المحتوى الرئيسى

أردوغان والخطأ في تقدير التوازنات الاستراتيجية

09/26 05:09

جوهر السياسة الخارجية لأي دولة هو إدارة العلاقات بين الفرص المتاحة لها والمخاطر المحيطة بها، فالدول تعيش واقعا إقليميا ودوليا فيه أطراف عديدة على درجات مختلفة من القوة والنفوذ، وعلى الدولة وهي تُدير سياستها الخارجية أن تأخذ في اعتبارها ألا تسعى لتحقيق أهداف تتجاوز قدراتها، وألا يكون من شأنها تكتل أطراف أقوى منها ضدها. وفي ضوء هذا، يمكن فهم التطورات الأخيرة في سياسة تركيا وأزمة شرق المتوسط.

لقد راهن الرئيس التركي أردوغان على أن تركيا تستطيع اتباع سياسات توسعية واستفزازية للدول المجاورة دون أن تتمكن أي منها من وقفها، واستند هذا الرهان على تقديره للأوضاع والتوازنات الجيوستراتيجية في المنطقة، والتي تضمنت اعتقاده بوجود "فائض قوى" في القدرات العسكرية والاقتصادية التركية، وذلك مقارنةً بحالة الضعف التي أصابت العلاقات بين الدول العربية وسقوط عدد منها في حروب داخلية وأزمات سياسية ومشاكل اقتصادية، مما قد يسمح لتركيا بتنفيذ سياساتها التوسعية بدون مخاطر كبيرة، خاصةً في ضوء ما تردد من أن الانسحاب العسكري الأمريكي من المنطقة يتيح لها مجالاً أوسع للحركة.

وكان تقدير أردوغان أن امتلاك تركيا لورقة اللاجئين وتهديد أوروبا بفتح الحدود وإغراقها بهم، يُمثِّل عامل ضغط على الاتحاد الأوروبي، وهي ورقة سبق له أن استخدمها من قبل. خاصةً وأن الظروف الراهنة التي شهدت انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد، وانشغال دوله بتداعيات وباء كورونا جعلته يعتقد أن تركيا يمكن لها أن ترسل سفنها للتنقيب عن الغاز في مياه المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان وقبرص دون أن يتمكن الاتحاد الأوروبي من مساعدتهما.

وأدى ضعف ردود الفعل الإقليمية والدولية إلى اتساع شهية أردوغان وتجاوز الحدود التي يمكن له المناورة فيها، فكان اتفاقه مع حكومة الوفاق الليبية في عام 2019 وإرساله سفن استكشاف بالقرب من السواحل اليونانية والقبرصية، وذلك في انتهاك واضح لقانون البحار وتحد لقرارات الاتحاد الأوروبي ودول الجوار المشاطئة للبحر المتوسط.

تحولت الدفة الآن، وبرز موقف دولي معارض للسياسة التركية بعد أن تجاوزت الخطوط الحمراء. وكان من مظاهر هذا الموقف: زيارة وزيريْ الخارجية الروسي والأمريكي لقبرص، ورفع أمريكا الحظر عن بيع الأسلحة الدفاعية الذي فرضته لعقود على قبرص. وتبنت فرنسا مواقف حاسمة ضد السلوك التركي، فشاركت في مناورات عسكرية مع اليونان وقبرص، ودعت الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات اقتصادية على تركيا، وعقدت اجتماعاً في جزيرة كورسيكا لسبع دول أوروبية مطلة على البحر المتوسط للتنسيق بين مواقفها. ثم جاء قرار الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على شركة "أوراسيا" التركية لانتهاكها قرار مجلس الأمن بحظر توريد السلاح إلى ليبيا. ورافق ذلك توقيع ميثاق منظمة غاز شرق المتوسط كمنظمة دولية إقليمية مقرها القاهرة.

أكد هذا التحول تطورات إقليمية مهمة بدأت بالموقف الذي أعلنه الرئيس المصري السيسي من أن سرت والجفرة هما خط أحمر من منظور الأمن القومي المصري، وتبع ذلك "إعلان القاهرة" الذي دعا إلى وقف إطلاق النار وبدء عملية الوصول إلى حل سياسي للصراع في ليبيا. وتلى ذلك مباحثات بوزنيقة في المغرب بين وفد من مجلس النواب ومجلس الدولة الليبي، فمفاوضات في القاهرة مع كل الأطراف بما فيها حكومة الوفاق، ووصولاً إلى اجتماعات رئيس مجلس النواب وقائد الجيش الليبي بالقاهرة في 23 سبتمبر 2020.

انطلق قطار التسوية السياسية وبدأ التوافق بين الفرقاء الليبيين في غيبة كاملة لتركيا وبدون علم مسبق لها، ودعَّم من العزلة التركية الصراعات التي نشبت بين حلفائها في غرب ليبيا، واندلاع المظاهرات الشعبية احتجاجاً على تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في طرابلس، وزاد من الوضع سوءاً إطلاق المليشيات المسيطرة في طرابلس النار على المتظاهرين.

الأرجح أن أردوغان أدرك أن سياساته دخلت في نفقٍ مسدود، وأن عليه البحث عن مخارج ومسالك أخرى ولكن دون أن يخسر كل شيء، فأعلن رغبته في بدء حوار مع مصر وكرر وزيرا الدفاع والخارجية ذلك، فأشاد وزير الدفاع التركي بالجيش المصري وسجل وزير الخارجية التركي أن مصر لم تعتد على الحدود البحرية التركية في اتفاقها مع اليونان وأن تركيا تقدر هذا الموقف. ووافقت تركيا على عودة المباحثات الثنائية مع اليونان، وهي المباحثات التي بدأت في عام 2002 ووقفت عام 2016. وفي المقابل، استمرت السفن التركية في مياه المنطقة الاقتصادية لقبرص، وبدلاً من أن تدعم التسوية السياسية في ليبيا وجهود توحيد المؤسسات القائمة، أعلنت خطتها لتوحيد المليشيات في جيش يتبع حكومة الوفاق.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل