المحتوى الرئيسى

كيف يمكن تجنب الوصول إلى "اليوم صفر" ونضوب المياه؟ - BBC News عربي

01/15 21:08

صدر الصورة، Getty Images

في يونيو/حزيران 2019، نضبت المياه في الخزانات الكبيرة التي تغذي تشيناي باحتياجاتها المائية، ما أدى إلى حرمان الكثير من السكان منها

في صيف عام 2019، ضرب الجفاف مدينة تشيناي الساحلية الواقعة جنوب شرقي الهند. وللحيلولة دون تكرار هذا السيناريو الكابوسي، تبحث سلطات المدينة حاليا سبل الاستفادة من الأراضي الرطبة والمستنقعات الموجودة بين جنباتها منذ أمد بعيد.

تبدأ السيدة الهندية كلاسلفي موراغِن يومها مبكرا للغاية، إذ تستيقظ فجرا لكي يتسنى لها حجز مكان متقدم في صف من يقفون لملء المياه، من المضخة المخصصة لذلك، في الحي الذي تقطنه بمدينة تشيناي. وبعد أن تحصل على ما تحتاجه لتلبية احتياجات شقتها الضيقة الواقعة في الطابق الثالث من إحدى البنايات، تهرع لأداء عملها كعاملة منزلية في حي أكثر ثراء في المدينة. هناك لا يعاني السكان من انقطاع المياه، إذ تتوافر لهم في شققهم، بفضل صهاريج تنقل لهم إمدادات منها على مدار اليوم.

فمدينة تشيناي، التي يقارب عدد سكانها 11 مليون نسمة، تفتقر لأي أنهار دائمة الجريان يمكن أن تزودها بالمياه. وتعتمد في هذا الصدد على الرياح الموسمية التي تقود لهطول الأمطار عليها، بجانب أربعة خزانات كبيرة للمياه توجد فيها.

لكن الاعتماد على هذه المصادر لتلبية الاحتياجات المائية لسكان المدينة الهندية، يثبت يوما بعد يوم أنه محفوف بالمخاطر، وهو ما اتضح في يونيو/حزيران 2019، عندما حظيت تشيناي باهتمام وسائل الإعلام الدولية، عندما أعلن المسؤولون فيها أنها وصلت إلى "اليوم صفر"، أي مرحلة نضوب المياه في خزاناتها الأربعة.

وأدت هذه الأزمة إلى اتخاذ إجراءات بدت شديدة الصرامة لتوفير المياه، بما في ذلك جلبها بالقطارات، من بلدة تقع على بُعد أكثر من 200 كيلومتر، من تلك المدينة الساحلية.

الغريب أن تشيناي كانت عرضة للفيضانات كذلك، فظاهرة التغير المناخي، قادت إلى زيادة عدد المرات التي تتعرض فيها هذه المدينة لأمطار غزيرة بواقع ثلاثة أضعاف، في الفترة ما بين عاميْ 1950 و2015، وذلك في وقت اضطربت فيه وتيرة الرياح الموسمية التي تهب على تلك البقعة بشكل متزايد، ما قاد إلى تزايد فترات الجفاف.

وفي ظل هذه الظروف، توزع السكان بين من يلجؤون للحصول على المياه من المضخات الموجودة في أحياء تشيناي مثل موراغِن، ومن يستطيع ماديا استئجار صهاريج تنقل له احتياجاته منها، بجانب فريق ثالث يلبي تلك الاحتياجات، عبر الاعتماد على شراء قوارير من المياه المعدنية.

غير أن مشكلات هذه المدينة الهندية مع إمدادات المياه ليست وليدة اليوم، فالمهندس القاطن فيها نيتانند جايرامِن، وهو كذلك من نشطاء المجتمع المدني، يرى أن الأمر يعود إلى الوقت الذي أصبحت فيه تشيناي مستعمرة بريطانية بداخل الهند، في القرن السابع عشر، ما أدى إلى حدوث تغير جوهري، في الطريقة التي تحصل بها تلك المنطقة على احتياجاتها من المياه. ويشير جايرامِن إلى أن الحلول التي اتُبِعَت في هذا الشأن، اتسمت منذ ذلك الوقت بأنها "قصيرة النظر، ما أوقع المدينة في مزيد من المشكلات".

الآن، وبعد قرون من بدء معاناة سكان تشيناي من هذه المشكلة، بدأت المدينة في السعي للاستفادة من الموارد الطبيعية الموجودة في المناطق المحيطة بها، أملا في الحيلولة دون أن تواجه "يوم صفر" ثانيا.

صدر الصورة، Kalpana Sunder

على مدار سنوات طويلة، تعرضت مناطق الأهوار المتبقية في تشيناي إلى تعديات، كما تلوثت جراء إلقاء النفايات فيها

فقبل خضوعها للاستعمار البريطاني، كانت تشيناي والمناطق المتاخمة لها تُعرف بـ "مقاطعات البحيرة". فهناك تجمعت كميات كبيرة من مياه الأمطار، التي يمكن لسكان المدينة استخدامها، بفضل وجود شبكة متصلة من البرك والبحيرات والمستنقعات والأهوار (الأراضي الرطبة) وخزانات المياه والمسطحات المائية الصغيرة الموجودة في المعابد، والتي يُطلق عليها اسم "صهاريج المعابد". وأدت هذه الشبكة كذلك إلى الحفاظ على منسوب المياه الجوفية مرتفعا في المنطقة على مدار العام.

أما تحت الحكم البريطاني، فقد تم توسيع نطاق بعض صهاريج المياه، التي كانت وقتذاك بركا حفرها البشر لتجميع المياه فيها، وذلك لتشكيل "خزان مركزي كبير"، يكفي لإمداد سكان مساحة واسعة من المدينة باحتياجاتهم المائية.

وفي القرون التالية، واصلت تشيناي اعتمادها على عدد كبير من الخزانات الضخمة، بالتوازي مع تزايد عدد سكانها. لكن الطابع الحضري الذي اصطبغت به، كان له ثمن كذلك. إذ تشير البيانات إلى أنه جرى تدمير 90 في المئة من مساحة الأهوار، أو البناء عليها. وقد تسارعت وتيرة فقدان هذه المناطق خلال العقود القليلة الماضية، فلم تعد تشكل سوى 15 في المئة من مساحة المدينة، بعدما كانت تمثل 80 في المئة منها، في ثمانينيات القرن الماضي.

واليوم بات التذكير الوحيد بتاريخ تلك "الأراضي الرطبة" المفقودة، يتمثل في أسماء شوارع من قبيل "طريق الإطلالة على البحيرة" و"طريق دعامة الصهريح".

لكن لا يزال بوسعك إذا زرت المدينة الهندية، أن ترى طيورا من أنواع مثل عقاب السمك وأبو ملعقة، وهي تنقض على مياه تعج بزنابق متوطنة أرجوانية اللون، وفي الخلفية مشهد لمبان شاهقة الارتفاع.

وتُعرف هذه المنطقة النابضة بالحياة، باسم "أهوار باليكراناي"، وهي البقعة الوحيدة من "الأراضي الرطبة" المتبقية في المدينة، وتقع على بُعد 20 كيلومترا من وسطها. وخلال فترة هبوب الرياح الموسمية، تصب فيها المياه الفائضة من أكثر من 30 مسطحا مائيا مختلفا. كما أن هذه الأهوار، تشكل موطنا لزواحف مثل "أفعى راسيل" وطيور كـ "الطيطاوات" ذات الرأس الرمادي.

ومنذ عام 2001، تعكف جايشري فينكاتيزان، مؤسسة جمعية "كَير إرث ترست" المعنية بالتنوع الحيوي والتي تتخذ من تشيناي مقرا لها، على دراسة "أهوار باليكراناي". وقد كشفت هذه الدراسات، عن تقلص مساحة تلك المنطقة من نحو 6000 هكتار (قرابة 23 ميلا مربعا) في ستينيات القرن العشرين، إلى أقل من 600 هكتار (ما يقارب 2.3 ميل مربع) في أوائل القرن الحالي. ونجم ذلك عن عمليات البناء غير المخطط على أراضي هذه الأهوار، وإلقاء النفايات فيها. وشكل ما خلصت إليه هذه الباحثة، أسس حكم أصدرته المحكمة العليا في المدينة، لحظر القيام بأي أنشطة إضافية من شأنها، التعدي على مزيد من المناطق في "أهوار باليكراناي". كما مثلت النتائج البحثية نفسها، حافزا لوضع خطة تستهدف إعادة جانب من تلك "الأراضي الرطبة" التي تم التعدي عليها، إلى حالتها الأصلية.

وفي عام 2007، أعلنت السلطات أن جانبا من هذه المنطقة، صار "محمية طبيعية". وفي عام 2018، تم تخصيص 165 مليار روبية (نحو 22.7 مليون دولار أمريكي) لتمويل إجراء مزيد من الأنشطة الرامية لإعادة مساحة أكبر من الأهوار إلى ما كانت عليه، قبل أن تتعرض للتعديات. ومنذ ذلك الحين، عَمِلَت الإدارة الخاصة بالغابات في ولاية تاميل نادو التي تتبعها تشيناي، على إزالة الأنواع النباتية الغازية في منطقة الأهوار، وكذلك على تقليص النفايات وكميات مياه الصرف الصحي غير المعالجة التي يتم التخلص منها هناك، ووضع حد للتعديات عليها.

ومن شأن الحفاظ على طابع هذه المنطقة، وإعادة الحياة إلى الجيوب النباتية الموجودة في مختلف أنحاء المدينة، توفير ملاذ نادر من نوعه للحياة البرية من جهة، وإتاحة الفرصة للتربة في "تشيناي" لامتصاص كميات أكبر من مياه الأمطار الغزيرة التي تهطل عليها، ما يُمَكِنّها من تجديد مخزونها من المياه الجوفية.

صدر الصورة، Jayshree Vencatesan

ازداد عدد الأنواع الحيوية التي تعيش في منطقة "أهوار باليكراناي" بعد عمليات إعادة تأهيلها

لكن صعوبات أكبر اكتنفت عملية إعادة تأهيل مماثلة، أُجريت للأنهار الثلاثة الرئيسية في هذه المدينة الهندية. فلهذه الأنهار وكذلك لقناة باكنغهام التي تمر بغالبية أنحاء "تشيناي" في مسار موازٍ للساحل، تاريخ من التلوث بالنفايات الصناعية والمخلفات الصلبة، مما جعل مياهها غير صالحة للشرب أو للاستحمام. وفي عام 2006، أنشأت الحكومة المحلية في تاميل نادو صندوقا لحماية القناة والأنهار الثلاثة وإعادة تأهيلها. ولم تكن هذه المهمة باليسيرة، فقد أدى تراكم النفايات إلى تقلص عرض القناة من 200 متر، إلى أقل من 50 في العديد من المناطق.

رغم هذه الصعوبات، بدت علامات التعافي على البيئة في منطقة مصب القناة؛ إذ زُرِعَت شتلات 173 نوعا من النباتات المحلية في الهند، على مساحة تفوق 350 فدانا (نحو 140 هكتارا)، وقد بدا أن ذلك يؤتي بنتائج جيدة. وشملت هذه العملية، زرع شتلات لأشجار "الأيكة الساحلية" (المانغروف)، وللنباتات التي تُزرع بالقرب منها عادة.

وعلى مدار فترة المشروع، زاد عدد الأنواع الحيوية في المناطق التي أُعيد تأهيلها من 141 نوعا خلال عاميْ 2007 و2008 إلى 368 نوعا خلال عاميْ 2019 و2020. وقد صارت تلك المناطق، موطنا مزدهرا لمخلوقات تتراوح ما بين أسماك نطاط الطين والسلطعون، إلى زواحف الوَرَل.

على أي حال، لا تزال عمليات إعادة التأهيل تلك، بعيدة كل البعد عن الانتهاء، فمعاناة أنهار تشيناي من إلقاء النفايات فيها وصب كميات كبيرة من مياه الصرف الصحي غير المُعالجة في مياهها، لم تنته بعد. رغم ذلك، طرأ تحسن ملموس على الوضع في تلك الأنهار خلال السنوات الماضية. إذ بات بوسع المرء رؤية الطيور تحلق فوقها، وبدأت المياه التي كانت راكدة من قبل، تتدفق - على ما يبدو - في المناطق التي تم تطهيرها من المخلفات.

وبينما تشهد تشيناي مشروعات إعادة التأهيل البيئي هذه منذ عقود، شكلت الفيضانات المدمرة التي اجتاحت المدينة عام 2015، الدافع لإطلاق عملية طموحة تستهدف إحياء الأهوار الموجودة هناك، على نحو أوسع نطاقا. وعقب هذه الفيضانات، التي استعانت فيها السلطات بالجيش لإنزال الإمدادات الغذائية على السكان العالقين على أسطح منازلهم، بدأ المسؤولون المحليون في المدينة، إيلاء اهتمامهم للحلول القائمة على الاعتماد على الطبيعة، من أجل جعل تشيناي أكثر قدرة على التعامل مع تبعات التغير المناخي.

ومن بين النتائج الرئيسية التي تمخضت عن تلك المشروعات؛ تحقيق الهدف المتمثل في تحويل هذه البقعة من الهند، إلى "مدينة الألف صهريج"، كي تتمكن تشيناي من استعادة منظومتها العتيقة، التي شكلت مصدر مياه بالنسبة لسكانها، قبل فترة النمو المتسارع التي شهدتها. وكانت تلك المنظومة مترابطة الأجزاء، تتألف كما قلنا من قبل، من برك وخزاناتٍ للمياه و"صهاريج المعابد".

ومن بين الجهات المشاركة في مشروعات إعادة التأهيل هذه؛ شركة محلية للهندسة المعمارية، تحمل اسم "مدراس تيراس"، تعتزم التركيز على ترميم خزانات المياه الموجودة في المعابد، التي ترى أنها تشكل "مقياسا لمنسوب المياه الجوفية في المنطقة". ورغم أن السلطات رممت حتى الآن 15 من هذه الخزانات؛ فإن الشركة تأمل في ترميم ما هو أكثر.

كما يخطط فريق العمل التابع لـ "مدراس تيراس"، لرفع منسوب المياه الجوفية في المدينة الهندية، عن طريق تجميع مياه الصرف المُعالجة من المباني، عبر "خنادق نباتية" يُطلق عليها اسم "بايوسوَيلس"، وهي عبارة عن قنوات مُصممة لكي تُخلِصَ المياه خلال جريانها فيها، مما يشوبها من مُلوثات ومخلفات صلبة. ومن المقرر أن تمتد هذه الخنادق على طول الشوارع وفي الأفنية الخلفية وساحات الفنادق في المدينة. وتشهد إحدى مدارس تشيناي تجربة لاستخدام هذه الخنادق النباتية. لكن الظروف المترتبة على تفشي وباء كورونا، عرقلت تقدم هذه التجربة.

وتتعدد الأدوار التي تلعبها الأهوار أو "الأراضي الرطبة" وتتنوع كذلك؛ بدءا من تخزين المياه السطحية، وإعادة مستويات المياه الجوفية إلى طبيعتها، وصولا إلى توفير موائل طبيعية لمقومات الحياة البرية الآخذة في التضاؤل. ولذا لا تخفى على أحد دوافع إنقاذ أهوار تشيناي. فالوصول إلى هذه الغاية، يضمن جعل تلك المناطق، حاجزا يحول دون تعرض المدينة لنوبات الجفاف والفيضانات، المتوقع تفاقمها في الهند. لكن من شأن الدمار الواسع الذي لحق بتلك الأهوار خلال الفترة الماضية، جعل إعادة تأهيلها على نحو يُمَكِنّها من توفير إمدادات المياه للمدينة، تحديا هائلا.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل