المحتوى الرئيسى

"مصنع الاعتدال".. أول دراسة ترصد دور "مراكز الإبداع" في مواجهة الإرهاب

06/06 00:01

"بيت السحيمى، وقصر المانستيرلى، وبيت الهراوي، ووكالة وقبة الغوري، ومركز طلعت حرب الثقافي، وقصر الأمير بشتاك، وبيت العينى، ومركز الحرف التقليدية بالفسطاط، وبيت الست وسيلة"، وغيرها من المراكز الإبداعية التابعة لصندوق التنمية الثقافية.. أسماء لاشك تحمل دلالات مُحببة في أذهان عديد من ارتادوها، من محبي الفنون والثقافة، من سكان المناطق المجاورة وغيرهم من سكان وزوار بل وسياح القاهرة.

وبينما جاءت أزمة كورونا مؤخرا لتحرم مرتادو هذه الأماكن، مؤقتا، من حفلاتها وندواتها وأنشطتها التي أحبوها على مدار السنين الماضية، صدرت هذه الأيام أول دراسة من نوعها عن هذه المراكز، ترصد ما قدمته من دور مهم في تشكيل وعي قطاعات من المواطنين على مدار أكثر من ثلاثين عاما، منذ تأسيسها في التسعينيات، ورأي المواطنين المترددين عليها والمبدعين المشاركين فيها والقائمين عليها حول كيفية تطوير عملها.

وتهدف الدراسة الصادرة حديثا عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية، تحت عنوان "المراكز الثقافية الجديدة في مصر:المؤسسة - الفعاليات – المردود"، إلى "تقديم وصف تحليلي لتجربة المراكز الثقافية الجديدة فى مصر، وذلك على مستوى الإدارة والتنظيم المؤسسى، والإبداع، والمردود الاجتماعي الثقافى"، وقد أعدها الدكتور محمد عبدالمنعم شلبي، أستاذ علم الاجتماع بالمركز، باحثا رئيسا، بمشاركة د.صفية عبدالعزيز، ود.محمود عبدالله، وأ.محمد عادل، تحت إشراف الدكتور هيثم الحاج علي، رئيس هيئة الكتاب.

ومن خلال ما توصلوا إليه من نتائج، يؤكد القائمون على الدراسة أن هذه المراكز وفرت السياق الثقافي الذي بإمكانه خلق الشخصية المصرية المعتدلة التى تحافظ على خصوصيتها وفي نفس الوقت تنفتح على العالم وثقافاته دون توجس من تهديداتها، ومن ناحية أخرى، فإن هذه التجربة الثقافية؛ كانت من أهم ساحات مواجهة الأفكار والقيم المتطرفة التى هددت المجتمع، وسط توصيات من جانبهم بالتوسع في إنشاء فروع لها بالمحافظات.

ويوضح الدكتور محمد عبد المنعم شلبي، الباحث الرئيسي، أن هذه الدراسة تنتمي إلى مجال علم الاجتماع الثقافي، وهي تسعى إلى إلقاء الضوء على تجربة مراكز الإبداع الفني في مصر، التابعة لصندوق التنمية الثقافية، مثل بيت الهراوي، وقبة الغوري، وبيت السحيمي،..إلخ، وهي المراكز التي جرى الإشارة إليها في عنوان الدراسة  بـ"المراكز الثقافية الجديدة"، والتي رغم تدشينها في منتصف التسعينيات إلا أنها لم تحظ بدراسة علمية مستحقة ومتطلبة منذ تلك الفترة.

وقد شملت الدراسة، وفقا لشلبي "الجوانب الإدارية والتنظيمية لمراكز الابداع الفني، والتعامل مع المبدعين من المشاركين في أنشطة وفعاليات هذه المراكز، بكافة تنوعاتهم وتخصصاتهم، ومن ثم الوقوف على حال المردود الثقافي لتلك الأنشطة الثقافية، والذي تمت دراسته من خلال رؤى وتقييمات جمهور المترددين على هذه المراكز، والذين يتنوعون من حيث فئاتهم العمرية، ومستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن متغير النوع" .

يحكي شلبي عن فكرة البحث وكيف جائته، مشيرا إلى أنه في نهايات عام 2007، عندما كان يعد نفسه للسفر إلى إنجلترا كباحث زائر في جامعة ليدز لمدة تسعة أشهر، وكان في زيارة لبعض الأماكن المحببة له في القاهرة، ومن بينها منطقتا الأزهر والحسين، توقف عند قبة الغوري، ولم يكن يعلم عن أنشطتها الثقافية شيئا، حيث وجد أناسا عديدين يدخلون المكان، ودخل معهم بفعل الفضول، ليجد إعلانات على الجدران عن مسرحية بطولة سميرة عبد العزيز وأحمد فؤاد سليم.

ويقول "كانت المسرحية مدتها ساعة زمن وموضوعها هوية مصر منذ قدماء المصريين وحتي الزمن الحاضر.. حيث فوجئت بقدر راق من الإبداع دون رطانة أو تكلف، وتساءل كيف للفن أن ينجز المهمة ببساطة ورقي وجمال؟ وكان الدخول والمشاهدة مجانية، والجمهور عام متنوع، حيث رأى شبابا وفتيات من الطبقات الوسطى وسيدات شعبيات يرتدين الجلباب الأسود والشبشب ومعهن أبنائهن أو أحفادهن، مثلما كان هناك أيضا سياح أجانب!".

ويضيف: "بعد العرض هنأت الفنانين العظام، وسألت عن مخرج العرض فقالوا لي إنه مدير مركز قبة الغوري الدكتور انتصار عبد الفتاح، قابلت الرجل وسألته بشأن المركز الذي يديره، وعلمت أنه أحد مراكز الإبداع الفني التابعة لصندوق التنمية الثقافية.. وأن التجربة بدأت أواسط تسعينات القرن الماضي على يد فاروق حسني، وخرجت وأنا مقتنع بضرورة دراسة هذه المراكز الثقافية التي تتعاطى مع الهوية والعولمة الثقافية بسلاسة ودون صخب".

تقدم شلبي، بعد عودته من إنجلترا بخطة بحث لدراسة هذه المراكز الثقافية، في 2009 ثم أدت ظروف سفره بعد ذلك للخارج لتأخير البدء في الدراسة حتى أواخر 2014، حيث جرت محاولات إحياء البحث من جديد نهاية هذا العام، وكان من المفترض أن ينجز في تاريخ سابق إلا أن تعقيدات بيروقراطية عدة جعلته ينتهي منذ عام مضى، ويتم نشرها فقط مؤخرا.

وفيما يتعلق بالجوانب الإدارية والمؤسسية فى مراكز الإبداع الفنى، التابعة لصندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة، أوضحت الدراسة أن الفلسفة التى قامت وتأسست عليها تلك المراكز منذ بدايات التفكير فى إنشائها، تنطوي على عدة أبعاد من أهمها منح مزيد من الحريات للإدارة من أجل إبداع ثقافى حقيقى وأصيل، وقد اتضح هنا أن شخصية وخبرات وثقل التجربة الإبداعية لمدير كل مركز إبداع فنى تلعب الدور الأكبر والحاسم فى الانتفاع بهذه الحرية من أجل مزيد من الأنشطة والفعاليات الثقافية، والسعى إلى اجتذاب المزيد من الجمهور بكافة انتماءاته، وابتداع طرق ووسائل جديدة ومستحدثة فى العروض.. إلخ، والعكس صحيح أيضا، حيث إنه كان هناك من مديرى هذه المراكز من يكتفى بالأنشطة والفعاليات النمطية التى لم يطرأ عليها أى تغيير منذ أن تم عرضها خلال أواسط تسعينات القرن الماضى؛ مع بدايات إنشاء مراكز الإبداع الفنى، وهو الأمر الذى يمايز بين مدير وآخر من مديري تلك المراكز.

وقد كان هناك بُعد آخر بمثابة تحدِ؛ ويتعلق بكيفية إدارة نشاط ثقافي متنوعا وأصيلاً من ناحية، ويستجيب لمتطلبات جمهور المترددين، والذين هم فى غالبيتهم من أهالى المناطق الشعبية التى تقع فيها تلك المراكز من ناحية أخرى، حيث أوضحت الدراسة أن الاستجابة لهذا التحدى كانت ناجحة إلى حد بعيد؛ حيث أن الفنون والإبداعات الثقافية بكافة تنوعاتها، حتى الأجنبى منها، تفاعل إيجابًا مع طبيعة الأجواء والسياقات الاجتماعية الثقافية المحيطة، كذلك اجتذب جمهورًا متنوعًا آخر، من شرائح وفئات اجتماعية مختلفة، يسعى إلى التعرف على فنون وإبداعات ثقافية تتسم فى الغالب بأنها ذات طابع تقليدى موروث.

وإضافة لما سبق جاءت العلاقة بين المباني الأثرية من ناحية، ونوعين من التحديات هما: المحافظة على هذه المبانى بعد ترميمها وجعلها مراكز للإبداع الفنى، وتقديم فنون وفعاليات وأنشطة تحافظ على كينونة هذه النوعية من المبانى الأثرية الرصينة من ناحية أخرى. وأوضحت الدراسة أن هذين التحديين يواجهان إدارة هذه المراكز بشكل دائم فى علاقتها بوزارة الآثار المصرية، حيث الإشراف والمتابعة والمراجعة، وهو ما يقتضى تواصلا متفهما بين كل من مدير مركز الإبداع، ممثلا عن وزارة الثقافة من ناحية، والقائمين على الإشراف والمراجعة فى وزارة الآثار من ناحية أخرى.

وفيما يتعلق بالمبدعين المرتبطين بهذه المراكز، فقد ركز هذا الفصل على التعريف بطبيعة العلاقة بين المبدعين وهذه المراكز الثقافية الإبداعية، ورؤيتهم لطبيعة عملهم داخلها، والمعوقات التي تواجه عملهم، ومقترحاتهم لحلها، كما حاول الفصل أن يقدم تحليلا لرؤية المبدعين للمشهد الثقافى، والسياسة الثقافية فى ظل العولمة الثقافية وبروز أهمية الهوية الوطنية كموقف رئيسي فى المواجهة.

ويؤكد الدكتور محمود أحمد عبد الله، أستاذ علم الاجتماع المساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية، والذي أعد هذا الفصل، أن أحد أسباب تعلق المبدعين الحاليين بالمراكز الثقافية هو تركها لمساحة من الحرية أمامهم، دون تدخل يعيق ممارساتهم وقدرتهم على العمل الخلاق، لافتا إلى أنه نتيجة للاعتماد على النمو الحر والخلاق للممارسات الثقافية والفنية، استطاعت هذه المراكز الثقافية أن توسع من معنى الثقافة، وبدلا من أن تظل مجرد إطار للفنون والآداب، أضحت مجموعة من الحلقات المتداخلة من الفنون والآداب ومصدرا من مصادر المعرفة بالتاريخ الوطني والقضايا العامة، وترسيخ القيم فى أنفس الصغار.

وبذلك استطاعت هذه المراكز، وفقا للدكتور محمود عبد الله، أن تصل بخدمتها إلى عديد من الشرائح الاجتماعية، على كافة المستويات العمرية والنوعية، من أبناء الشرائح الطبقية الوسطى والدنيا، كما أنها استهدفت كذلك الفئات الاجتماعية المهمشة كذوى الاحتياجات الخاصة.

وقد كانت المحصلة الطبيعية لهذا النشاط، وفقا للدراسة، هو تنويع الفاعليات إلى أنشطة فنية يعرض فيها المبدعون أعمالهم المتنوعة، سواء أكانت موسيقية أو تشكيلية أو أدبية، وإلى ورش تدريبية تغرس القيم الجمالية والفكرية التى تمكن المتدربين من تغيير رؤيتهم للعالم، وتأهيلهم ككوادر فنية فى المستقبل القريب، والرقي بأذواقهم كمتلقين محتملين فى الغد المقبل.

غير أن هذه الأنشطة المتجددة، غابت عنها عدة أمور، تعتبر عراقيل تحول دون استمرارها وتجددها على النحو المراد، حيث أنه بالرغم من وجود تمويل حكومى لهذه المراكز، إلا أنه ضعيف ولا يوجد بديل مستقل، اعتمادا على الإيرادات الذاتية من العروض، أو من مصادر تمويل أهلية. علاوة على ذلك تفتقد هذه المراكز للدعاية القادرة على نشر الوعى ببرامجها الثقافية على مدار الأسبوع.

وقد قدم عدد من المبدعين بعض المقترحات لتذليل العراقيل والمشكلات السابقة، شملت ضرورة تقديم الدولة الدعم المالى الكافي للثقافة باعتبارها الأداة المهمة فى مواجهة الإرهاب، وليست وسيلة للترفيه، وتغيير شكل الفاعليات وموضوعاتها على النحو الذى يجذب مزيدا من الحضور الجماهيرى إليها، وإعادة النظر فى أسلوب اختيار القيادات الثقافية وفقًا للمؤهلات والخبرات السابقة، والترويج للفاعليات عبر القنوات الفضائية الحكومية والخاصة، والاستفادة من أساليب الترويج السياحى.

وحول المردود "الاجتماعي – الثقافي" لدى جمهور المترددين على مراكز الإبداع تلك، أوضحت الدراسة أن هناك أمران يلفتان الانتباه إزاء نتائج التطبيق الميداني على جمهور المترددين، الأول يتعلق بتنوع انتماءات هذا الجمهور على مستويات العمر والنوع والتعليم والمهنة، أما الأمر الآخر فيرتبط بمدى ما يتمتع به هذا الجمهور من وعى "ثقافى" لم تبرهن على عمقه وأصالته فقط الاستجابات الخاصة بتفضيلاته ومدى إفادته من عملية التردد على هذه المراكز، بل إن الأهم هو ما تمثل فيما طرحه هذا الجمهور ذاته من اقتراحات من أجل تطوير مستقبلي لهذه المراكز، وهى الاقتراحات التى تنم عن معرفة حقيقية بواقع هذه المراكز الراهن من ناحية، وبالرغبة فى تطويرها وتدعيمها بشكل فعال مستقبلا من ناحية أخرى.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل