المحتوى الرئيسى

المفتي: المطلع على التراث الفقهي يعلم يقينا تناوله لمناحي الحياة كافة

10/27 14:27

قال الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، إنّ المطَّلِع على التراثِ الفقهي الإسلامي يعلم يقينًا أنّه قد تناول سائر مناحي الحياة اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وأنّه كما تناول مشكلات عصره ووضع لها المعالجات المناسبة أسس كذلك للنُّظم والقواعد الحاكمة لما قد يظهر من قضايا وتحدياتٍ فيما يستقبلُ من زمان.

جاء ذلك في كلمته التي شارك بها في فعاليات الملتقى الدولي حول القضايا الفقهية المعاصرة في الاقتصاد والتمويل الإسلامي، خلال الدورة السابعة لمهرجان إندونيسيا للاقتصاد الإسلامي الذي بدأت أعماله افتراضيًّا اليوم ويستمر حتى 31 أكتوبر الحالي.

وأضاف علام، أنّ تناول فقهائنا القدامى للمعاملاتِ المالية يُظهر بوضوح مراعاتهم لبيئاتهم وظروف أقوامهم وأعرافهم واحتياجاتهم المختلفة؛ فقد استنبطوا من النصوص الشرعية القواعدَ الأساسية لاقتصادٍ متكامل اشتمل على القضايا الأساسية لجوانب الحياة الاقتصادية؛ فعالج قضية تخصيص الموارد، وقضية التوزيع، وقضية التنمية الاقتصادية.

وأشار إلى أنّ هذه القضايا الرئيسية لعلم الاقتصاد، هي قضايا تسعى الشريعة إلى تحقيقها على الوجه الأكمل، فالشريعة الإسلامية في نصوصها من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرَّفة تحضُّ المسلمين على العمل على استغلال الموارد الاقتصادية التي سخرها الخالق سبحانه وتعالى للإنسان، وتحث الإنسان على التنمية وفقًا لمفهوم العمران الوارد في قوله عز من قائل: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}؛ أي: طلب منكم عمارتها، وتحضُّ الناسَ على العلم والتطوير واكتساب المعارف الجديدة وتطبيقها في رفع مستوى العمران.

وأوضح مفتي الجمهورية، أنّ قضية التوزيع للناتج على الأفراد في المجتمع تحظى بأهمية كبيرة في تشريعات الإسلام، وهنا يتميز الإسلام عن النظم الاقتصادية المعاصرة بأنّه يُقرر ضمان توفير حد الكفاية لكل فردٍ في المجتمع؛ مسلمًا أو غير مسلم، والنصوص الشرعية الدالة على ذلك لا تحتاج إلى بيان.

وأضاف أنّ القضاء على الفقر في المجتمعِ غايةٌ أصيلةٌ في الشريعة الإسلامية لم تصل إليها بعدُ مدارك الفكر الاقتصادي الحديث، فغايةُ أملهم هو التخفيف من مستوى الفقر، وشتان بين هدف القضاء على الفقر برمته مع ضمان كفالة مستوى الكفاية لكل فرد في الإسلام، وبين هدف التخفيف من حدة الفقر في النظم الاقتصادية الوضعية.

وبيَّن المفتي في كلمته أنّ الطابع التعاوني الخيري مثَّل ركنًا أساسيًّا للشريعة الإسلامية؛ فقد حث الإسلامُ على مساعدة الآخرين والتعاون على فعل الخيرات، كما مهَّد الإسلام طرقًا عدة لنفع الناس؛ منها ما هو فرضٌ كالزكاة ونحوها، ومنها ما يقوم به المسلم على سبيل التطوع والبر؛ مثل الصدقة والوقف.

ولفت شوقي علام، إلى أنّ ذلك الوقف يدخلُ في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، قال النووي عند شرح الحديث: "إن الوقف هو الصدقة الجارية، وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه".

وأوضح علام، أنّ الوقف يتميز عن أي طريق خيري بخصائصَ وميزات متعددة قد لا توجد في غيره من طرق الخيرات، وهذه المزايا أكسبته حيويةً استمر أثرُها في الأمة الإسلامية على مدى تاريخها الطويل.

من هذه المزايا كما ذكرها المفتي، أنّ الإسلام أعطى الواقفَ الحرية الكاملة في الكيفية التي يرغب بها في التصرف فيما يُوقفه من أموال، وكفل له الشروط التي تُلبي رغباته وتحقق آماله فيما يوقفه من أموال وأعيان، وكل ذلك فيما هو في حدود الشرع وَفق القاعدة الفقهية (شرط الواقف كنص الشارع).

أما الميزة الثانية فهي استمرار الأجر وعدم انقطاعه ما بقيَ نفع العين الموقوفة، بل قد يزيد هذا الأجر بزيادة منفعة العين الموقوفة؛ وذلك إذا أحسن المتولون للوقف إدارة هذا الوقف واستثماره تبعًا لظروف كل عصر يمر عليه.

وقال شوقي علام: "ولأن الوقف يتمتع في أحكامه بمرونة وسعة رأينا إقبالًا كبيرًا من أفراد المجتمع المسلم حكامًا ومحكومين على وقف الأموال وتحبيس الأملاك لأعمال الخير والبر، وقدوتهم في ذلك نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام في قصة مخيريق لما قَبَضَ عليه السلام ما وصَّى به فجعله أوقافًا بالمدينة للَّه، وكانت أول وقف بالمدينة، ثم من بعده عليه السلام جاء صحبُه الكرام، فقد وقف كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير بن العوام ومعاذ بن جبل وعائشة وأم سلمة وغيرهم كثير، ومن بعدهم من التابعين وتابع التابعين، ومن بعدهم من المسلمين أقوامٌ كُثُر".

وأضاف أنّه مما ساعد على هذا التوسُّع الكبير في الوقف بشكلٍ عام هذه السهولة في تنفيذه؛ فالوقف إنّما هو التزامٌ من طرفٍ واحد؛ فهو لا يحتاج إلى قبولِ الموقوف عليه، بل الوقف من العقود التي تُبرم بإرادة منفردة دون أن يُشترط لصحته وجود إرادتين.

وأشار إلى أنّ اهتمام المسلم بالعمل الخيري أدى إلى كثرة الأوقاف، وشديد رغبته في تحصيل الأجر من الله تعالى، وشعوره بهموم إخوته في الإنسانية، وحرصه على تخفيف المعاناة عنهم؛ فهو مؤمن بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى اللَّه تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى اللَّه عز وجل سرورٌ يُدخله على مسلم، أو يكشف عنه كُربة".

وأوضح أنّ نظام الوقف استمر في التمدد خلال المجتمع الإسلامي، خاصة بعد ازدياد رقعة الدولة الإسلامية، وما تبع ذلك التوسع من تضاعف الموارد وتحسن الأحوال المعيشية، فزادت الأوقاف الإسلامية في العصر الأموي بشكل كبير جدًّا، نتيجة لزيادة الموارد، وهكذا ظلت الأوقاف مرتبطة بالحالة المادية العامة للمجتمع، وتناسبت طرديًّا مع معدلات الدخل.

وأشار إلى أنّ الوقف أدى دورًا تنمويًّا عظيمًا على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والصحية وغيرها، ومثَّل دائمًا رقمًا كبيرًا في معادلة تحقيق التكافل والتماسك المجتمعي، فانتشرت الأوقاف بطول البلاد الإسلامية وعرضها، وصار الوقف ميدانًا للتنافس ليس بين العامة فحسب، بل بين الأمراء والحكام أنفسهم، فانتشرت الأسبلة والمساجد والمستشفيات الوقفية، ومع التزايد الكبير في الاهتمام بالوقف، ظهرت مجالات جديدة وملهمة للوقف، تعكس مدى اتجاه المجتمع نحو تطوير الوقف وشموليته، ومن تلك المجالات التي ظهرت من انتشار الأوقاف: الوقف على الحيوانات الضالة التي لا مأوى لها كالكلاب والقطط، والأوقاف على إعارة الحلي للأعراس، والأوقاف التي كان يُشترى منها أوانٍ عِوضًا عن الأواني المكسورة من الخدم لحمايتهم من غضب مستخدميهم، وهكذا تنوعت مجالات الأوقاف وانتشرت في البلدان الإسلامية مؤدية دورًا بالغ الأهمية في تماسك المجتمع.

وقال مفتي الجمهورية إنّ هذا الدور التاريخي للوقف على مر القرون السابقة يدفعنا إلى التفكير في إحياء دوره مرة أخرى في العصر الحاضر، والعمل على وضع الاستراتيجيات المناسبة لتفعيل دور المؤسسات الوقفية القائمة، واستحداث مؤسسات وقفية أخرى، وتطوير آليات نظام الوقف الإسلامي بما يضمن استعادة الدور الريادي لنظام الوقف في المجتمع.

ومن هذه الآليات التي يمكن الاستفادة منها وتطويرها لتناسب العصر الحاضر أضاف علام: تقسيم الوقف حسب الحاجة المجتمعية، فعلى سبيل المثال لما كثرت الأوقاف بشكل كبير في بعض العصور اضطرت إدارة الأوقاف إلى زيادة دواوين الأوقاف إلى 3 دواوين: ديوان للأوقاف الأهلية، وديوان لأوقاف المساجد، وديوان لأوقاف الحرمين الشريفين خاصة، وتلك الآلية يمكن استعمالها اليوم وتطويرها لتناسب العصر الحاضر، فيُقسم الوقف إلى إدارات تعتني كل إدارة منها بفئة معينة من الموقوف عليهم، مما سيؤدي بطبيعة الحال إلى تنظيم العمل والاستفادة القصوى من نظام الوقف وتحقيق غايته ومقاصده على النحو الأمثل.

وتابع أنّه من ذلك تخصيص إدارة مستقلة للوقف على المجال التعليمي، كالمدارس والمعاهد والجامعات، مما من شأنه أن يحقق أكبر قدر من الاستفادة بالأوقاف ورعايتها على الوجه الذي يضمن استمرارها في أداء دورها، خاصة في ظل الحاجة الماسة إلى دعم القطاع التعليمي، وزيادة الموارد والمخصصات الموجهة إلى التعليم وتطويره.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل