المحتوى الرئيسى

عصام زكريا يكتب: لؤلوة العقد في سينما يوسف شاهين.. 'باب الحديد'.. الذي يزيده الزمن ألقا!

03/05 00:14

لم يكن يوسف شاهين مجرد مخرج متمكن قدم خلال مسيرته الطويلة عشرات الأفلام التي أصبحت فصلا رائعا من فصول السينما المصرية، لكنه أيضا واحد من المتمردين الكبار في هذه السينما، قام خلال مسيرته الفنية بتغيير جلده أكثر من مرة، وعمل انقلابات حادة صادمة داخل الحياة السينمائية والعقل المصري، ويكفي أن تنذكر اعمالا مثل "العصفور" و"عودة الابن الضال" و"اسكندرية ليه" وغيرها من الأعمال التي كانت شيئا جديدا فريدا وقت ظهورها، وربما إلى الآن.

..لكن من بين كل هذه الأعمال المتمردة يبقى "باب الحديد" علامة بارزة في السينما المصرية والعالمية بالنظر إلى هذه السينمات آنذاك، حيث انتهى الفيلم 1957، وعرض في العشرين من يناير 1958، قبل أيام من اتمام يوسف شاهين عامه الثاني والثلاثين.

حتى ذلك الوقت كان شاهين قد قدم عشرة أفلام وأصبح من المخرجين البارزين على الساحة، ولكنه فجأة قرر أن يقامر بكل شىء ليصنع عملا مختلفا عما عرفته السينما المصرية في كل شىء وهو فيلم "باب الحديد" الذي يتناول الحياة داخل محطة القطار الرئيسية بالقاهرة خلال يوم واحد وعدد من الشخصيات أبرزها شاب صعيدي معاق بدنيا وذهنيا مهووس جنسيا!

هذا الفيلم الذي مني بالفشل الذريع وقت عرضه أصبح واحدا من أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية وواحدا من أحب الأفلام وأشهرها لدى الجمهور المصري، وكان سببا في بروز اسم يوسف شاهين عالميا. وعندما عرض الفيلم خلال السنوات العشر الأخيرة في عدد من المهرجانات والبرامج الخاصة وعلى منصة "نتفليكس" حظي باشادات مدهشة، ولو دخلت على أكبر موقع للمقالات النقدية السينمائية وهو rotten tomatoes، سوف تكتشف أن "باب الحديد" واحد من الفلام العالمية القليلة جدا التي حصلت على اجماع 100% من النقاد الذين شاهدوه، ومعظمهم اعتبره واحدا من الاكتشافات العظيمة وواحد من أفضل الأفلام في العالم.

بين السقوط المدوي والصعود الدائم

تعرض "باب الحديد"، كما هو معروف، إلى فشل تجاري ذريع، والأسوأ منه كان ردود أفعال الجمهور الذي ثار في قاعات العرض غاضبا ويقول شاهين أنه تعرض للشتيمة وأن أحدهم بصق عليه في العرض الأول للفيلم، وأن المنتج أجبره بعد ذلك على إضافة بعض اللقطات للفيلم، ولكن دون جدوى، وأنه اضطر بعدها إلى العمل في أي أفلام تسند إليه، حتى أنه وافق على زيادة مشاهد وزنها اثنين كيلو من شرائط السينما عبارة عن أغنية إضافية في فيلم "ودعت حبك"، وذلك بناء على طلب بطل الفيلم فريد الأطرش لتلبية متطلبات سوق التوزيع الذي كان يشترط عددا أدنى من الكيلوات لتوزيع الفيلم في البلاد العربية(راجع حواريه مع وليد شميط في كتاب"يوسف شاهين حياة للسينما" وحواره مع قصي صالح درويش في مجلة "سينما" من بين حوارات أخرى). ويروي كاتب سيناريو الفيلم عبد الحي أديب أيضا في كتاب "عبد الحي أديب دراما بلا حدود" (اصدارات المهرجان القومي للسينما) أن فشل الفيلم جعله يتحول من: "صاحب فكر إلى حرفي، فامتنعت تماما عن تقديم أفكار وكنت أسأل المنتجين ماذا تريدون أنتم وأحول أفكارهم إلى سيناريوهات حتى لو كانت الفكرة سخيفة". ولكن عبد الحي أديب يضيف شيئا غريبا هو أن جمهور الصالة حطم المقاعد غضبا، بينما بقي جمهور البلكون متابعا حتى نهاية الفيلم. ليس لدينا وسيلة للتأكد من هذه الحقيقة، ولكن تصريحات عبد الحي أديب تحمل رائحة "طبقية" واضحة، ومن خلال تتبعي لردود فعل الصحافة والجمهور آنذاك على فيلم "باب الحديد" يمكن أن أقول أن الفيلم صدم أبناء الطبقة المتوسطة أكثر مما صدم الفقراء. هذه الطبقة المتوسطة التي كانت مستغرقة في أحلامها في 1958، قبل أن تتحطم هذه الأحلام خلال حوالي عشر سنوات هي الفترة الفاصلة بين كراهية الفيلم ثم اعادة الاعتبار له والوقوع في حبه بعد ذلك!

كما هو الحال في صناعات السينما الكبيرة، أدى فشل "باب الحديد" تجاريا إلى احجام المنتجين عن تكرار مثله، واضطر يوسف شاهين إلى العودة للأفلام التقليدية والامتثال لمطالب السوق والجمهور لبعض الوقت. ولكن حين نتأمل أسباب هذا الفشل اليوم نكتشف أنها نفس أسباب تميزه التي جعلت منه واحدا من أفضل أفلام السينما المصرية والعالمية:

خلو الفيلم من القوالب التجارية الجاهزة لحكايات الحب والجريمة الميلودرامية، المهذبة، المحفلطة، التي تغرق فيها السينما الجماهيرية.

عدم وجود بطل يتوحد معه المشاهد، فيوسف شاهين في دور قناوي مثير للنفور والخوف وربما الشفقة، لكن من الصعب التوحد معه، وفريد شوقي في دور أبو سريع ثانوي ولا يشارك في حكاية قناوي سوى كمتفرج أكثر منه فاعل، بينما صراعه لصالح العمال يتم المرور عليه سريعا. وهنومة، أو هند رستم، شخصية من الواقع، امرأة عملية، تبحث عن أفضل زوج ممكن، تستغل أنوثتها لقضاء مصالحها، تتلاعب بقناوي وتغوي أبو سريع لتأخذ ماله ثم لتتجنب عنفه عندما يضربها بسبب رقصها مع الركاب، ولا علاقة لها بثنائية "العذراء" و"العاهرة" التي تنظر بها الميلودراما عادة إلى النساء، وينطبق الأمر على كل شخصيات الفيلم فهي تتجاوز ثنائية الطيب والشرير المتعارف عليها.

ايقاع الفيلم اللاهث غير المعتاد على عين مشاهد الأفلام التقليدية، التي تستدعي التركيز وبذل الجهد والالمام بلغة الصورة لتتبع الحكايات المختلفة واستشفاف خلفياتها الغامضة. أضف إلى ذلك زمن الفيلم الذي لا يتجاوز 86 دقيقة، أي أقل من الوزن المتعارف عليه بعدة كيلوات!

في "باب الحديد" أيضا، بجانب هذه العناصر غير التسويقية، لغة سينمائية شاعرية بليغة، تتضافر فيها عناصر المكان مع الشخصيات وحكاياتها بشكل لا مثيل له في السينما المصرية، ومن النادر حتى أن نرى مثله في السينما العالمية، ويبدع شاهين في استغلال عناصر المحطة كلها: الساعة التي تمثل الزمن والحركة الدائمة التي تسحب كل شىء. القطارات التي تتحرك فوق القضبان طوال الوقت، مرة تمثل الخطر المحدق الذي تتعرض له الشخصيات، كما في مشهد الطفل بائع المشروبات الذي يكاد يلقى حتفه تحت العجلات، وفي مشهد النهاية عندما يقترب القطار من قناوي وهنومة ويكاد يدهسهما، أو تمثل قوة اندفاع الغريزة الجنسية، كما في المشهد الذي يراقب فيه قناوي هدير العجلات فوق القضبان، بينما أبو سريع وهنومة يمارسان الجنس داخل المخزن. يستدعي "باب الحديد" من عالم الأدب تلك الرواية البديعة القصيرة التي تحمل اسم "محطة السكة الحديد" للأديب إدوار الخراط التي تتعامل مع القطار ككائن حي يعبر عن العالم الداخلي للراوي.

يستغل شاهين أيضا الأرصفة لبناء خشبات مسرحية درامية، مثل المشهد الذي يتواجه فيه أبو سريع ورئيس العمال أبو جابر (عبد العزيز خليل) كزعيمين سياسيين حول حقوق العمال، كما يستغل البخار الناجم عن القطارات للتعبير عن المشاعر الساخنة الغاضبة، وأنبوبة المياه العملاقة التي تستخدمها الفتيات من بائعات المرطبات لتبريد الزجاجات، ثم للهو واغراق هنومة. وأكثر المعالم التي يستخدمها ببراعة وبلاغة سينمائية منطقة "المناورة" التي تتحرك فيها القطارات باستمرار وتضم مخزن البضائع وكشك قناوي، حيث تدور معظم الأحداث الدرامية العنيفة و"المناورات" بين الشخصيات. ويستغل شاهين عناصر أخرى مثل زجاجات المياه الغازية، والجردل، والصحف والمجلات والحقائب التي يحملها الركاب والشيالين وصندوق البضائع الذي يستخدم كتابوت للفتاة التي حاول قناوي قتلها معتقدا أنها هنومة، وزجاج النوافذ والمحلات والمرايا التي تستخدمها هنومة للتزين وابراز مفاتنها، وتستخدم غالبا لانعكاس لصور ونفسية قناوي المشوهة. كل عناصر المكان هذه تساهم في الدراما، كل بطريقتها، ومن الواضح أن تصوير الفيلم سبقه معاينة ومعايشة حميمية للمكان من قبل صناعه.

أما الاستغلال الأوضح للمكان فيتمثل في كون محطة القطار عالما مصغرا (كوزموس) قائما بذاته، يختزل المجتمع المصري، بل العالم، في مكان واحد. هنا يلتقي الجميع كما يقول عم مدبولي، بائع الصحف، الذي يؤديه حسن البارودي بصوته وأداءه المميزين:

"دي محطة مصر، قلب المدينة. كل دقيقة بيطلع منها قطر. كل دقيقة بيوصل فيها قطر. ألوف من الناس بيتقابلوا ويتفرقوا فيها. اللي من بحري واللي من قبلي، الخواجة وابن البلد. الغني والفقير. الشغال والعاطل" قبل أن يبدأ في سرد قصة قناوي، هذا الشاب المعدم المعاق، الذي يظهر ذات يوم عاريا على أحد الأرصفة، فيرعاه بائع الصحف ويقوم بتشغيله مع "السريحة" الذين يبيعون الجرائد في المحطة وداخل القطارات، ويعطيه كشكا مهدما في منطقة "المناورة" ( التي يتم فيها تبديل القطارات وأعمال الصيانة) ليقيم فيه. ينتقل عم مدبولي بعد ذلك إلى اليوم الذي زار فيه الكشك الذي يعيش فيه قناوي، حيث يكتشف أنه غطى جدرانه بالكامل بصور النساء العاريات المقتطعة من المجلات الفنية، ويقول مدبولي: "اكتشفت إنه إنسان محروم. محروم لدرجة أنه بقى مريض..مسكين يا قناوي مين كان يصدق ان يجرالك كده." فيدلنا إلى بؤرة الأحداث من أول مشهد ويقودنا داخل متاهة المحطة من خلال شخصية قناوي.

يختم عم مدبولي الفيلم كما بدأه، بالباس قناوي قميص مستشفى الأمراض العقلية، وهكذا تروى الحكاية من خلال منظور وصوت مدبولى، أكثر شخصيات الفيلم وعيا وحكمة، بحكم عمره وكونه بائع جرائد يجيد القراءة ويتابع أخبار العالم . ربما كان عبد الحي أديب يتعاطف مع شخصية قناوي ويجعل منها محور الأحداث، وربما كان يوسف شاهين قد تماهى مع قناوي وشعر أنه يجسد شعوره بالحرمان والفشل في الحب، الذي كان يعذبه آنذاك، ولكن من المهم أن نلاحظ هنا النبرة "الموضوعية" التي يروى بها الفيلم، على الأقل في بدايته وخاتمته، وتدعم هذه النبرة اللقطات شبه الوثائقية التي تستعرض جوانب المحطة المختلفة، القطارات على القضبان والركاب على الأرصفة وفي مدخل المحطة الواسع وعلى شباك التذاكر حتى البوابة الخارجية للمحطة ونافورة الميدان وهو أبعد مكان تصل إليه كاميرا الفيلم.

يتصدر قناوي بؤرة الأحداث، لكن "باب الحديد" يمتلىء بالحكايات والشخصيات الأخرى التي ترسم صورة بانورامية للمجتمع المصري في 1958، تستعرض فئات المجتمع المختلفة التي تتصارعها أفكار الحداثة والرجعية، ولعله واحد من أوائل الأفلام التي تعتمد بناء الحكايات المتقاطعة المتداخلة ( "بين السماء والأرض" لصلاح أبو سيف ظهر بعد حوالي عامين). بعض الحكايات التي يضمها "باب الحديد" مشبع إلى حد معقول، مثل قصة أبو سريع وهنومة والصراع بين العمال على أكل العيش بين نظام عمل قديم ظالم ومطالب بتنظيم العمل ورعاية العمال. هناك أيضا حكايات كوميدية مثل قصة الصعيدي وزوجته اللذان يفوتهما القطار، وتدب مشاجرة كبيرة بين الزوج وقناوي عندما يحملق الأخير في زوجة الصعيدي كعادته كلما رأى امرأة، وهناك حكايات مثل فرقة الروك أند رول التي تضم شبابا متحررين والشيخين اللذين يستعيذا بالله من رؤية شباب الفرقة ويصفان ما يشاهدانه بأنه بدعة وكل بدعة في النار، وهناك القصة الساخرة بدون مبرر للجمعية النسائية "نساء ضد الزواج" التي يتعامل معها الفيلم بسخرية زائدة عن الحد، وهناك حكايات غير مشبعة وغير واضحة، مثل قصة المرأة ذات الصدر البارز التي تقف وحدها وأمامها شاب يحاول اصطيادها، وهذا الشاب نراه لاحقا مع زميل له (جلال عيسى) يقوم بتطييب خاطره واعادته إلى داخل المحطة، وفيما بعد نرى الشابين يتقربان من مجموعة من النسويات من جمعية "رافضات الزواج"، وفي مشهد النهاية نرى الشاب الثاني ملتصق بالمرأة ذات الصدر البارز في الزحام المتحلق حول قناوي، قبل أن يأخذها من ذراعها ويذهبان معا. هذه القصة بالذات تروى عن طريق الصور فقط، دون كلمة حوار واحدة، ومع أن ما يحدث غير واضح لكن يبدو أن الشابين ذهبا إلى المحطة بهدف اصطياد النساء، وعلى العكس من تلك القصص هناك حكاية رومانسسة مؤثرة لتلك الفتاة الرقيقة التي يبدأ وينتهي الفيلم بها، ومشاهد هذه القصة موزعة على زمن الفيلم بذكاء ودقة شديدة، من الصباح للمساء، وتتشابك مع قصة قناوي ببراعة. في البداية نرى الفتاة حائرة، حزينة، تسأل قناوي عن "فكة" للتحدث في الهاتف العمومي، يحدق قناوي في قدميها العاريتين ثم يعطيها الفكة المطلوبة ويتتبعها إلى "كابينة الهاتف" ويسترق السمع إليها وهي تتحدث مع حبيبها. ونفهم أنه مسافر لسنوات وأنه سيصل إلى محطة القطار مع أسرته للسفر وأنها موجودة لتوديعه، سرا، بما أنه لا يجرؤ أن يخبر أسرته عنها. ويتعاطف قناوي مع الفتاة الجميلة المعذبة بالحب، مثله، ويصبح الاثنان شيئا واحدا، إذ تتقاطع مصائرهما حتى النهاية. العمال الأجلاف يتحرشون بها بفظاظة، مثلما يتنمرون عليه ويسخرون من عرجه. قناوي ضعيف باعاقته وفقره والفتاة ضعيفة بأنوثتها وصغر سنها، في مجتمع كالغابة البقاء فيه للأقوى والأغنى. في مشهد لاحق طويل نسبيا نتابع قصة الفتاة من خلال عيني قناوي، حيث يصل الشاب الذي تحبه مع أسرته، ويتبادل معها التحية عن بعد، وتلحق به الفتاة إلى الداخل، عند شباك التذاكر، وعندما يصبح وحده أخيرا، تتعانق أيدي الشابين ويتبادلان المشاعر والوعود، ثم يظهران بعد قليل على الرصيف، الشاب في القطار وأسرته تودعه والفتاة خلفهم بمسافة، تودعه أيضا. يذهب القطار، وتذهب الأسرة، والفتاة وحدها تبقى. في المشهد الأخير، وبعد الامساك بقناوي والذهاب به إلى المصحة، نرى الفتاة لم تزل في المحطة، حائرة، غير قادرة على الذهاب أو مغالبة مشاعرها. يلعب شخصيتي الحبيبين الوجهان الجديدان سهير وأسعد قلادة، وهما أصغر حبيبان ظهرا على الشاشة المصرية حتى ذلك الوقت، إذ لا يتجاوز عمرهما العشرين، أشبه بروميو وجولييت عصريين، ونحن لا نعلم سبب عدم قدرتهما على الاعتراف بحبهما لأسرتيهما، ربما لأسباب طبقية أو دينية لا يفسرها الفيلم. ولكن هذه القصة تمثل المعادل الموضوعي لمأساة قناوي، وهي التي تجعل قصص الفيلم تنتظم مثل حبات العقد في خيط واحد: هذا الألم الذي لا يحتمل لعذاب الحب المرفوض، الفكرة التي ستتردد فيما بعد في أعمال السيرة الذاتية ليوسف شاهين بشكل أكثر مباشرة. والتي يمكن فهمها بشكل أفضل من خلال التحليل النفسي لـ"باب الحديد".

يولد قناوي على الرصيف، إذ يظهر فجأة مثل أوديب الذي نبذه أبواه طفلا بسبب النبؤة التي تقول بأنه سيقتل أبيه ويتزوج أمه، ومثل أوديب يعاني قناوي من اعاقة بقدميه حيث يقوم أبوه الملك بربط قدمه بدبوس يتسبب في حدوث عاهة بقدميه، ويعطيه إلى أحد الخدم لقتله، ولكن الرجل يشفق على الطفل، فيضعه فوق جبل حيث يعثر عليه أحد الرعاة، مثلما يفعل مدبولي فينقذ حياته. في مشهد قناوي وهنومة أسفل نافورة الميدان، وتمثال رمسيس العملاق يطل عليهما، يحلم قناوي بالزواج من هنومة والعودة إلى بلاده وعيش حياة هادئة سعيدة، فتقول له هنومة ساخرة: ".. ونخلف صبيان وبنات" فيجيبها قناوي: " آه..وما نقساش على عيالنا أبدا". تعلق هنومة: "هو فيه حد بيقسى على عياله". لكن نظرات قناوي في هذا المشهد تشير إلى أن هذه القسوة موجودة وأنه شخصيا تعرض لها. مثل أوديب أيضا يتم تبني قناوي ويهيأ لحياة هادئة لكن القدر، أو بمعنى أدق، التركيبة النفسية للانسان، تفرض سطوتها عليه وتقوده إلى المأساة. إنه يشتهي ما لا يجب أن يشتهيه، وعلاقته بهنومة وأبو سريع هي علاقة أوديبية تماما، تتحول في مرحلة لاحقة إلى علاقة هاملتية، نسبة إلى هاملت، الذي يقلب رغبته في الأم إلى كراهية لها ومحاولة لقتلها، ويزيح عداءه للأب إلى العم المتسلط، "الأب السياسي"، بينما يتعاطف مع شبح الأب الطيب الميت. ومثل أوديب فإن خطيئته الكبرى تتمثل في عينيه اللتين تشتهيان ما لا يحق له، وهذه النقطة واضحة جدا في "باب الحديد" من خلال اللقطات المقربة جدا على عيني قناوي الشهوانيتين، وقد عاقب أوديب نفسه عندما اكتشف جرمه باقتلاع عينيه بدبوس شعر أمه ليتحول هو نفسه إلى الأب الذي يمارس العقاب على نفسه أو أبناءه، وينتهي "باب الحديد" بقناوي مقيدا في قميص "المجانين" مثل طفل وليد مقيد في قماطه صارخا من انفصاله عن الأم. (لمزيد من التفاصيل حول عقدتي أوديب وهاملت في "باب الحديد" وأعمال يوسف شاهين يمكن الرجوع إلى كتابي "صانع المرايا..الذات والعالم عند يوسف شاهين" – إصدار شركة "سمات"- 2008).

"باب الحديد" هو أول فيلم يمكن أن يطلق عليه "سينما المؤلف" film auteur في السينما المصرية، وبالمناسبة ليس شرطا في "سينما المؤلف" أن يكون المخرج هو كاتب السيناريو، فكثير من كبار المخرجين الذين يطلق عليهم "مؤلف" لم يكتبوا سيناريوهات أفلامهم، وأشهر هؤلاء هو هيتشكوك الذي لم يكتب سيناريو واحد، ولكن اسلوبه وبصماته موجودة في كل فيلم، بل كل مشهد من معظم أعماله. ورغم أن اسلوب يوسف شاهين موجود كبذور في أفلامه السابقة على "باب الحديد"، لكن المديح كان يوجه إليها عادة من زاوية التقنيات والمهارات الاخراجية، وليس الاسلوب بالمعنى الذي نجده عند المخرجين المؤلفين. من المعروف أن عبد الحي أديب كاتب سيناريو "باب الحديد" ذهب به إلى مخرجين آخرين منهم صلاح أبو سيف الذي نصحه بعرضه على يوسف شاهين. وتشير هذه الرواية إلى أن "تخصص" أو "خصوصية" يوسف شاهين كانت ملحوظة بالفعل قبل "باب الحديد". ولكن شاهين حتى عام 1957 كان قد أخرج عشرة أفلام من نوعيات مختلفة معظمهم ينتمون للسينما التقليدية التجارية، على الأقل من ناحية الموضوعات والنوع الفني. بعض هذه الأفلام يحتوي على لمحات تجديدية متميزة، مثل "صراع في الوادي" و"صراع في الميناء" ولكنها لمحات مختفية تحت القالب والتقاليد الصارمة للسينما السائدة، من ناحية الاعتماد على نجوم التمثيل، والغناء أحيانا، وقصص الحب الميلودرامية، وسطحية معالجة الجوانب النفسية والجنسية والسياسية. "باب الحديد" كان قفزة مفاجئة للأمام، أحدثت صدمة هائلة، وأنتجت عملا استثنائيا ليس فقط في مسيرة صاحبه، ولكن في مسيرة السينما المصرية كلها. ومن يراجع أعمال عبد الحي كلها يمكن أن يتأكد أن "باب الحديد" ينتمي ليوسف شاهين أكثر مما ينتمي لعبد الحي أديب، وهي نقطة مهمة فيما يتعلق بـ"سينما المؤلف، إذ يستطيع هذا النوع من المخرجين "المؤلفين" أن يصبغ أعماله باسلوبه هو، مهما تعددت أسماء من يكتبون السيناريو. وهناك عبارات ومشاهد في "باب الحديد" تنتمي لشاهين بالكامل، منها مثلا مشهد حواره مع هنومة عند النافورة الذي أشرت إليه، فبجانب جملة "منقساش على عيالنا" هناك جملة "انتي معلقة معايا" وهو تعبير شاهيني يتكرر في أفلام شاهين اللاحقة، يرتبط دائما بعلاقة الحب المرفوض هذه. وللأسف لا يمكن أن نعرف بدقة مدى التغييرات والاضافات التي يقوم بها مخرجينا على السيناريوهات ( بما إننا لا نحتفظ بالمسودات وليس لدينا أرشيف لتاريخ السينما) وهذا البحث في مسودات السيناريوهات والتغييرات التي تفرضها ظروف أخرى ومقارنتها بالفيلم النهائي مفيدة جدا في فهم العملية الابداعية في السينما وعمل المخرج. لم يبق في "باب الحديد" من عالم عبد الحي أديب سوى اهتمامه بقصص الحب العنيفة التي تتسم بسطوة الشهوة الجنسية والخيانة والجريمة، ويروي عبد الحي أديب في كتاب "عبد الحي أديب دراما بلا حدود" (اصدارات المهرجان القومي للسينما ) أن الفكرة الأساسية كانت تقديم "المغامرات العاطفية التي تحدث بين عربات القطار"، ولكن الفكرة لم تكتمل إلا بعد أن رأى بائع جرائد أبرصا مهووس بصور هند رستم، قبل أن يضيف البعد السياسي عن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية في المرحلة الأخيرة من الكتابة. ومن المعروف أيضا أن فكرة لعب يوسف شاهين لدور قناوي جاءت متأخرة، بعد فشل المفاوضات الانتاجية للاستعانة بممثلين آخرين منهم شكري سرحان، وأن المنتج وهند رستم كانا صاحبا فكرة أن يلعب هو الدور، ورغم تردده في البداية إلا أنه يمكن القول أن شاهين وجد فرصة عمره في أن يصبح ممثلا يؤدي دورا معقدا يعبر عن مشاعره الذاتية، وبالتحديد شخصية هاملت، وكما يذكر في أحد حواراته: " في الوقت الذي اكتشفت فيه أن الأم ليست العذراء، اكتشفت أيضًا شخصية هاملت ووقعت في غرامها. لا أنسى اللحظات التي كنت أشعر فيها بحزن شديد، كنت أغلق باب حجرتي وأنخرط في نوبات بكاء حادة." وهي الحكاية التي يرويها أيضا في "اسكندرية ليه؟" و"حدوتة مصرية". ولكن لا شك أن شاهين وجد في شخصية قناوي ما يتيح له التعبير عن عقدته الشخصية، وعلاقته المركبة بأمه وأبيه.

يضم "باب الحديد" بعضا من علامات سينما يوسف شاهين المميزة، مثل رقصة الروك أند رول التي يشارك فيها قناوي بطريقته المضحكة، وتحيته للسينما الهوليوودية المتمثلة في أفيش فيلم "نياجرا" الصادر 1953، من بطولة مارلين مونرو، والذي يتناول أيضا قصص حب وخيانة وجريمة قتل.

لكن أهم العناصر "الشاهينية" في الفيلم فتتمثل في "الديكوباج" أو رسم اللقطة السينمائية كما لو كانت لوحة تشكيلية، وعمق المجال الذي يستخدم الأبعاد المختلفة للمكان لنسج الحكايات المختلفة داخل اللقطة الواحدة، حتى أن المشاهد لا تكتمل من غير ملاحظة المتفرج لما يحدث في خلفيات المشهد من أحداث لشخصيات أخرى، والحقيقة أنه يستحيل تسجيل هذه الحكايات المتداخلة في اللقطة الواحدة على صفحات السيناريو، وهو ما يجعل "باب الحديد" عملا سينمائيا خالصا من تلك الأعمال التي لا يمكن التعبير عنها بوسيط آخر، أو بلغة سينمائية أخرى غير اسلوب يوسف شاهين، ويكفي المقارنة بينه وفيلم حديث هو "ساعة ونصف" ( إخراج وائل إحسان، 2012) لادراك هذا الفرق. و"باب الحديد" هو من أبدع ما صور مدير التصوير الموهوب ألفيزي أورفانيللي، وينبغي الاعتراف بفضله في صنع كل هذا الجمال في مكان مفتوح ومزدحم مثل محطة "باب الحديد". كذلك يتسم الفيلم بمونتاجه السريع وايقاعه اللاهث والاستخدام الدرامي للموسيقى التصويرية للتعبير عن حالة الشخصيات ولتطور الحدث الدرامي، وكعادته يمزج المؤلف الموسيقي فؤاد الظاهري بين الموتيفات الشرقية والتوزيع الموسيقي العلمي باسلوب متفرد، ومع أن الموسيقى التصويرية كثيفة ومستخدمة بكثرة، إلا أنه من المستحيل تقريبا أن تجد ثانية أو نوتة موسيقية زائدة عن الحد!

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل