المحتوى الرئيسى

بين القول بالجبر والقول بحرية الاختيار!

02/24 21:18

لم يتوقف فلاسفة العصر الحديث عن مباحثهم فى مسألة القدر، على تفاوت فيما بينهم ــ بين القول بالجبر، والقول بالحرية الإنسانية أو الاختيار، إلاّ أن الفلسفة لم تستأثر وحدها ــ فيما يقول الأستاذ العقاد ــ بهذه المباحث فى القرون الأخيرة، فدخلت مضمارها العلوم الطبيعية، ولا سيما علم النفس الذى يعتمد على هذه العلوم.

ولكن علم النفس على النهج الحديث ــ لم يحسم الخلاف بين الجبر وحرية الاختيار، وتفاوتت آراء علمائه بين القائلين بالمادة وحدها التى تفسير جميع التعاملات، وبين القائلين بالعقل.

وحلت الحتمية الحديثة Determination محل الجبرية القديمة Fatalism فى اصطلاح العلماء. ومن ثم أصبح القول بالحتمية الحديثة مناقضًا للقول بالجبرية فى أقوال علماء الأديان، لأن الجبرية تحصر الإرادة كلها فى الإله المعبود، أما الحتمية فهى على الأقل لا تستلزم وجود إله إلى جانب القوانين التى يفسرون بها إرادة الكون.

وقد تعاقبت الكشوف فى ميادين العلوم الطبيعية، ولكل منها قانون يزعم أنه الأصلح، 
ثم تقدمت الكشوف الذرية فى أوائل القرن العشرين، وإذا بكشف منها يضرب الحتمية ضربةً قاصمة، ويفتح الباب واسعًا للقول بالحرية والاختيار.. وذلك هو الكشف الذى جاء به «نيلز بوهر» العالم الدنماركى الذى حصل على جائزة نوبل للعلوم عام 1922.

وجاء بعد «بوهر» ــ «أوجست هيزنبرج» الذى سمى مذهبه باللا حتمية، وبلغ من وثوق بعض العلماء بصحة هذه التجارب أن عالمًا كبيرًا ــ فيما يقول العقاد ــ كالسير «آرثر إدنجتون»، أعلن أن الأمر فى هذه التجارب قلما يحتمل الخلاف، مقررًا أنه لا يعتقد بوجود انقسام ذى بال فى رأى القائلين بهبوط مذهب الحتمية. وقد ترجمت للقارئ العربى بحثه عن «الواقع أو الحقيقة» من كتابه «طبيعة العالم المادى» ــ كتاب الهلال ــ العدد 720 ــ ديسمبر 2010.

ويرى الأستاذ العقاد أن الحتمية العلمية لا تثبت لقوانين المادة أنها تنفرد بتفسير كل أسرار الطبيعة، وكل حركة من حركات الأجسام.

وهنا يدع الأستاذ العقاد العلم والفلسفة فى موقفهما الأخير من مسألة القدر ــ لينتقل إلى إجمال هذه المسألة كما عرضت فى الأديان الكتابية بترتيب نزولها: اليهودية أو الموسوية والمسيحية والإسلام.

والكلام عن التقدير الإلهى قديم فى الكتب اليهودية، وردت الإشارة إليه فيما يقول الأستاذ العقاد ــ من أول الأسفار المعتمدة إلى آخرها، ولكن على اختلاف فى أساليب التقدير تبعًا لاختلاف الصورة التى كانوا يفرضونها للإله، أو باختلاف نصيبه عندهم من عظمة المشيئة، وعظمة القدرة، وعظمة الصفات.

وكانت الصورة الأولى للإله عندهم ــ صورة المالك المطلق الذى يريد أن يستأثر لنفسه بالمعرفة والخلود والسلطان، ويكره من الإنسان أن يتسامى ــ أو يتطاول ــ إلى منازعته فى صفاته، فيبتليه بالعجز والحرمان والحد من حظوظه فى النعمة والحياة.

فالنوع الإنسانى، وفق هذا التصور ــ رعية متمردون يخضعون للقوة، وعلى هذه الصورة وقعت الخطايا الأولى التى جرت عليهم غضب الله وحرمتهم نعمة الخلود.

وتصويرًا لهذا الغضب، حين الأكل من شجرة المعرفة التى نهى الله عنها، جاء بسفر التكوين من قول الإله: «هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد...» ( التكوين 3: 22 )

ومن هنا حاقت اللعنة بالإنسان لأنه أكل من الشجرة، وبالمرأة لأنها استمعت إلى غواية الحية، وبالحية لأنها سوّلت لهما هذا العصيان. ( التكوين 3: 14 ـ 19).

ولم يكن الإنسان هو المتمرد الوحيد على إرادة الله، فإن أبناء الله سكان السماء حسب تعبير التوراة، ويراد بهم الملائكة.. نظروا إلى بنات الناس فرأوا أنهن حسنات فاتخذوا منهن نساءً، وغضب الرب، وبعد ذلك أيضًا دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادًا وهؤلاء حسب تعبير التوراة هم الجبابرة المشهورون، فرأى الله ــ فيما تقول التوراة ــ أن الشر قد كثر فى الأرض، فغضب الرب أنه من عمل الإنسان فى الأرض، وقال: «أمحو من وجه الأرض الإنسان الذى خلقته». (سفر التكوين 6: 1ـ 8)

ويمكن أن يقال على هذا، إن الخطيئة الكبرى ــ فيما يستخلص الأستاذ العقاد ــ هى طموح الإنسان إلى العلم والخلود اللذين استأثر بهما الله (حسب التصوير التوراتى)، فالله على هذه الصورة مالك يكره من رعاياه أن ينفسوا عليه أسرار الحكم والبقاء، وهو يملك التقدير والتدبير، ولكن كما يملك الحاكم فرض الشرائع وفرض الجزاء والعقاب، وقد يراجع نفسه فيما قضاه فيبطله ويلغيه ويندم عليه (طبقًا للنص التوراتى).

وقد جاء فى الأسفار اليهودية المتعددة كلام صريح عن تقسيم الحظوظ بين الآحاد وبين الشعوب، ومن ذلك تمييز بنى إسرائيل على غيرهم، وتمييز يعقوب على عيسو، وذرية يعقوب على ذرية عيسو، وكلاهما جنين فى بطن أمه: «وتزاحم الولدان فى بطنها، فقالت: «إن كان هكذا فلماذا أنا؟» فمضت تسأل الرب. فقال لها الرب فى بطنك أمّتان، ومن أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوى على شعب، وكبيرْ يُسْتَعْبد لصغير» (التكوين 25: 22، 23).

ومع الزمن، ترقى الوعاظ والأنبياء فى فهم عظمة الله، فدعا «أشعيا» إلى عبادة الله الذى علم الأشياء منذ القدم.

بيد أن «القدر» لم يزل عند بنى إسرائيل مشيئة حاكم يأمر وينهى، ويرجع عمّا أمر به وقضاه، ولم يفهموا القدر قط على أنه نظام شامل للوجود محيط بالأكوان.

ففى سفر «أشعيا» يوصف الله بأنه جابل الإنسان، وينهى الإنسان عن مراجعته فى قضائه، لأنه «خزف بين أخزاف الأرض. هل يقول الطين لجابله ماذا تصنع؟.. أو يقول عملك ليس له يدان ؟!».

ولكن هذا الخزف يجبل ويعاد جبله، ولا يستقر رأى الخزاف على حفظه أو تحطيمه، فيحطم بعد حفظ، ويحفظ بعد تحطيم، كما قال «أرميا» فى سفره.

ويضيف الأستاذ العقاد أنه ربما حسن عند اليهود أن يتشبثوا بفهم القدر الإلهى على هذه الصورة، لأنهم علقوا آمالهم كلها فى الخلاص على «إله» يتحيز لهم، ويتحول من الغضب إلى الرضا، لإنقاذهم من سطوة أعدائهم.. فأصروا من ثم على تصوير «القدر» لأنفسهم على هذه الصورة.

وقد أراحهم هذا الفهم من مشكلة «القضاء والقدر» عند أصحاب الديانات الأخرى، ولهذا سهل على رجل مثل «يوسفيوس» أن يقول: «إن الأمور كلها تجرى بقدر مقدور ولكنه لا ينتزع الإنسان من حريته فى فعل ما يختار. لأن الله أيضًا شاء أن يمزج بين القدر ومشيئة الإنسان ليتاح له عمل الخير والشر كما يريد».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل