المحتوى الرئيسى

هل كانت رحلة شامبليون إلى مصر سببا في وفاته بمرض غريب؟ - BBC News عربي

03/04 12:49

صدر الصورة، Getty Images

التقط شامبليون طرف الخيط من دراسته للقبطية، التي لم تعد تستخدم إلا في صلوات وطقوس دينية مسيحية

في السادس من مارس/آذار عام 1832 في ساحة مقابر "بير لاشيز" في باريس، أقيمت مراسم جنازة مهيبة لأحد أهم علماء تاريخ مصر القديم، الفرنسي جان فرانسوا شامبليون.

وقبل أربع سنوات من هذا اليوم، كتب شامبليون رسالة إلى شقيقه الأكبر من مصر قال فيها: "إن كياني كله لمصر، وهي لي كل شيء"، لخّص فيها عشقا خاصا ومتلازمة جمعت بينه وبين مصر، في حياته عبر دراسة لغتها وتاريخها العريق، وعند موته عندما ربط البعض سبب وفاته بزيارته لها وتأثير مناخها على صحته.

استعصى فك أسرار تاريخ مصر القديم قرونا عديدة، منذ أن نُقش آخر نص مكتوب بالخط المصري القديم "الهيروغليفية" في جزيرة فيلة، جنوبي مصر، عام 394 ميلاديا، واندثرت لغة المصريين "المقدسة" بموت آخر كهنتها، حتى استجاب "حجر رشيد" عام 1822 لجهود شامبليون، لتُبعث حياة في تاريخ مصر القديم وأسراره.

وُلِد شامبليون فى 23 ديسمبر/كانون الأول عام 1790 فى مقاطعة فيجاك الفرنسية، ونظرا لاضطراب الأحوال السياسية في البلاد في أعقاب الثورة الفرنسية (1789-1799)، لم يستطع الالتحاق بالتعليم الرسمي، فوجهه شقيقه الأكبر جاك-جوزيف نحو تلقى دروس خاصة فى اللغتين اللاتينية واليونانية، ثم انتقل إلى مدينة غرونوبل للالتحاق بمدرسة ثانوية، وكان شقيقه يعمل باحثا فى معهد البحوث الفرنسى، وبدأ شامبليون فى سن 13 عاما الاهتمام بدراسة اللغات الشرقية، من بينها العربية والسريانية والعبرية.

تعرف شامبليون على العالم المرموق جوزيف فورييه، الذى كان قد شغل منصب سكرتير البعثة العلمية خلال حملة نابليون بونابرت على مصر (1798-1801)، ودفعه فورييه إلى دراسة التاريخ، بعد أن أثارت مجموعته الخاصة وبحوثه العلمية فضول وإعجاب شامبليون "الصغير"، الذي ما لبث أن عشق مصر وتاريخها.

صدر الصورة، Arterra/Getty Images

درس شامبليون اللغتين اللاتينية واليونانية، ثم انتقل إلى مدينة غرونوبل للالتحاق بمدرسة ثانوية

لم يكن يتصور شامبليون الطفل في ذلك الوقت أن مجده بدأ في ذلك اليوم، 19 يوليو/تموز عام 1799، عندما عثر ضابط يدعى بيير فرانسوا بوشار، خلال حملة بونابرت على مصر، على حجر من الجرانوديوريت غير منتظم الشكل، ارتفاعه 113 سم وعرضه 75 سم، أثناء إجراء تحصينات عسكرية في مدينة رشيد.

يحمل الحجر نقشا لمرسوم ملكي يعود إلى عام 196 قبل الميلاد صدر فى مدينة "منف" تخليدا للحاكم بطليموس الخامس، كتبه كهنة بثلاث كتابات ليقرأه العامة والخاصة من المصريين والطبقة الحاكمة اليونانية، فجاء النص مدونا بالكتابة الهيروغليفية (اللغة الرسمية فى مصر القديمة)، والديموطيقية (الكتابة الشعبية فى مصر القديمة)، واليونانية القديمة (لغة الطبقة الحاكمة).

استفاد شامبليون بعض الشيء من معرفته باللغة اليونانية في مقارنة النصوص الثلاثة، واستطاع بعد عناء أن يصل إلى قراءة بنائية، على الصعيدين اللغوي والصوتي، للنص وترجمته، لكنه التقط حل اللغز من دراسة اللغة القبطية، التي اعتبرها الأكثر قربا للغة المصرية القديمة، والتي تعلمها على يد يوحنا شفتشي، كاهن كنيسة "سان روش"، في إحدى ضواحي باريس.

وفى 14 سبتمبر/أيلول 1822 أمسك شامبليون بورقه، وأسرع إلى مقر عمل شقيقه في أكاديمية النقوش والآداب، قائلا عبارة شهيرة، تداولها مؤرخو سيرته :"المسألة الآن فى حوزتي، وضعت يدي على الموضوع".

كتب شامبليون نتائج بحثه فى خطاب شهير يُعرف باسم "خطاب إلى السيد داسييه"، أمين أكاديمية العلوم والفنون، فى 27 سبتمبر/أيلول عام 1822، لم يكشف شامبليون في محتواه سوى عن جزء صغير من اكتشافه، نظرا لأنه كان فى حاجة إلى إجراء مراجعة لبعض النتائج.

صدر الصورة، Getty Images

صورة لأعضاء البعثة الفرنسية التوسكانية ويظهر شامبليون جالسا بلحية وسيف أهداه له محمد علي والي مصر

كلل شامبليون نجاحه بعد أن نشر ترجمة كاملة لنص حجر رشيد في عام 1828، وهو نفس العام الذي تشكلت فيه بعثة فرنسية-توسكانية تألفت من 12 عضوا، بقيادة شامبليون، هدفها زيارة مصر ودراسة آثارها عن قرب، والتأكد من نجاح مشروع قراءة النصوص المصرية القديمة وجها لوجه.

وطأت البعثة أرض مدينة الإسكندرية فى 18 أغسطس/آب عام 1828، وبعد وصول شامبليون إلى مصر، كتب رسالة إلى شقيقه الأكبر يقول فيها: "إننى أتحمل درجة حرارة الجو قدر استطاعتي، يبدو أننى قد ولدت فى هذا البلد، فالأجانب يرون ملامح وجهي أشبه بملامح رجل قبطي (مصري)".

ويقول شامبليون في رسالة بتاريخ 22 أغسطس/آب 1828، وردت ضمن دراسة "الرسائل واليوميات خلال رحلة مصر" التي جمعتها المؤرخة هرمين هارتلبن: "لقد وطأت أرض مصر التي طالما تاقت نفسي إليها في 18 أغسطس/آب، واستقبلتني كأم حنون. سأحتفظ على الأرجح بصحة جيدة، كما رويت ظمأي من ماء النيل الرطب الذي يأتي عبر ترعة المحمودية التي أمر الباشا (محمد علي) بشقها".

دامت رحلة شامبليون فى مصر 18 شهرا اكتشف خلالها خمسين موقعا أثريا، وكتب تفاصيل ونتائج رحلته فى ستة مجلدات كبيرة بعنوان "آثار مصر و النوبة"، سجل فيها مشاهداته اليومية عن زيارته للآثار المصرية القديمة، وتعليقاته التفصيلية، والنصوص التاريخية خطوة بخطوة خلال إعادة اكتشاف مصر القديمة، وكتب رسالة أخرى لشقيقه يقول فيها: "لقد جمعت أعمالا تكفيني العمر كله".

صدر الصورة، Getty Images

حجر رشيد يعد حجر الزاوية في معرفة أسرار الكتابة المصرية القديمة ضمن مقتنيات المتحف البريطاني

وفي رسالته الأخيرة مودعا أرض مصر إلى الأبد من مدينة الإسكندرية بتاريخ 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1829 قال: "أخيرا سمح لي آمون العظيم بتوديع أرضه المقدسة، سأغادر مصر في الثاني أو الثالث من ديسمبر بعد أن غمرني أهلها القدامى والمعاصرون بكل جميل ومعروف ... نحن جميعا في صحة جيدة، وأشعر بمزيد من القوة لمجابهة الزوابع والعواصف التي ستعترضنا في أعالي البحار خلال هذا الشهر من الملاحة ... نحن مستعدون لتحمل ما هو أعتى من الأمواج الهائجة في سبيل رؤية فرنسا من جديد".

عاد شامبليون إلى باريس، وحصل على عضوية أكاديمية النقوش و الآداب فى مايو/ أيار سنة 1830، وعُين في منصب أستاذ فى "الكوليج دى فرانس" سنة 1831، لكن اعتلال صحته وتدهورها جعله لم يـُلق سوى محاضرات معدودة فى الكرسي الذي أنشئ خصيصا له في دراسات تاريخ مصر القديم، ثم التقاعد مبكرا.

كثر الجدل بشأن أسباب وفاة شامبليون، ويقول المؤرخ الفرنسي جان لاكوتور في دراسته "شامبليون حياة من نور" إن مرض "السُل الرئوي كان أهم الأسباب جميعا، فضلا عن هشاشة رئته المعروفة منذ فترة طويلة".

ويضيف لاكوتور: "إن محنة المناخ القاسي للغاية التي فرضت عليه في بداية عام 1830 لدى عودته من مصر (بعد مروره من جو الإسكندرية الخانق وتعرضه لثلج محجر تولون الصحي في فرنسا في شتاء لا يمكن تصور قسوته في ذلك العام، والأكثر برودة لنصف قرن كامل) حول الوهن الصحي إلى مرض قاتل".

صدر الصورة، Getty Images

المؤرخ الفرنسي جان لاكوتور قال إن مرض السُل الرئوي كان أهم الأسباب التي أدت إلى وفاة شامبليون

رفض المتخصصون المعاصرون لشامبليون اعتبار حالات الإغماء التي كانت تطرحه أرضا من حين لآخر، تشخيصا إكلينيكيا لإصابته بمرض السُل، فقد كان مريضا بمرض السكري، فضلا عن أزمات مرض النقرس التي عصفت بالسبع سنوات الأخيرة من حياته، حسبما أشارت التقارير الطبية وقتها.

كما توجد أسباب عديدة دعت إلى الاعتقاد بأن فترة إقامته في مصر، وظروفها المناخية، وشربه من ماء النيل، وما تناوله من طعام لم تكن غريبة عن التدهور المفاجئ لصحته، وفقا للاكوتور.

وقدم الأطباء الفرنسيون، كروفيليه ودبروسيه وروبير، تشخيصا لحالة شامبليون الصحية جاء فيه: "مرض معقد للغاية، حالة وهن بسبب مرض السكري، البقاء في الحجر الصحي، الانفعالات مع أحداث الثورة، الإرهاق المستمر والإحساس الدائم بأن الموت يقترب منه، تعد جميعها أسبابا معنوية لها آثار كبيرة على مريض السكري، فضلا عن التئام الجروح السيء الذي يساعد في انتشار مرض السُل الرئوي".

وأضافوا أن "تفاقُم مرض النقرس، والمحن التي واجهت شامبليون ورحلته المرهقة (إلى مصر) والأجواء السيئة داخل مقابر ملوك (الفراعنة) وشرب كميات كبيرة من ماء النيل، كل ذلك تسبب في إصابته بمرض الكبد الذي جرى تشخصيه متأخرا جدا، وأوصله إلى القبر".

صدر الصورة، MUSÉE CHAMPOLLION-LES ÉCRITURES DU MONDE/Facebook

ظل هذا الاعتقاد شائعا منذ وفاة شامبليون حتى طرح هوتان أشرفيان، الطبيب المتخصص في جامعة كوليدج لندن الملكية، فرضية جديدة نشرتها دورية "الفسيولوجيا العصبية السريرية" تشير إلى أن وفاة شامبليون كانت بسبب إصابته بأعراض مرض عصبي ناجم عن خلل في الخلايا العصبية الحركية، وخلايا الدماغ والحبل الشوكي.

ويقول أشرفيان، بحسب موقع "سيانس إيتافينير" الفرنسي المعني بشؤون العلوم والصحة: "موت شامبليون مبكرا يعزى إلى إصابته بالتعب والإرهاق الشديدين بعد زيارة مصر، ما يرجح أن سبب الوفاة ناجم عن إصابته بمرض التصلب الضموري الجانبي".

ويستند أشرفيان إلى أنه خلال فترة إقامة شامبليون في مصر، لا توجد أي إشارة في المراسلات بشأن إصابته بمرض ليمفاوي أو عدوى من أي نوع، لكنه شكا بعد عودته إلى فرنسا من وهن العضلات، ثم شلل الأطراف وصعوبة في التنفس، لازمته حتى الوفاة.

أوصى شامبليون بدفنه فى مقابر بير لاشيز في باريس و أقيمت بجوار قبره مسلة على الطراز المصري

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل