المحتوى الرئيسى

دوائر الأسرار في نَصِّ بساتين البصرة | المصري اليوم

04/09 05:52

جاءت رواية «بساتين البصرة»- لمنصورة عز الدين، إصدار دار الشروق- ضمن القائمة الطويلة في جائزة البوكر العربية، والرواية تترك قارئها في حالة من الجدل مع ذاته والعالَم من حوله، فمنذ بداية النَّص تعلن الروائية انزياحًا عن الواقعى والمنطقى، والانتقال لعوالم متداخلة، الإنسان والنبات والكلمات، الواقع والحلم، الحاضر والماضى، الظاهر والتأويل، حيوات تتقاطع وتلتقى في بنية مركَّبة لكنها أخَّاذة، متضمِّنة لرؤية فلسفية عميقة.

الحب والحرب فى «عُلب الرغبة»

آثار التهميش على النماذج الإنسانية في «دفاتر الورَّاق»

سلبيات تحديد النسل.. وكيفية تجنُّبها

ويستهل «هشام» الأحداث بأنه أكل قمرا، ليستقر في وعى المتلقى أن الموجودات متَّصِلة في طاقة الكون، وحدة متعددة الأشكال، روح أو طاقة تنتقل من شخص إلى آخَر، من إنسان إلى شجرة ياسمين، أو قد يتحول الإنسان إلى كلمات، يصبح ورقيًا، وهو ما يَهَبُ للكلمة «العلامة المجرَّدة» روحًا، كما يُدخِل الأساطير إلى جوهر الحكى وتكوين فضاء النَّص. «خطر لى أننى أكَلْتُ القمر. كان في يدى رغيف خبز، وضعتُ فوقه القمر، (أم أنه كان بيضة مسلوقة؟!) ولفَفْتُ الرغيف، وبدأتُ في قضْمِه؛.. ولم أجرؤ بعدها على النظر لأعلى»، في هذه المنطقة البينية تأتى أفعال أبطال النَّص الكاشف للمنحنيات العميقة في الذات الإنسانية.

يشعر «هشام» بأنه عاش حياة أخرى، وفى حلمه المتكرر شَهِدَ الملائكة تقطف الياسمين من بساتين البصرة، حتى خَلَتْ الشجيرات من الياسمين، وهو ذات الحلم الذي رآه يزيد ابن أبيه «الخوَّاص»، وفسره له الإمام البَصْرى بذهاب علماء البصرة وضياع علومها. يمتزج هشام بالخوَّاص، ثم يصير ورقيا في كتاب الأحلام لابن سيرين، ثم يُبعَث مرة أخرى في زماننا هذا.

ومن خلال حكْى الأصوات المختلفة، نكتشف أن «مالك بن عُدى» النسَّاخ قَتَلَ «يزيد» الخوَّاص بعدما عرف خيانته له مع زوجه. تحرَّرت روح الخوَّاص من سجْن الجسد، بعدما دفَنه وزرَع فوق قبره ياسمينة، ثم انبثق بطريقة ما في جسد هشام الخيَّاط بمدينة المنيا في مصر، حيث ولدته أمه ليلى على شَاطئ النيل، ثم غرقت فيه، أو دفَعها ابنها لتتخلص من آلامها، أو يتخلص هو منها، لا شىء مؤكد!.

يجاهد «هشام» في عالمه المعاصر، يتعقَّبه ماضيه الورقى، يشتغل بالكتب التراثية، ويساعد الأستاذ الزنديق المحقِّق، ثم يحرقه هو وبيته وأهله، يتعلق بميرفت ويراها مثل «بيلَّا روزينفيلد» المحلقة في لوحات «شاجال»، ثم ما يلبث يرَى عيوبها، يعيش في فيلا مع رفيقة تبقيه في حالة نصف واعية، تتداعى لديه الذكريات والحقائق أو الأوهام.

تعتمد بنية السرد على ثلاثة أصوات تحكى عالمًا معاصِرًا بعد ثورة يناير 2011، تتمثل في: هشام، وليلى، وبيلَّا. وعالَمًا قديمًا يتناوب فيه الحكى: الغزَّال وصديقاه، الخوَّاص والنسَّاخ، ومُجيبة وزوجها الخوَّاص. تتيح تقنية تعدُّد الرواة إقامة شاشة لعرض الأنا والآخَر؛ وجهَى الصراع، فحين اندهشت بيلَّا من هجران هشام لها، انزعج هو من أنها شخصية بلا قوَام متماسك، تتيح هذه التقنية أيضا استبطان الإنسان، وبوْحه بنوازعه التي تظلُّ أسرارًا لا يعرفها الآخَرون.

يقول النَّصُّ إنه: «لا شىء يحدث في هذا العالَم عبثًا، كل شىء يقع من أجْل شىء آخَر»، من قتَل يُقتل، وتُفصِح بنيته الدالة عن أن الحياة دائرة ذات قواطع مسنونة، مهما تناست، تأتى لحظة المواجهة، حيث تتكرر الحيوات وتتشابه نقاطها المفصلية.

لتِقْنيَتَى الزمان والمكان اتساعٌ لا نستطيع أن نوقفه على تقنية الاسترجاع أو الانتقالات المكانية المتحررة، بل يمكن وصْفه بأنه الزمن السائل، الذي تضعه الروائية في بانوراما دائرية، فتتجوَّل شخوصها بداخلها، وكذلك المكان، فلا حدود بين القاهرة والبصرة، هناك دائرة تشمل هذا الكون. ومن هذه الرؤية الزمكانية تغترف الروائية شخوصها، وتشيِّد لهم بناء ورقيًّا خاصًّا، يمتزج فيه الواقع برؤية للكون وطبيعة الوحدة به، فالزمن نهر سيَّال والمكان وَهْم، مكاننا الحقيقى موطن أرواحنا.

وللغة هنا مستويات متعددة متسقة مع البيئات الثقافية، فبيئة البصرة تفرض لغة تراثية، بما تتضمنه من محسِّنات بلاغية تستحضر هذه الحقبة الزمانية.

تنداح في الرواية كل الموجودات، تأتى الانطباعات عن الأشخاص من اللوحات التشكيلية، أو من الأحلام، وكُتب التراث والأساطير، ولذا نجد تناصات من كتاب تفسير الأحلام، أو مقولات واصل بن عطاء.

وتأتى المَشاهِد ضبابية، لتأخذنا لتأويلات متعددة يتيحها النَّص، فالياسمين حيث علماء الفِكر الذين حُرمت منهم منطقتنا، والياسمين حيث البحث عن السلام، الذي يُعَدُّ مطلَبا مخاتِلا لا يتحقق لطبيعة البشر.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل