المحتوى الرئيسى

داخل وخارج حوض السمكة الذهبية

11/25 20:10

كانت حجرة نوم أمى مضاءة دائمًا على نحو مبهج بمصباح ساطع كبير، له ظلة ملمومة بشكل جميل ومشغولة بالدانتيلا. صناعة منزلية، مثلها مثل أغلب مفروشات البيت.

وكان مُشغّل أسطواناتها البلاستيكى الرمادى الغليظ يكيف الهواء بأصوات الأسطوانات الفونوغرافية لتوم جونز أو دوللى بارتون. كنا لنجلس معا أمام مرآتها الطويلة ونغنى أغنيات السعادة التى سمعناها من قبل مرات كثيرة.

فى ذلك الوقت كان غناء دوللى بارتون عن البغاء ودندنة كينى روجرز عن ثمة زواج محطم يبدو طبيعيًا تمامًا، أغان يسعد المرء بها وينضم إلى الآخرين فى غنائها. كنت أراقب أمى بإعجاب وهى ترتدى فساتينها الحريرية الجميلة تقريبًا كجمالها، وهى تلون جفون عينيها بمستحضر تجميلى براق وتكتسب طولًا إضافيًا بحذاء عالى الكعب بطول ست بوصات. كان الوقت خريفًا وكنت قد كبرت عامًا عندما لفت شعرها حول بعض البكرات الوردية الزاعقة. سمعنا سبابًا غير واضح يغدو مسموعًا فى الدور الأرضي.

ارتفع صوت أبي، عميقًا كما كان، وهو يطوى معاطف فراء الأرانب البيضاء والسمراء التى كان قد اشتراها من أجل أمى طوال السبعة عشر عاما الماضية ويدفع بها فى غلظة إلى الموقد ماركة (باركر).

وكان يطعن المعاطف، واحدا واحدا، بقضيب تذكية النار. كان يخطئ التصويب وكنت أقشعر فى كل مرة يحتك فيها القضيب بواجهة الموقد المعدنية. ملأتنى هذه الجلبة (كنت قد أكملت عامى الرابع للتوّ) بكل الخوف لمرأى معلمة تكشط بأظافرها الهائلة سطح سبورة نظيفة. كانت هذه الجلبة أعلى صوتا؛ ولم أكن محاطة بالدكك وأطفال المدرسة؛ كان هذا يحدث فى بيتى ولم تكن امرأة سمينة ترتدى جوارب بُنية سميكة هى من تمثل خطرا. بل كان أبي.

بالعودة إلى حجرة النوم، كنت أنظر مذهولة وبفضول صامت بينما تتساقط الدموع بسرعة من عينيّ أمي، لتفسد فى طريقها زينتها التى وضعتها بحرص، وتستقر فى صدر أخى ذى الأربعة عشر عاما وهو واقف يواسيها بينما وقفت وحيدة فيما بدا أقرب لحالة من الفوضى.

بدا الأمر وكأنى وُلدت فى مسار جانبي. أمى وجيمس وأنا دائما فى مكان وأبى فى مكان آخر. كان زواج سوزان وراى تريجيانّى قد بدأ ينهار. ثمة حد لعشق دام عشرين عاما لصقت به وصمة توتر كبيرة أصبحت واضحة، حتى لشخصى الصغير الغرير.

بعد يومين تقريبا وأنا عائدة إلى البيت من المدرسة اقتربت من الباب الأمامى بينما كان أبى خارجا. لم يلاحظنى واندفع إلى سيارته. ظهرت أمي، فى حالة من الضعف الشديد محمرة الوجه بآثار دموع حديثة. وعندما جلس أبى فى سيارته، صافقا الأبواب وصائحا فى اتجاهنا، التقطت أمى زجاجتيّ الحليب الفارغتين من فوق عتبة الباب وألقت بهما نحو السيارة، واحدة بعد الأخرى. أخطأت كلتاهما السيارة التى كانت قد تحركت عندئذ وهبطتا فوق العشب على الناحية الأخرى من الطريق. تحطمت إحداهما على الأرض التى قرصها الصقيع. راقبتُ الموقف فى حياد وحيرة مثل المرة الأولى التى رأيت فيها أمى تبكي. أشعلتْ سيجارة. وستكون هذه هى المرة الأخيرة التى أرى فيها أبى لزمن طويل.

