المحتوى الرئيسى

المسألة الأمريكية غير جاهزة لحل قريب

11/25 21:03

قضيت نصيبا معتبرا من حياتى العملية أتابع بشغف تصرفات الولايات المتحدة. عشت سنوات عديدة أسجل توقعات تمس مستقبل دولنا ومجتمعاتنا العربية ضمن توقعات تمس مجمل سياسات ومصالح أمريكا الخارجية. الآن أعيش بعض الوقت أناقش مع متخصصين ومتخصصات مخضرمين ومخضرمات تحليلات ومعلومات تتعلق بمجموعة شواهد تلخص ما يصح أن نطلق عليه عبارة «المسألة الأمريكية». لا أقصد، من بعيد أو قريب، وجود صلة أو وجه شبه بين الحال الراهنة للنظام الدولى المعاصر وحال النظام الدولى خلال أواخر القرن الثامن عشر وطوال سنوات القرن التاسع عشر، ولا بين حال الإمبراطورية العثمانية وقتها وحال الدولة الأعظم، وأقصد الولايات المتحدة الأمريكية، فى ظروفها الراهنة. أكرر أننى لا أقصد أو ألمح بوجود صلة أو وجه شبه بين المسألتين، وإن كنت لا أنكر أهمية الضغط الشديد والملح من جانب تطورات الوضع الأمريكى وتصرفات المسئولين عنه لنقر آسفين بأن هناك «مسألة أمريكية» وأن العالم بأسره يعانى من تفاقم بعض تداعياتها وبخاصة الزيادة المطردة فى الوعى لدى مختصين ومسئولين بأن لا حل لهذه المسألة ينتظرونه قريبا.

لأغراض هذا المقال يجدر بنا عرض ما يعنيه لدينا مفهوم المسألة الأمريكية تحت ثلاثة عناوين. أول العناوين، المأزق الدستورى والديموقراطى، والمقصود به مجمل التطورات التى وقعت فى الحياة السياسية الأمريكية وأوجزتها بوضوح شديد تصرفات غير قليلة من جانب الطبقة السياسية عبر السنوات الأخيرة. أغلب هذه التصرفات تجسد فى شن حروب خارجية، وتعريض حقوق شعوب ودول أجنبية للانتهاك، وتجاوز المبادئ الحاكمة للنظام الديموقراطى الأمريكى. اكتملت التطورات، وأغلبها فى شكل تجاوزات وخروقات، أو عادت تطرح نفسها بشكل مركز خلال الحملة الانتخابية التى مهدت لوصول السيد ترامب إلى البيت الأبيض، طرحت نفسها أيضا فى الحملة الانتخابية التى شهدت سقوطه قرب نهاية ولايته، لكن أهم التجاوزات كانت تلك التى وقعت خلال السنوات الأربع، سنوات عهد الجمهوريين فى الحكم.

تحت العنوان الثانى، المأزق الحضارى، اجتمعت عدة مؤشرات أهمها التراجع المحسوس فى مكانة الولايات المتحدة على الصعيد التربوى والتعليمى وعلى صعيد التقدم التكنولوجى وبخاصة فى مجال تكنولوجيات الذكاء الاصطناعى. أنبه هنا وفى كتابات أخرى عديدة إلى أن ليس كل ما يقع تحت بند الانحدار الحضارى الأمريكى مطلق وإنما بعضه، إن لم يكن أكثره، نسبى أى بالمقارنة بما حققته جمهورية الصين الشعبية خلال صعودها الأسطورى.

ثالث العناوين يشير إلى المأزق الأمنى. قبل سنوات غير كثيرة لم يكن أحد من الخبراء أو المراقبين الإعلاميين يجادل فى أن التفوق الأمنى الأمريكى مطلق وأن القوة الصلبة الأمريكية ماحقة. الآن تدور مناقشات جادة حول ما أصاب الفجوة التى كانت تفصل بين القوة الأمريكية وأقرب قوة أخرى. المؤكد أن أمريكا لم تعد الدولة القائد بلا منازع فى إدارة أحلافها الخارجية وفى القدرة على تمويل هذه الأحلاف. المؤكد أيضا أن التقصير فى إدارة حروبها الخارجية مثل حربها فى أفغانستان وحملاتها ضد الإرهاب فى الشرق الأوسط ومنطقة الساحل، والعجز عن حماية الديموقراطية وتخليها عن قيادة هذا النشاط، والتراخى فى استخدام القوة لفرض إرادتها على دولة مثل فنزويلا، وعدم القدرة على توفير ضمانات وتسخير نفوذ مناسب لدعم استقلال أوكرانيا فى مواجهة الضغط الروسى ومنع روسيا من احتلال شبه جزيرة القرم، كلها فسرتها دول وتيارات كثيرة على أنها دلائل ملموسة على انحدار أمريكا، القوة الأعظم فى النظام الدولى القائم.

يصاحب الانحدار الأمريكى تغيرات تكاد تغطى جميع الأصعدة وفى معظم أقاليم العالم. استمعت إلى آراء مراقبين وتابعت بالدقة الواجبة سلوك دول وتيارات رغبة فى البحث عن علامات تؤكد الصلة بين تغيرات فى أنماط سلوك فى العلاقات الدولية من ناحية ومن ناحية أخرى علامات انحدار القوة الأمريكية بوجهيها، الصلب والرخو. عشنا مرحلة هامة تغيرت فيها أوضاع كثيرة فى الشرق الأوسط، وهى مرحلة ممتدة إلى يومنا هذا وممتدة فى ظنى إلى سنوات وربما عقود قادمة. تابعنا مثلا وبكل الشغف الممتع تغلغل التوسع الروسى وتعمق المصالح الصينية فى الإقليم فى حماية الولايات المتحدة. كانت أمريكا ولا تزال إلى حد ملموس الدولة الأجنبية الأقوى نفوذا فى الإقليم حتى وهى تنسحب سرا وعلنا. رأيناها تنسحب بعد أن تنسق مع روسيا أو غيرها مثل تركيا وإسرائيل لتضمن انسحابا آمنا وعودة أيضا آمنة فى حال فشلت أو تغيرت خطط الانسحاب. لم أتردد لحظة واحدة لأطلق على العلاقات بين أمريكا من جهة وكل من الصين وروسيا من جهة أخرى صفات تجريبية من نوع الإحلال أو شغل الفراغ المترتب على الانسحاب الأمريكى وهو الذى كان يجرى برضاء الأطراف الأهم فى عمليات ترتيب الشرق الأوسط من جديد. جدير بالذكر أن ليست كل القطاعات الأمنية فى الولايات المتحدة ظلت مجمعة على دعم هذا التوجه فى السياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط، إلى أن عادت فنشطت ضغوط قوى داخلية ومنها إسرائيل. هنا استخدمت صفة الداخل لتنطبق على التطور الذى حدث فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية خلال ولاية دونالد ترامب فى أمريكا وبعض ولاية بنيامين نتنياهو فى إسرائيل. إذ يبدو أن إسرائيل نجحت فى التوظيف الأمثل لأموال بعض أغنياء اليهود حتى أن عددا منهم تولى فعليا إدارة ما عرف بصفقة القرن أحيانا كممثلين لإسرائيل وأحيانا أخرى ممثلين لأمريكا. هكذا تحققت إرادة الطرفين على التعجيل بتسليم إسرائيل ما تريد فى الشرق الأوسط قبل أن تتسع شقة الخلاف داخل الحركة الإنجيلية من ناحية ومن ناحية أخرى قبل استكمال أمريكا انسحاباتها من المنطقة. هكذا تتفادى إسرائيل احتمال أن تقف لها روسيا أو تركيا أو الصين فى وقت لاحق ممانعة أو ساعية لنصيب لها فى حصيلة ما صار يعرف بالصفقة.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل