الاغتيال بالحب

الاغتيال بالحب

منذ 3 سنوات

الاغتيال بالحب

استيقظت على رسالة نصية هاتفى المحمول كان مفادها: «أستشعر رغبة ملحة فى الجلوس والحديث معك.. أنا مخنوق شويتين».. بدا اسمه جليًا فى ظلام الغرفة عبر إضاءة شاشة الهاتف.\nثم جمعنا اللقاء بالمقهى الأحمدى المجاور للمسجد صاحب المقام، جاء فايق عامل المقهى وبصوته الصاخب قدم فنجان القهوة أمامى ثم سحب سيجارة من علبة التبغ، ورمقنى بنظرة زينتها ابتسامته، ولما حاول مداعبة صديقى وجده شارداً، فوضع كوب الشاى أمامه وانصرف دون إطالة منه فى المزاح. ومع الرشفة الأولى حاولت استنطاقه. حيث بادرته بالتساؤل رحمة به من ذلك الصمت الذى يخيم على وجهه ويكسو ملامحه بشجن لكنه ليس بشجن أليف.\n< مالك يا سيدى ايه اللى خنقك؟\n<< أخبرنى يا هاشم...أنت تكتب فى الحب وفى علاقات البشر المتشابكة، لكن هل يفترض أن يكون المحب به من صفات الأنانية والاهمال وإنكار المسؤولية بحجة التيه والألم؟\n- يبدو كدة إن الموضوع كبير. لكن قبل أى فلسفات أتمنى تدخل فى صلب الموضوع بشكل أكثر مباشرة وصرامة.\n- أنا أحادثك عن زوجتى. كلما نظرت لأطفالى دب فى جسدى الألم وفى روحى خوف لا طاقة لى به.\n< ماذا حدث ليصل الأمر لهذا الحد؟\n<< القضية قد تكون إشكالية فلسفية أو تستطيع أن تسميها بمصطلحات المثقفين أمثال حضرتك جدلية أو دليكتيك أحاول فهمه لحل مشكلتى؟\n< لا.. واضح إنه وحشتك قعدات التنظير والفلسفة يا مولانا.. فى إيه.. أتكلم بشكل مباشر؟\n<< بالعكس.. لا أقصد بحديثى التنظير للتنظير أنا أجتهد لمحاولة معرفة المشكلة؟\n<< هاشم.. أشعر بمسئولية كبيرة تجاه «الولدين»، لم أعد على قناعة تامة أن «ميسون» زوجتى لا تزال قارة على حفظ أمانتهم ورعايتهم، هى لم تقدم لهم شيئاً بل أصبحت عبئاً عليهم، أو تستطيع أن تقول إنها أصبحت حجراً يتعثر فيه الولدان.\n< ميسون أمهم يا مولانا وليست زوجة أبيهم...كيف تخشى على أبنائك من أمهم؟!.\n<< اسمعنى يا هاشم وركز معى.. زاد شجارنا فى الفترة الأخيرة كثيرا، كعادتها المتكررة دخول نوبات بكاء، واتصالات ملحة ومكثفة وسيل من الرسائل النصية تطارد هاتفى أثناء تواجدى خارج المنزل، وبمجرد عودتى للمنزل يصبح هدفها الأوحد هو محاولة النقاش للنقاش ثم مزيد من الشجار والخلاف، لقد ضجرت من هذا الأمر وشعرت بالجناية على الولدين جراء حالة الأنانية التى تتعمدها الأم من إهمالهم وترك واجبات الأمومة جهتهم، أصبح عبء مذاكرة الأولاد هو مسئوليتى لأن الهانم زوجتى فى حالة\n< ولكن كيف تكون أنت السبب؟ ولماذا تراك أنت المتسبب فى هذا الضياع والتيه الذى أصابها؟\n<< هى باختصار تتحدث بمعانٍ كبيرة لكنها معانٍ أنا أصفها بالمجوفة، هى تتهمنى بأنى السبب الأصيل لحالة العبث الأسرى الذى نعيش فيه.. فأنا المتسبب لإهمال دراستها فى الماجستير وأنا المتسبب فى إهمالها مذاكرة الأولاد.. وأنا المتسبب فى قعودها عن تنظيف البيت لدرجة أن حجرة الأطفال أحيانا تشبه حجرة الفئران أو صندرة تكوم فيها أغراض وتلقى فيها محتويات من كل صنوف المخلفات.\n< أريد أن أفهم كيف تراك أنت المسئول؟\n<< اسمعنى يا هاشم..فى كل نقاشاتى معها تخبرنى بأنها أوقفت نقطة دوران الكون عندى فصرت المنبع وصرت المصب، وأنها قد علقت كل حياتها بى، فلما تحزن بسببى تتوقف كل طاقتها عن العمل وعن العطاء حتى فعل الأمومة..تتجرد منه بحجة أنها فى دوامة حزن نفسى أنا سببتها لها.. وكل هذه الجرائم فى حق أطفالها بمسمى الحب.. هل يكون الحب هنا هو معادل فعل القتل والتدمير يا حضرة الكاتب؟!\nكنت راغبا بشكل ملح أن أحادثها، هى الطرف الآخر من المعركة، الضريبة هنا يدفع ثمنها الصغار تحت مسمى الحب والتيه والاغتراب، طلبت من صديقى أن يهاتف زوجته، وبحكم صلتنا الأسرية لأننا أبناء جامعة واحدة جمعتنا زمالة وعشرة زمانية امتدت لأكثر من عشرين سنة، وجدت نفسى مرغماً على ضرورة محادثتها لربما كانت عندها زاوية رؤية أخرى وددت اكتشافها.\nجاء صوتها عبر الهاتف مخنوقا بالبكاء، ولم تضف جديدا غير الذى حكاه لى الزوج، وقد سألتها ولكن ما ذنب الأطفال فى تركك لهم وإهمالهم بحجة أن حبك وحزنك سبب ما أنت فيه من كرب.\nقالت الزوجة: أنا ربطت حياتى وبهجتى به، وطالما آلمنى بأى فعل فأنا ليس بوسعى ولا بمقدورى العطاء لا فى البيت ولا للأطفال ولن أستطيع تقديم أى شىء لهم طالما كانت روحى مطفأة؟\n< رددت عليها بانفعال: «ولكن هذا لا يسمى حبا....هذا اغتيال باسم الحب؟»\n<< قالت الزوجة: «لقد أوقفت حياتى عليه وكان هو مركز هذه الحياة، أهملت دراستى وأثرته على نفسى، من اغتال من؟»\n<< قلت لها: «وهل فعلت كل هذه التضحيات مقابل شراء روحه مثلا.. أم كانت كل هذه التضحيات بدافع الحب وقناعة البذل، لو كان الأمر كذلك فما أنت فيه ليس بحالة محب، إنما بحالة تاجر خسر مكسبه فى بضاعة كان يظن أنها ستعود عليه بالربح. أنت تفتقدين فهم الحب ومعناه».\nهنا مكمن الكارثة ومربط الضلالة الأولى، حيث الاغتيال باسم الحب، ولا أعلم أى مسؤولية أخلاقية بقدر تضييع صغاراً هم أطفالها بحجة أن الزوج أوجعها وأتلف قلبها فصارت متفرغة للندب والشكاية والبكاء، وهو أمر لا يليق بالحب ولا يترقى أو يرتقى إليه، ولو كانت تلك الزوجة قد وقعت بالفعل فى أثر الحب لكانت تفانت من أجل أطفالها التى أنجبتهم منه، كان مجنون ليلى يقبل ذا الجدار وذا الجدار لأن هذه الجدران كانت يوما تضم جسد حبيبته، فما بالك عزيزى القارئ بأطفال هم من صلب ونطفة وظهر الحبيب، كيف يمكن إهمالهم بحجة أن روحك مطفأة وأن الحبيب أغضبك؟؟، أنت هنا لا تدركين أو تفهمين المعنى المبسط للحب، إذ كيف يتعارض الحب مع مفهوم الأمومة ورعاية أبنائك وتقديم العون الدراسى لهم بحجة أنك طول اليوم تبكين وتغلقين غرفتك على نفسك، هذا ليس له علاقة بمفهوم الحب، هذا اغتيال مغلف باسم الحب، أنت تقدمين لزوجك سما يوميا عبر رؤيته للصغار مهملين وتائهين ومتعثرين فى دراستهم، ولو كان ما تفعليه بحياتك تسمينه حبا فأنا أعلن علانية أمام الجميع أننى أتبرأ من هذا المفهوم المشوه للحب ولا أريده؛ لأنه بذلك يكون معولا للهدم وتدمير صغارا لا ذنب لهم سوى كذبك عى نفسك وأنانيتك.\nانت لا ترغبين سوى أن يكون صديقى هو ابن زيدون لسيادتك، يسمعك الكلام الحلو وأنت تزيدين من طلبك دون أن تعرفى أو تستشعرى ما يمر هو الآخر به من ضغوطات، انت هنا لا تتحدثين عن الحب، أنت تتحدثين عن صفقة شراء روح وأنانية مفرطة واغتيال لهذا المحب الذى أدعيتى أن الحياة وقفت عنده وانه حين يطعمك الكلام الطيب تنطلق روحك مغردة، ليس فى الحب شرط أيتها الزوجة المدعية للحب. فى صفقات التجارة هناك شروط، فى عقود ايجار المنشآت هناك شروط، لكن فى الحب هناك تضحيات تقدم، لا أن تغلقى على نفسك باب غرفتك بحجة أنك ضائعة وتائهة ومهملة حق أطفالك، ليس هناك أية أسباب يمكن أن تكون شفيعة لك، لأن تقصيرك وجرمك ليس فى حق زوجك أو حبيبك كما تدعين، إن الجرم الحقيقى كان من نصيب أبنائك، أيتها السيدة أنت بحاجة إلى إعادة تعريف الحب وصياغته وفهمه.. أنت تغتالينا جميعا باسم الحب.

الخبر من المصدر