نادرا ما لاحظت غياب أبي. بقدر ما كان يمكننى أن أفهم، كنا نعيش أنا وجيمس وأمى فى نفس البيت، نأكل نفس الطعام، وكانت أمى مازالت جميلة، وبدا ذلك كل ما كنت بحاجة إليه لأستمر فى عيش حياة طبيعية.

بدا طبيعيا تماما لى أن والديّ البيولوجيين لم يعودا معا. كل الأمهات والآباء ينفصلون، أليس كذلك؟ وكانت رؤية الأمهات والآباء معا يأخذون أطفالهم من الحضانة تسبب لى استغرابا رهيبا أو غيرة حادة. لم أكن واثقة قط أيهما ما كنت أشعر به. قيل إن صدمة الطلاق أثرت على جيمس أكثر بكثير مني: فى النهاية، كان قد عرف أبانا أكثر مما عرفته بعشرة أعوام، وكان كبيرا بما يكفى لأن يقال له أو لأن يتصور بالضبط ما حدث وأسبابه. وهى الأشياء التى لم يكن لديّ عزاء (أو ربما مشقة) فهمها.

أتساءل أى تأثير كان لطلاق والديّ عليّ. بالتأكيد ليس من الصحة العقلية أن تولد مباشرة وسط معركة بزجاجات الحليب، لكن لأكون صادقة وبقسوة لم أكن أبالى قط ولو قيد أنملة. كانا منفصلين، مطلقين، وكان أبى غائبا لمدة عام قبل أن أكمل عامى الخامس. لم تبق لديّ إلا ذكريات موجزة مبهمة لأبى فى البيت. ذات مرة: عشية عيد الميلاد ونحن نجهز البيت. أمى وأنا جاثيتان نفك الأضواء وأبى يزين الشجرة.

كلها لحظات قصيرة من الرؤية، كلها خاوية من الحوار. مرة أخرى: أنا وأخى فى قارب مع أبينا، نبحر عبر بحيرة ما مليئة بالطين فى بورثكول أو بارى آيلاند. مصرة (كما أنا دائما) على الاستيلاء على انتباه شخص ما، خلعت حذائى ولسبب ما جوربى الأبيض الذى يغطى الكاحلين وأنا واقفة أتوازن على جانب القارب، أخى يمسك بإحدى ساقيّ والأخرى فى الماء، مهددة بالقفز بلا سبب وجيه. حتى هنا يركز عقلى على أصابع قدميّ السمينة المغموسة فى الماء البنيّ المثلج أكثر مما يركز على أبى الذى يجدف كالمحموم كى نعود قبل أن أقفز بالفعل. بالطبع هناك ذكريات أخرى، لكن كلها أولية على حد سواء. صور بكاميرا فورية أضاف إليها خيالى لمسته.

وكأنى مع ذلك وُلدت لأم عزباء. الفرق الوحيد هو غموض عدم معرفة إن كان هناك أب مهتم موجود هناك فى مكان ما. أعرف أنه ليس هناك.

كان رد فعل جيمس على الصدمة أن ألقى بنفسه فى أحضان دراسته الثانوية لكتب المستوى العادى والعمل الذى وجده حديثا فى جراج بيلى جرانفيل فى شارع هندريفادوج. منذ كان فى الخامسة من عمره وهب حياته للسيارات، السيارات اللعبة التى كان بمقدوره فكها وإعادة تركيبها. حصل على أول سيارة حقيقية وهو فى الثالثة عشر. هيكل سيارة (كابرى) لبثت فى الحديقة أربعة أعوام بينما هو يحولها ببطء لكن بثقة إلى شيء أحمر لامع جديد تماما. تحول يوم السبت الذى كان يعمل فيه لكسب بعض المال إلى تدريب مهنى كامل كسمكرى وفنى رش سيارات بالرغم من أنه اجتاز كل امتحاناته وكان معلموه يناشدونه كى يظل فى الدراسة. كان يغادر البيت كل يوم فى السادسة صباحا، ويعود فى الثامنة مساء، ويعمل أيام الآحاد، وفى إجازات البنوك والأعياد العامة. وبينما يعمل أغلب الناس كى يتعاملوا مع تكاليف العيش، بدا أن جيمس فى حاجة إلى العمل البدنى ليعيش. وما بدأ كترياق لمشاكل البيت تحول إلى اعتماد مكتسب بالكامل.

انغمس فى حركة «البانك» البريطانية، ولم يعد جسده الطويل المراهق النحيل يسمح له بالمرور من فتحة أى باب فى البيت دون أن ينحني، بينما بدت ساقاه الرفيعتان الهزيلتان فى قماش الجينز الناحل المشدود على الجلد وكأنهما مصدر جاذبية لكل فتاة فى الشارع تستمع إلى فرق (كلاش) أو (بيستولز) أو (يو كاى صابز) الموسيقية.

وعندما لم يكن فى العمل، كان أصدقاؤه الموسيقيون الصاخبون يملأون أمسياتى بالسعادة والطيش، وهم يداعبون باستمرار أوتار الجيتارات، ويقرعون عدة درامز حمراء زاهية اشتراها جيمس من أول أرباحه. لم تبدُ أمى مختلفة فى السن عن المراهقين الذين أقاموا حفلا باهرا مستمرا فى بيتنا. كانت تمتطى الدراجات البخارية، وتعزف على الدرامز، وتشرب مما يشربون. وبينما كانت تقوم على خدمة رواد الملهى فى بوليكوف كل مساء، كان المتوقع من جيمس وجماعته من الأصدقاء الملونين أن يعتنوا بالطفلة. فتيان وأفلام رعب. من الصعب تخيل التعاملات الأولى للطفل مع الحياة، فى عالم تسوده كل هذه البراءة والعاطفة الغضة والمشاعر المتفتحة. لقد عرفت إثارة عميقة فى أشكال تذوقى الجديدة للحياة.

لو كان باستطاعتى أن أرى ما وراء القناع الذى تميل الأم لوضعه فى حضور طفلتها، أتساءل إن كنت لأشعر باختلاف بسيط. أتساءل إن كنت لأبدأ فى الشعور بالذنب الذى يتسرب هنا والآن. الذنب الذى سيضربنى آخر الأمر فى مكان ما أو زمان ما.

كانت أمى تعمل فى ثلاث وظائف. نادلة فى ملهى، ونادلة فى حانة، وبائعة فى سوق للطعام المجمد يوم السبت، كل هذا كى تطعمنى وتكسوني. وبين محاولات سداد فواتير الكهرباء والمحامي، كانت مضطرة للتضحية بشراء السجائر لتأتى لنا بخبز يومنا. أما مكالمات آخر الليل من بابا نويل فكانت فى الحقيقة مكالمات مزعجة، ربما من أبي، وأخيرا غدت محبطة لدرجة أن أمى دفعت مبالغ كبيرة كى تغير رقمنا، مرات كثيرة.

كان الهاتف هو أكثر شيء حى وباق فى الذاكرة من ذلك البيت. كنت أراقب أمى وهى تجلس القرفصاء على الوسادة الجلدية السوداء والسماعة ذات اللون الليمونى ملتصقة بأذنها. فى كل تلك المرات التى كانت تتحدث فيها إلى موظف استقبال ما أو محامٍ ما، كنت أتساءل من كانت هذه المرأة بحق الجحيم. وفى ذلك الوقت أيضا تعلمت هجاء اسم العائلة. كانت تتهجاه بصوت عال كثيرا جدا حتى أنى بدأت أردده أسرع وأوضح حتى جرى على لسانى بأفصح طريقة وأكثرها طبيعية. تريجيانّي: ت، ر، ي، ج، ي، ا، ن مشددة.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل