المحتوى الرئيسى

أزمة الجائحة وأوضاع الجامعات فى مصر

04/11 19:36

لاشك أن جائحة كوفيد 19 التى مازالت كل دول العالم تقريبا تجاهد للخروج منها قد أوضحت ارتباط القدرة على الخروج منها بمستوى البحث العلمى فى كل دولة. الدول صاحبة الإنجاز العلمى الرفيع هى وحدها التى تستطيع ابتكار اللقاحات الفعالة بل وتوفيرها لمواطناتها ومواطنيها. اللقاحات الأساسية فى العالم فى الوقت الحاضر هى التى خرج بها علماء فى ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا والصين وروسيا. من حسن حظ هذه الدول أن مواقع البحث والتطوير فى مجال الدواء فيها متنوعة تشمل الجامعات فى حالة عقار استرازينيكا الذى خرج من جامعة أكسفورد، وشركات خاصة مثل فايزر وجونسون آند جونسون، ومؤسسات بحثية حكومية فى حالات لقاح مودرنا وتلك التى تم تطويرها فى الصين وروسيا. مصر لا تملك هذه الرفاهية، فمؤسسات البحث العلمى فى مصر تكاد تقتصر على الجامعات، ولذلك فالنهوض بالجامعات فى الوقت الحاضر هو سبيلنا الوحيد لكى نلاحق ما يجرى من سباق فى العالم لمواجهة التحديات الهائلة التى تفرضها مثل هذه الأزمات غير المتوقعة والتى لا ينجح فى التصدى لها سوى الدول التى تملك بنية بحثية وتكنولوجية متقدمة، وتوفر الموارد الضرورية لترجمة الابتكارات العلمية إلى أدوية وسلع وخدمات تمكنها من مواجهة أخطار صحية والنهوض بمستوى رفاهية وظروف عمل مواطناتها ومواطنيها.

جامعاتنا ومؤسسات البحث العلمى عندنا، دون أن نقلل من قيمة الجهود المبذولة فيها، ليست فى أفضل الأوضاع التى تدعونا للشعور بالاطمئنان إلى أنها سوف تعيننا على مواجهة مثل هذه الأزمات التى يبدو أنها سوف تتكرر فى المستقبل، لذلك فمن المشروع بل ومن الضرورى أن ينشغل الرأى العام فى بلدنا بكيفية النهوض بمؤسسات البحث العلمى عندنا وبالجامعات عموما التى تجرى فيها معظم الأنشطة البحثية. ويثور التساؤل ما هو السبيل للوصول إلى هذه الغاية؟

ولاشك أن تحقيق هذا الأمل هو واحد من الأسباب التى دعت لجنة مؤلفة داخل المجلس الأعلى للجامعات يرأسها الأستاذ الدكتور محمود المتينى رئيس جامعة عين شمس لمطالبة أعضاء هيئات التدريس بالجامعات إلى إبداء آرائهم فيما ينبغى أن يتضمنه مشروع قانون جديد لإعادة تنظيم الجامعات.

ومن المؤكد أن مجرد إصدار قانون جديد لا يكفى، طبعا كذلك لابد من ضمان إمكانية تطبيق القانون، ولكن السياق المحيط بالقانون أمر على أعلى درجة من الأهمية، فقد يكون القانون رائعا فى صياغاته، ولكن ما العمل إذا كانت أطراف هامة فى المجتمع، لا تلقى للقانون بالا، وتتجاهله تماما على نحو يلغى أى قيمة عملية لنصوصه ويحوله إلى حبر على ورق؟

لا يكفى أن نفترض أن تلك الاطراف سوف تحترم فى المستقبل نصوص هذا القانون عندما يصدر، فهذا أمر لا يعلمه سوى الله، ولكن قد يكون سبيلنا لتعزيز هذا الاحتمال هو أن يشدد مشروع القانون على أن المؤسسات الجامعية هى وحدها التى لها السلطة فى تقرير ما هو شأن جامعى يتعلق بالتعليم والبحث، ولا دخل لسلطة أخرى غيرها فى ذلك.

فما هى تلك المبادئ التى يجب أن يتضمنها مشروع جديد لتنظيم الجامعات ينهض بأوضاع البحث العلمى فى مصر؟ لن يمكن لجامعاتنا العامة التى يتواجد فيها تسعة أعشار الطلبة و95% من أعضاء هيئات التدريس أن تقوم بهذا الدور إلا إذا توافرت لها الحوافز، واحتذت بالقواعد المؤسسية وتوافرت لها البيئة المشجعة على الانخراط فى سبيل الابتكار والتفوق العلمى.

يمكن لمشروع القانون الجديد أن ينص على أن الموارد التى تتيحها الدولة للجامعات العامة ترتبط بدرجة كبيرة، فلنقل بنسبة 40% مثلا، بتقدم الجامعة فى ترتيب الجامعات العالمى الموثوق به، أو فى قدرتها على الاحتفاظ بشهادة اعتماد من مؤسسة اعتماد جودة مستقلة. ترتيب الجامعات العالمى يعتمد على نسبة الأبحاث العلمية المنشورة فى دوريات عالمية ذات ثقة وعلى قدرة الجامعة على اكتساب موارد لأغراض البحث العلمى. ومؤسسة اعتماد الجودة يجب أن تكون مستقلة عن وزارة التعليم العالى لإبعاد أى شبهة فى تأثر قراراتها بعلاقة وزير التعليم العالى مثلا بقيادة جامعة معينة.

يجب أن تشجع القواعد المؤسسية فى الجامعة على تعزيز قيم التفوق العلمى ومكافأة المجتهدات والمجتهدين، فتشترط مثلا أن يتولى قيادة المؤسسات الجامعية سواء رئاسة الجامعة أو عمادة الكليات من يشهد لهم بنشاط علمى بارز فضلا عن القدرات الإدارية، وأن يكون اختيارهم من خلال مسابقات مفتوحة يدخلها من تتوافر فيه هذه الشروط، ويكون المحكمون فيها من القيادات الجامعية المشهود لها بالإنجاز العلمى والسمعة الطيبة. كما يجب أن تقتصر عضوية لجان الترقى على الأساتذة الذين يتميزون بأبحاثهم المنشورة فى دوريات علمية دولية موثوق بها.

يجب أن تكون الجامعات العامة مؤسسات جاذبة للموهوبين والموهوبات من الخريجين والباحثين توفر لهم أفضل ظروف العمل العلمى من جميع الجوانب، هى أولا تتيح لهم دخولا كريمة لا تقل عما يحصل عليه أقرانهم فى المؤسسات الخاصة أو الجامعات الأجنبية والخاصة فى مصر. لقد أصبحت جامعاتنا العامة تعانى من نزيف للموهوبين والموهوبات فيها سواء كانوا من شباب الهيئة المعاونة بعد حصولهم على شهادة الدكتوراه أو حتى من كبار الأساتذة. ضآلة المرتبات هى سبب أساسى لذلك، ولا يمكن توقع أن يبدع هؤلاء وهم لا يحصلون نتيجة عملهم على ما يوفر لهم شروط الحياة الكريمة مقارنة حتى بطلبتهم، وذلك فى كل الكليات، بما فى ذلك كليات العلوم الطبيعية والتطبيقية، وعلى وجه أخص هؤلاء منهم الذين يريدون أن يكرسوا جهودهم للبحث العلمى وليس للكسب المادى.

البيئة المواتية تعنى فضلا على ذلك أماكن عمل ومرافق مناسبة من حيث توافر المكاتب المزودة بأجهزة الاتصال المعلوماتى التى لا غنى عنها فى مجال البحث العلمى ومعامل ومكتبات وقاعات دراسة مريحة.

طبعا توفير هذه الظروف يقتضى إنفاقا مناسبا من جانب الدولة. هذا الإنفاق لا يتوافر الآن بل ومنذ فترة ليست بالقصيرة، وحتى عندما كانت بعض المراكز البحثية فى الجامعة تتمكن من الحصول على تمويل مناسب لأنشطتها بحسب اجتهاد العاملين فيها، كانت الحكومة مع الجامعة تتنافسان للحصول على نصيب معتبر من هذا التمويل، وكانت قواعد المالية العامة أيضا تحتم التخلى عما يتبقى منه فى ختام السنة المالية لحساب موازنة الحكومة، كما لو أن النشاط العلمى محكوم بقواعد هذه الموازنة، ولم يكن الداعى لهذه القواعد هو ضمان الشفافية أو الكفاءة فى إنجاز المشروعات البحثية، ولكنه كان مجرد قواعد صماء لا تلقى بالا لضرورة استمرار المشروعات البحثية لأكثر من سنة، وتحولت هذه القواعد إلى مجرد إتاوة، وانتهى الأمر بأن أصبح من الصعب اجتذاب الأساتذة لإدارة مراكز أبحاث لا يستطيعون توفير التمويل الضرورى لها، وفى هذه الظروف أغلقت كثير من المراكز أبوابها أو قللت كثيرا من أنشطتها البحثية. كذلك أغفلت وزارة المالية أن الإنفاق على البحث العلمى يقتضى مرونة وسرعة فى اتخاذ القرار لا يتفق مع اللوائح التى يعمل على أساسها موظفوها الذين هم أصحاب القرار النهائى فى كيفية استخدام موارد المراكز البحثية والكليات والتى لم تسهم الميزانية العامة بأى قدر فى إتاحتها.

وفى هذا السياق لا يمكن الاحتجاج بأن الموارد المطلوبة للنهوض بأوضاع البحث العلمى فى الجامعات تتجاوز حجم الإيرادات المتوافرة للحكومة. مثل هذا الإدعاء يثير الكثير من الشجن. إعادة ترتيب الأولويات القومية على النحو الصحيح سوف يوفر بكل تأكيد الموارد المطلوبة للبحث العلمى فى مصر. وإذا كان من الصحيح أن التعليم والبحث العلمى فى مصر هما قضايا أمن قومى، وهذا بكل تأكيد قول صحيح، ويكفى أن ننظر فى هذا الإطار كيف تتسابق أقوى حكومات العالم بما فيها الصين وروسيا والهند بل ودول الخليج العربية لكسب ود إسرائيل بسبب تفوقها العلمى ليس فى مجال التكنولوجيات العسكرية فحسب، ولكن فى مجال الزراعة والطب وأمن المعلومات، لكى نتأكد من صحة هذه العبارة. إذا كانت حكومتنا تسلم بصحة هذه العبارة، فلتترجم قناعتها بتوفير الموارد اللازمة للنهوض بأوضاع جامعاتنا ومراكز البحث فيها.

وإذا كنا نجتهد فى البحث عن موارد لتمويل التعليم والبحث العلمى فى الجامعات العامة، فإعمال المنطق يقتضى ألا تضيع الحكومة والجامعات موارد المجتمع فى إنشاء ما يسمى بالجامعات الأهلية. قواميس اللغة العربية تقطع بأن ما هو أهلى هو ما يقوم به الأهالى وليس ما تقوم به الحكومة، ولذلك فلا يقبل العقل أن توجه الحكومة موارد هائلة اقتضتها من عامة الشعب لإنشاء ما تسميه «جامعات أهلية» أو أن تدعو الجامعات العامة لإنشاء «جامعات أهلية». المنطق يقضى بأن يتاح للأهالى إنشاء ما يريدون من جامعات أهلية أو خاصة وفق شروطهم فيما يتعلق برسوم الدراسة فيها والتخصصات التى تتيحها، وأن توجه الحكومة والجامعات الحكومية مواردها للنهوض بالتعليم والبحث العلمى فيها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل