الربع ساعة الأخيرة فى أزمة سد النهضة

الربع ساعة الأخيرة فى أزمة سد النهضة

منذ ما يقرب من 4 سنوات

الربع ساعة الأخيرة فى أزمة سد النهضة

كأى أزمة وجودية فإن تمددها فى الزمن يستهلك الأعصاب العامة خشية أن تفلت تداعياتها عن أية سيطرة ممكنة.\nلأكثر من عشر سنوات تمددت أزمة «سد النهضة» فى مفاوضات تراوح مكانها دون تفاهمات جدية تؤسس لاتفاق قانونى ملزم، عادل ومنصف، يوفر لإثيوبيا حقها فى الكهرباء والتنمية ويضمن لدولتى المصب مصر والسودان الحق فى الحياة.\nكان ذلك مقصودا ومنهجيا لاستهلاك الوقت حتى يستكمل بناء السد ويبدأ ملء خزانه ويصبح من حق إثيوبيا وحدها التحكم فى مياه نهر النيل الأزرق، تقرر الأنصبة والحصص، تمنح وتمنع، كما لو أنه إثيوبى لا نهر دولى يخضع للقوانين الدولية.\nقرب خط النهاية أعلنت إثيوبيا أنها سوف تبدأ فى ملء خزان السد خلال يوليو الحالى باتفاق، أو بدون اتفاق مع دولتى المصب.\nبالنسبة لمصر تكتسب أزمة المياه أولويتها المطلقة من وجوديتها، فإذا ما تعرضت لأضرار جسيمة لا يمكن استبعاد سيناريو واحد على حافة الحياة والموت.\nهكذا طرحت مصر قضيتها على مجلس الأمن الدولى بأوضح العبارات والصياغات، كل حرف فى موضعه، لا تهاون فى حق ولا تورط فى تهديد، غير أن الرسالة لم تخف على أحد.\nلأول مرة منذ عشر سنوات تبدت استراتيجية شبه متماسكة فى إدارة الملف الحساس، تعرف أهدافها ووسائلها وتتحسب لخطواتها ووقع كلماتها، فأى خطأ يكلف البلد أمنه المائى ومستقبله ووجوده.\nإعادة تعريف الأزمة، مدى عمقها وخطورتها، كأزمة وجودية يفضى تفاقهما إلى اخلال جسيم بالحق فى الحياة وإخلال جسيم آخر بالسلم والأمن الدوليين كان أهم أثر لما جرى فى مجلس الأمن.\nكان ذلك «سابقة» فى مثل هذا النوع من المنازعات وفق تكييف قانونى متماسك ومنذر بالعواقب والتداعيات، لكنه لم يكن موضع إجماع، فقد ساندته دول واعترضت عليه أخرى ومالت إلى الحياد كتلة ثالثة وازنة.\nتستحق خريطة مجلس الأمن بتشابكات المصالح والاستراتيجيات مراجعة متأنية فى حقيقة المواقف وأسبابها واحتمالات تعديلها، فالعودة إليه مرجحة إذا ما فشلت المفاوضات المقترحة تحت العباءة الإفريقية فى التوصل إلى اتفاق ملزم يتضمن آلية واضحة لفض المنازعات التى قد تحدث مستقبلا.\nإلى أى حد تتباين مواقف الدول الخمس الكبرى فى مجلس الأمن فى ملف «سد النهضة».. وما الذى يتوجب فعله لتأكيد المواقف المؤيدة وتعديل المواقف المضادة؟\nهذا سؤال أول فى موازين القوى قرب خط النهاية.\nإلى أى حد تتراوح المواقف الإفريقية فى النظر إلى حرب المياه التى تكاد تشتعل.. وما مدى الفرص المتاحة لتعديل المواقف بالنظر إلى عدالة المطلب المصرى فى طلب الحياة دون إنكار حق التنمية على إثيوبيا؟\nهذا سؤال ثان فى صلاتنا بالقارة وضرورات مراجعتها.\nما حجم الاستثمارات العربية فى إثيوبيا.. وما حدود الضغط الذى يمكن أن تقدمه حتى يكون ممكنا التوصل إلى اتفاق ملزم وعادل؟\nهذا سؤال ثالث جاء وقته على حد الحياة والموت.\nفى توقيت متزامن طرحت أزمتان على جدول الأعمال المصرى، أولاهما ــ الأزمة الليبية المتفاقمة، وقد استولت بحكم صراعات المصالح والاستراتيجيات الدولية والإقليمية على قدر كبير من الاهتمام والمتابعة.. وثانيتهما ــ أزمة «سد النهضة»، التى تكاد تؤذن بتفجرها، دون أن تحظى بذات درجة الاهتمام من اللاعبين الإقليميين والدوليين.\nهكذا تصدرت الأزمة الليبية وشبه توارت أزمة «سد النهضة» على الخرائط الدولية.\nرغم ما تمثله الأزمة الليبية من مصادر خطر على الأمن القومى عند الحدود الغربية، فإنها لا تقارن بأزمة «سد النهضة» حيث لا يمكن تدارك تداعياتها على الوجود نفسه.\nلم يكن مستغربا أن تعترض أثيوبيا على إحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولى، ولا أن تشاركها الاعتراض نفسه الدول التى تناصرها.\nأسست اعتراضها على أن المفاوضات بين الدول الثلاثة قطعت شوطا طويلا، وأن القارة الإفريقية هى الفضاء المناسب للتوصل إلى حل.\nكانت تلك مناورة جديدة قرب خط النهاية قبل إعلان البدء فى ملء خزان السد، فلم تكن هناك توافقات حقيقية بشأن إلزامية ما جرى التوصل إليه فنيا، وكل شىء قابل للمراجعة جولة تفاوض بعد أخرى.\nلم يكن ذلك لغياب الإرادة السياسية، كما يقول عادة الخطاب الدبلوماسى المصرى، بل تعبيرا عن هذه الإرادة حتى يمكن السيطرة على نهر النيل، أو الإمساك بـ«صنبور المياه» من عند المنبع ووضع مصر تحت الضغط والابتزاز بحسب الظروف المتغيرة وإرادات المصالح المحرضة.\nبتوصيف آخر للصراع على المياه فهو حرب إرادات وشرعيات.\nبالنسبة لمصر فإنها مسألة وجود، كما هى مسألة شرعية حيث الحفاظ على مياه النيل المصدر الرئيسى للشرعية منذ الحضارة الفرعونية.\nوبالنسبة لإثيوبيا فالتشدد بالتفاوض مصدر شرعية فى ظل أزمات داخلية سياسية متفاقمة بين أعراق متناحرة.\nفى صراع الإرادات والشرعيات كان الدافع الرئيسى لإثيوبيا لفتح القناة الإفريقية تجنب تراكم الضغوط الدبلوماسية المصرية فى الربع ساعة الأخيرة قبل البدء فى ملء خزان السد.\nهكذا عقدت قمة افتراضية شاركت فيها قيادات الدول الثلاث مع هيئة مكتب الاتحاد الإفريقى برئاسة جنوب إفريقيا، الأقرب إلى إثيوبيا، قبل اجتماع مجلس الأمن.\nبحسب إفادتى مصر والسودان عن نتائج القمة الإفريقية المصغرة فقد جرى التوافق على استكمال التفاوض حتى يمكن توقيع اتفاق ملزم خلال أسبوعين، وأن تمتنع إثيوبيا عن ملء خزان السد لحين توقيع هذا الاتفاق.\nبحسب الإفادة الإثيوبية فقد اقتصرت على الموعد المقرر للانتهاء من المفاوضات دون إشارة إلى أى امتناع عن البدء فى ملء الخزان.\nربما يفسر ذلك بالأوضاع الداخلية الإثيوبية وحجم التعبئة السياسية والإعلامية التى يصعب التراجع عنها دون كلفة سياسية تدفعها الحكومة الحالية فى الانتخابات المنتظرة.\nكما قد يفسر بأنه إمعان فى المناورة قرب خط النهاية لاستهلاك الوقت قبل وضع الأطراف الأخرى أمام الأمر الواقع.\nأهم ما تملكه مصر من أوراق تفاوضية هى مصر نفسها بموقعها الاستراتيجى ووزنها التاريخى فى منطقتها.\nالصراع على المياه هو نوع من الصراع على مصر ومستقبلها ووجودها نفسه.\nهذه هى الحقيقة الرئيسية فى كل ما يجرى حولنا.

الخبر من المصدر