المحتوى الرئيسى

ترامب الذى كان وأنصاره

01/28 01:42

كان الاتجاه الغالب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى نوفمبر 2015 هو إعطاء فرصة لليمين الأمريكى الشعبوى لتولى السلطة وذلك إزاء تصاعده ورد فعله القوى على انتخاب مواطن أمريكى من أصول إفريقية وهو باراك أوباما لأول مرة فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، واستمراره فى سدة الحكم فترتين رئاسيتين كاملتين. وكانت المرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون قاب قوسين أو أدنى من الفوز. ولكن انتصر التيار اليمينى الشعبوى وفاز دونالد ترامب، الرجل المغامر المتعصب القادم من خارج المؤسسات الأمريكية والمتمرد على الخضوع لأى قواعد سياسية معمول بها.

واعتقد كبار قادة وشخصيات الحزب الجمهورى الذى ترشح ترامب باسمه، أنه بالإمكان كبح جماح ترامب عن طريق المؤسسات الأمريكية خاصة الكونجرس بمجلسيه وكان الجمهوريون يتمتعون بأغلبية فى مجلس الشيوخ. ولكن التجربة العملية أثبتت أن ترامب استثمر بتجاوزات عديدة السلطات التنفيذية الواسعة التى يتمتع بها الرئيس الأمريكى، سواء فى اختيار الوزراء ومساعديه، رغم ضرورة موافقة الكونجرس على تعيينهم، إلا أن ترامب كان يطيح بهم واحدا تلو الآخر لمجرد إبدائهم آراء معينة لا تروق له فى مجال اختصاصهم وصلاحياتهم، وذلك لإيمانه التام بأنه لا راد لكلامه باعتباره الرئيس. وأدى ذلك إلى عدم استقرار فى الأجهزة التنفيذية المختلفة من ناحية، وإلى تفضيل ترامب اختيار من يدينون له بالولاء بغض النظر عن خبراتهم وإمكانياتهم الشخصية، المهم لديه السمع والطاعة لما يقوله ولما يراه. وكان معظم الوزراء، بل والعالم يفاجأون بقرارات ترامب التى يتخذها وينشرها على صفحته على تويتر، ومعظمها دون التشاور مع الهيئات والأجهزة المختصة. وأدى ذلك إلى حالة من عدم اليقين عما يمكن أن يتخذه ترامب من قرارات فى قضايا مهمة.

كما توسع ترامب فى إصدار القرارات الرئاسية التى لا يحتاج تنفيذها إلى اعتماد من الكونجرس وإنما تعتمد على التوافق والتنسيق بين الأجهزة التنفيذية وهى خاضعة له فى نهاية المطاف. وأمثلة ذلك كثيرة خاصة فى مجال العلاقات الخارجية ومنها على سبيل المثال قرار إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطون وقطع المعونات الأمريكية عن السلطة الفلسطينية، وانسحاب الولايات المتحدة من عدة منظمات دولية وإقليمية أو وقف عضويتها باختيارها أو بمعنى أدق باختيار ترامب.

كان من أبرز الشعارات التى رفعها ترامب شعار أمريكا أولا، وجعل أمريكا أمة عظيمة. وهو شعار لا يتفق مع طبيعة العلاقات الدولية فى القرن الحادى والعشرين والتى تقوم على الاعتماد المتبادل بين الدول، ومع انتشار الشركات الأمريكية العابرة للقارات. ومن ثم فقد يصلح الشعار لدولة نامية وليس لدولة عظمى ذات سياسات عالمية يكاد يكون من المستحيل عودتها إلى سياسة العزلة التى اتبعتها فى القرن التاسع عشر. ونتج عن محاولة ترامب تطبيق شعار أمريكا أولا أن فقدت الكثير من دورها القيادى العالمى لصالح قوى أخرى سواء روسيا والصين أو حتى الاتحاد الأوروبى، كما أدخل الولايات المتحدة فى مواجهات تجارية واقتصادية مع منافسيها بل وأقرب، حلفائها.

واتبع ترامب فى سياساته الخارجية سياسة العصا أكثر من الجزرة، وإذا استعصى الاستجابة لمطالبه يلجأ إلى أسلوب فرض العقوبات الاقتصادية، ولعل فترة السنوات الأربع التى حكم فيها ترامب من أكثر الفترات التى صدرت فيها قرارات أمريكية منفردة بعقوبات اقتصادية أو فرض رسوم جمركية حمائية، دون الأخذ فى الاعتبار ما ألحقه ذلك كله من أضرار كبيرة حتى بأقرب حلفاء أمريكا. كما اتسمت معظم مواقفه بالمتناقضات، وعلى سبيل المثال كان يدعو إلى تحقيق السلام فى الشرق الأوسط والتوصل إلى حل جذرى للقضية الفلسطينية، وفى نفس الوقت قطع جميع الاتصالات والمعونات عن الفلسطينيين وأعطى كل الدعم والمساعدات للإسرائيليين وأقر بحقهم غير المشروع بضم المستوطنات الإسرائيلية على الأراضى الفلسطينية المحتلة والجولان السورية. ووصف حلف الناتو بأنه قد تجاوزه الزمن، وفى نفس الوقت طالب أعضاءه بالقيام بدورهم وزيادة مساهمات الدول الأوروبية فى ميزانيته، وعقد اتفاق وقف القتال مع طالبان وأعطاها حقوقا ومزايا عديدة بعيدا عن نظام الحكم فى أفغانستان مما أدى إلى استمرار الصراع بين طالبان ونظام الحكم على ما هو عليه، وانسحب من الاتفاق النووى مع إيران بدون أسباب مقنعة وبدعوى ردعها بأقصى العقوبات الاقتصادية لقبول شروطه لتعديل الاتفاق، وكانت النتيجة رد إيران بالتوسع فى تخصيب اليورانيوم وإقامة أجهزة الطرد المركزى، وزيادة تخزين اليورانيوم المخصب.

كان الإصلاح الاقتصادى والمالى الأمريكى وتخفيض البطالة من أهم مفاخر إنجازات ترامب، ولكن بتحليل تطور الأوضاع الاقتصادية والمالية الأمريكية فإن الأزمة الاقتصادية بدأت فى أواخر الرئاسة الثانية لبوش الابن خاصة فى عام 2008 وعندما تولى باراك أوباما فى 20 يناير 2009، قال إن معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية لن تكفيها فترة رئاسية واحدة، بل قد تمتد إلى أواخر الفترة الرئاسية الثانية، وقدمت إدارة أوباما مساعدات مالية سخية لبعض الشركات العملاقة المرتبطة بالصناعات الاستراتيجية الأمريكية سواء العسكرية أو فى الفضاء الخارجى، ومنها شركة جنرال موتورز التى حصلت على مساعدة قيمتها 32 مليار دولار أمريكى. ومن ثم فعندما تولى ترامب السلطة فى 20 يناير 2016 كانت إجراءات معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية قد قطعت شوطا طويلا وفعالا وبدأت المنحنيات الاقتصادية والمالية فى الصعود، ووجد ترامب الطريق ممهدا أمامه لتحقيق انطلاقة اقتصادية معتمدة بدرجة كبيرة على ما سبقها من ناحية وعلى الإجراءات الحمائية التى اتخذها ترامب من ناحية أخرى. وإزاء استهانة ترامب بجائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، فقد التهمت معظم ما تحقق من إنجازات سواء فى مجال النمو الاقتصادى أو انخفاض معدلات البطالة، وختم ترامب سنواته الأربع بأعلى نسبة بطالة وأعلى نسبة وفيات بجائحة كورونا؛ حيث تخطت 350 ألف وفاة بين الأمريكيين ومريحة الخطى 500 ألف وفاة وهو ما يفوق أى خسارة بشرية أمريكية فى أى من الحروب التى خاضتها الولايات المتحدة.

تبدأ محاكمة دونالد ترامب الرئيس الأمريكى السابق فى مجلس الشيوخ الأمريكى يوم 8 فبراير 2021 بناء على طلب مجلس النواب الأمريكى وبتأييد عدد من الجمهوريين بتهمة التحريض على التمرد والعنف وتشجيع مؤيديه الذين قاموا بالهجوم على الكونجرس الأمريكى يوم 6 يناير 2021 لمنع الكونجرس من اعتماد نتيجة فوز جوزيف بايدن الديمقراطى فى انتخابات الرئاسة بفارق 74 صوتا على دونالد ترامب الجمهورى فى المجمع الانتخابى الأمريكى. وقد وصف بايدن هجوم أنصار ترامب على الكونجرس بأنه عمل إرهابى غوغائى داخلى.

وسبق أن خسر ترامب كل قضايا الطعن فى نتائج الانتخابات فى بعض الولايات سواء على مستوى محاكم الولايات أو المحكمة الاتحادية العليا. وتناسى ترامب أن لجان الانتخابات سواء المشرفة على التصويت أو التى تقوم بفرز الأصوات مكونة من الجمهوريين والديمقراطيين ومن ثم لا مجال للتشكيك فى عملها، كما أن فارق فوز بايدن كبير جدا بحيث لن تغيره بعض أخطاء بسيطة هنا أو هناك. ولكن ترامب يصر على أنه الفائز وأن نتائج فوزه فى الانتخابات سرقت منه. ورفض ترامب حضور مراسم تنصيب بايدن وهى المرة الرابعة فى التاريخ الأمريكى ولم تحدث من نحو 150 سنة. وخرج ترامب من البيت الأبيض مغضوبا عليه تاركا ميراثا من التعصب والعنصرية والكراهية والانقسام حتى داخل الحزب الذى رشحه وأيده ووقف معه حتى النهاية وحتى أصبح ترامب عائقا أمام الحزب.

إن القول بأن ترامب صوت له نحو 75 مليون ناخب لا يعنى الكثير سواء بالنسبة لعدد المشاركين فى التصويت أو بالمعايير الديمقراطية التى تقر بالفوز لمن يحصل على الأغلبية أيا كانت. فإن بريطانيا خرجت من الاتحاد الأوروبى بموافقة 51 بالمائة فقط من إجمالى أصوات البريطانيين. كما أن من صوتوا لترامب أغلبيتهم من الجمهوريين الملتزمين بالتصويت لمرشح الحزب أيا كان وإذا لم يفز مرشحهم يعودون إلى الاهتمام بالحزب ووحدته وتأهيل مرشح جديد مؤهل للمنافسة للفوز فى الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2024. وأن كثيرين من قيادات الحزب الجمهورى يرون أن ترامب كان عبئا وانزاح عن كاهلهم وكل ما يستطيعون تقديمه له هو تخفيف العقوبات التى سيوقعها عليه مجلس الشيوخ أو المساومة على مخرج يحفظ له بعضا من ماء الوجه ويبقى على وحدة وتماسك الحزب الجمهورى، خاصة وأن ترامب قد سرب أنه تشاور مع بعض معاونيه حول فكرة إنشاء حزب جديد يتزعمه تحت مسمى «الحزب الوطنى» وقال وهو يحيى موظفيه فى مطار قاعدة الدروز الجوية أنه سيعود بطريقة ما وهو ما قد يمثل أداة ضغط على قيادات الحزب الجمهورى تحسبا لانشقاق أعضاء من الحزب الجمهورى وانضمامهم لحزب ترامب المزمع إنشاؤه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل