات يمكن معالجتها أدبياً من ناحية القصة القصيرة والرواية».

ويضيف ساويرس: «الأدب القبطى غنى جداً لمن أراد أن يفتح عينيه ويرى، ولكن لدينا العيون مغلقة، لأن من يدرس قبطى فى الجامعات الحكومية متخصص فى تخصص آخر غير متفرغ له، ولذا يتم تدريس القشور مثل قصة يوسف، أو قصة يونان والحوت، بل إننا لم نصل إلى القشور حتى»، مشيراً إلى أن التراث القبطى كنز، إلا أن المكتوب باللغة العربية والمترجم مقارنة بالمتاح باللغات الأجنبية هو الفرق بين «النملة والديناصور». أما القس باسيليوس صبحى، راعى كنيسة السيدة العذراء بالزيتون، والباحث فى التاريخ والتراث القبطى، فيقول لـ«الوطن»: «الأدب القبطى ليس نصوصاً دينية فقط ولكن يشمل نصوصاً أدبية ومسرحية ليس لها علاقة بالدين، كما أن هناك نصوصاً قانونية وطبية وتركيبات أدوية».

تركنا الحصن بغرفه المسحورة خلفنا، حينما تجاورت داخل طرقات الدير الأثرى، بجانب دليلى فى الرحلة «الراهب القبطى»، الذى واصلت معه الطريق متجهين إلى مكتبة الدير، حيث مررنا على مبنى أشار الراهب إلى أنه «عيادة الدير» التى يعمل بها الرهبان الأطباء، ليحكى لنا أن التراث القبطى الذى يحصره البعض فى الأعمال الدينية فقط، يحتوى كذلك على العلم كما يحتوى على الأدب والفن، قائلاً: «فى شتاء عام 1892م، عثر بعض الفلاحين من جرجا بمحافظة سوهاج فى صعيد مصر قرب قرية المشايخ على جرة مغلقة وبداخلها لفة بردى يبلغ طولها 248 سم وعرضها 27 سم، تم بيعها لرجل فرنسى اسمه «بوريان»، أحد أعضاء المعهد الفرنسى للآثار الشرقية بالقاهرة، وعمل عليها مدير المعهد «أميل شاسيناه»، والتى سميت باسمه ووجد بها 237 وصفة طبية، وهى مكتوبة باللغة القبطية ويرجع تاريخها إلى القرن التاسع/ العاشر الميلادى». ويضيف الراهب: «البردية تتضمن (علاجاً لأمراض العيون ومداواة خراجات الجلد وعلاج أمراض النساء والأطفال)، كما تحوى كماً كبيراً من المعلومات الطبية وتركيبات دوائية مختلفة، وذكرت أسماء بعض أطباء القبط وعلاجاتهم، ومنهم طبيب العيون الشهير (أبا كيرلس)، و(أنبا قلتة الطبيب) ابن والى مصر أيام الاحتلال الرومانى، كما نقلت وصفات طبية للطبيب الشهير (يحنس)، والطبيب اليونانى الشهير (جالينوس)». ويتابع الراهب: «رغم السرقات المتتالية لهذا التراث فإنه كنز مصرى لا ينضب، ففى عام 2017م تم الكشف عن مخطوط أثرى قديم اكتشفه رهبان دير سانت كاترين بجبل سيناء أثناء أعمال ترميم وتسجيل المكتبة، وهو عبارة عن مخطوط معروف باسم (بالميسست) يعود إلى القرن الخامس أو السادس الميلادى، كتب على جلد الرّق ويتضمن أجزاء من نصوص طبية من بحث الطبيب اليونانى العظيم هيبوقراط المعروف بأبو الطب، بالإضافة إلى ثلاثة نصوص طبية أخرى لكاتب مجهول، وأحد هذه النصوص يحتوى على رسومات بكامل الصفحة لأعشاب طبية من وصفة يونانية مفقودة، والتى تم طمسها قبل عام 1200م».

مميز هو شكل الأديرة والكنائس القبطية، تحمل جدرانها رسومات وصوراً شبيهة بتلك التى تركها الفراعنة على جدران معابدهم، استوقفتنا تلك الملاحظة ونحن نبوح بها للأب الراهب الذى يسير بنا بين جدران الدير العتيق، فالتقط منا طرف الخيط وواصل الحكى: «التراث القبطى تضمن إرثاً إنسانياً فى الفن والعمارة، وكذلك الرسم والموسيقى والألحان، حتى إن المسيحية حافظت على ما توارثه المصريون من ألحان وموسيقى فرعونية، ودمجت الفنون داخل طقوس الكنيسة، وأضافت عليه بعد أن طوعته لخدمة الدين حتى صار من موروثها الثقافى والدينى».

فظهر الرسم داخل الكنيسة باسم «الأيقونة»، والغناء تحول لـ«الترانيم والمدائح والتماجيد»، والموسيقى صارت «الألحان الكنسية»، ودمج «المسرح» فى صلواتها، لنجد فى القداس القبطى العديد من أنواع الفنون. وظهر فن التصوير أو الرسم فى القرون الأولى للمسيحية، حيث نشأت الرمزية المسيحية بالتدريج، حيث استقى المسيحيون الكثير من العالم المحيط بهم واستخدموا رموز الحضارات المصرية القديمة والرومانية، التى تعتبر بالنسبة للديانة المسيحية رموزاً «وثنية»، وذلك بعد إعادة تأويلها إذ صُبغ عليها فكر روحى جديد، وبدأت الكنيسة؛ تُصوِر المشاهد الكتابية المأخوذة من روايات العهد القديم ومشاهد العهد الجديد، حتى إن صورة «المسيح» تغيرت فى الفن المسيحى بتغير الحكام، إذ إنه سابقاً صوَّرَ هذا الفن الشكل الإنسانى للمسيح كفيلسوف أو كمثل الراعى الصالح، ولكن مع اعتراف الإمبراطور «قسطنطين» عام 313م بالمسيحية كديانة رسمية فى الإمبراطورية الرومانية شهدت الكنيسة تحولاً فى حياتها، وظهرت صورة المسيح مع اللحية والهالة المشتقة من صور الأباطرة الرومان، حيث انتشر تصوير المسيح كحاكم، مثل صورته على العرش مع الرسل وعُرفت بالمسيح الضابط الكل. وعرف هذا الرسم بفن «الأيقونة»، وبحسب المراجع الكنسية، يعد القديس لوقا البشير، أول من برع فى رسم الأيقونة، وكان أول عمل له هو أيقونة القديسة العذراء مريم، وهى تحمل السيد المسيح الطفل، كما يعتبر البابا كيرلس الأول (376-444م)، البطريرك الـ24 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية المعروف بـ«كيرلس عمود الدين»، هو أول من علق الأيقونات فى المقر البابوى عام 420م، وعليه انتشرت الأيقونات فى الكنائس المسيحية بعد أن أمر بتعميمها. وبحسب الكنيسة، فهى لا تستخدم الأيقونة على أنها لوحة فنية جذاّبة، بل اعتبرتها تعبيراً عن ظهور النماذج السماوية، والتطلّع من خلال نافذة الأيقونة مباشرة إلى العالم السماوى. ووسط ذلك ظهر الفنانون الأقباط الذين برعوا فى فن «الأيقونة» و«العمارة القبطية» و«الزخارف»، والتى كرست لخدمة المسيحية والكنيسة، كما كان الحال بالنسبة للألحان الموسيقية الكنسية، التى تعود جذورها إلى الحضارة الفرعونية، خاصة لما يعرف بـ«كاهن المعبد» فى عهد «الفرعون»، وأدخلت إلى الكنيسة التى استبدلت الألحان التى تقال لـ«الفرعون» بالألحان التى تقال لـ«المسيح»، وصارت «الألحان القبطية» علامة مميزة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وحفظت «التراث التسبيحى» على مدى أكثر من ألفى عام، وانتقلت عبر القرون بالتواتُر بين الأجيال من خلال التقليد الشفاهى، وأوجدت الكنيسة من أجل هذا المُرَتلين، وهم فى كثير من الأحيان ما يكونون من مكفوفى البصر لقدرة ذاكرتهم على اختزان هذا القدر الكبير من الألحان، التى يصل عددها إلى حوالى 575 لحناً كما كان يفعل فى عهد الفراعنة، وصار «المكفوفون حراس اللحن الكنسى»، قبل أن تظهر القواعد الموسيقية للألحان القبطية على أُسُس عِلمية من حيث الأوزان والضروب والمقامات والقفلات الموسيقية والتكوين السليم المتوازن للجملة الموسيقية. ويصاحب أداء بعض الألحان «الناقوس، والمثلث» لِضَبْط الإيقاع، وتعود جذور ألحان «غولغوثا»، و«إبؤرو» و«بيك إثرونوس» للحضارة الفرعونية، إذ أُخذ الأول من موسيقى فرعونية لتجنيز وتحنيط الفراعنة، واستخدمته الكنيسة فى صلوات «أسبوع الآلام» حزناً على المسيح فى جمعة صلبه حسب الاعتقاد المسيحى، والثانى لحن فرايحى استخدمته الكنيسة فى عيد ميلاد المسيح، أما الثالث فهو خاص فى عهد الفراعنة بتوديع الفرعون الميت وتجليس الفرعون الجديد واستخدمته الكنيسة أيضاً فى صلوات أسبوع الآلام. بل تضم الألحان القبطية داخلها ألحاناً يونانية وعبرية، بحسب الدكتور راغب مفتاح، رئيس قسم الألحان والموسيقى بمعهد الدراسات القبطية الراحل.

ويأتى نوع آخر من الفن المسيحى وهو «الترانيم»، وهى عبارة عن «أغنية دينية مسيحية يشترك فى إنشادها جمهور المصلين»، ويعتبر بحسب الكنيسة «داود النبى» أشهر المرنمين فى تاريخ العهد القديم، ومن كلمات المزامير التى كتبها تنشد أغلب الترانيم فى الوقت الحاضر، ودائماً ما يصاحب «الترانيم» الموسيقى. كما توجد «المدائح» و«التماجيد»، وهى عبارة عن الشعر الذى يهتم بمدح المسيح والعذراء والقديسين والشهداء. ثم يأتى «المسرح»، الذى بدأ دينياً فى القرن الخامس قبل الميلاد عند اليونان، وتبلور بعد ظهور المسيحية ما يعرف حتى يومنا هذا بـ«المسرح الكنسى»، حيث عملت الكنيسة على توظيف الشكل المسرحى لتمثیل القصص ضمن الأعیاد الدینیة وذلك بهدف تعزیز الدلالة الدینیة وإیصال القصص بشكل أفضل لجماعة المصلین، حتى قام رجال الكنيسة بتقمص الأدوار فى تلك القصص وأبرزها «تمثیلیة آلام المسیح» التى دخلت فى صلوات قداس عيد القيامة بحسب الاعتقاد المسيحى. وخرج «المسرح الكنسى» من القالب الطقسى إلى الأمور الدنيوية بعد ذلك، وإن ظل يحافظ فى أغلب الكنائس على تقديم الأعمال الدينية، مثل قصص القديسين والرموز الكنسية وقصص من الكتاب المقدس.

ويقول الدكتور لؤى سعيد، مدير مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية، لـ«الوطن»: «التراث القبطى ليس المخطوط فقط، ولكنه يشمل العمارة والفن والأيقونات التى كان أساسها تحويل نصوص الكتاب المقدس لصور للذين لا يقرأون ولا يكتبون»، لافتاً إلى أن المصريين بطبيعتهم أصوليون يحبون ويقدسون التراث بغض النظر عن الدين، حيث حافظوا على اللغة والتراث بسبب الدين، وهذا من عبقرية المصريين، وتلك العبقرية حافظت على الألحان القديمة والعادات والتقاليد، وأغلبها تم الحفاظ عليه فى «صدور الناس» يتناقلونها من جيل إلى جيل، أكثر من حفظها بشكل مادى. بل إن الكنيسة أخذت الفلكلور الشعبى المصرى القديم وأدخلته لديها، فالأعياد المصرية القديمة احتفظت بشكلها وغيرت مضمونها، مثل عيد الإله «زحل» الذى كان المصريون القدماء يحتفلون فيه بتقديم الذبائح وتوزيع لحومها على الفقراء، وحوله البابا إسكندر، البطريرك الـ19 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لعيد رئيس الملائكة ميخائيل، بحسب الاعتقاد المسيحى، ثم بنى مكان «هيكل زحل» كنيسة باسم رئيس الملائكة ميخائيل، وكذلك فعل البابا ثاؤفيلس، البطريرك الـ23 للكنيسة، الذى حول عيد الإله سيرابيس بفيضان النيل إلى عيد للملاك ميخائيل، الذى توزع فيه الفطائر والكعك.

«الأيقونة» وهى مسمى لفن التصوير أو الرسم

البابا كيرلس الأول البطريرك الـ24 للكنيسة القبطية أول من علق الأيقونات بالمقر البابوى عام 420م

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل