المحتوى الرئيسى

ثقافات بحاجة لتغيير

06/03 18:26

نشرت مدونة الديوان مقالا للكاتب مروان المعشّر يعرض فيه ما يجب تغييره من ثقافات كانت موجودة قبل أزمة كورونا وفشلت فى التعامل مع الأزمة... نعرض منه ما يلى:

تعرضت المنطقة العربية فى العقد الماضى لثلاث هزات كبيرة أثرت بشكل مباشر على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى العالم العربى بشقيه المُصدّر للنفط والمُستورد له. جاءت الهزة الأولى على شكل ثورات أو احتجاجات شعبية فى أماكن متعددة من العالم العربى، لتُسقط نظرية قدرة القبضة الأمنية وحدها على إدامة السلم الأهلى دون أن ترافقها محاكاة الاحتياجات المعيشية للناس وردم هوة الثقة بين المواطن ودولته. بعد الهزة الأولى، وقعت هزة ثانية عام ٢٠١٤، تمثلت فى انخفاض أسعار النفط ما دون المائة دولارا للبرميل، ووصولها إلى معدلات تتراوح بين خمسين وستين دولارا قبل جائحة الكورونا، ما أثر بشكل مباشر على النظام الريعى فى الدول العربية. فكانت النتيجة المباشرة فى ظل هذا الانهيار تخلخل مفهوم دولة الرفاه التى تُقدم خدمات أساسية للمواطن كالصحة والتعليم ودعم المواد الأساسية، إضافة إلى استيعاب القطاع العام لأعداد كبيرة من القوى العاملة وقيادته العملية الانتاجية. وقد أدى الاعتماد المبالغ فيه للدول المصدرة للنفط على هذه المادة إلى إضعاف الإنتاجية، وإلى معدلات نمو أقل بكثير مما هو مطلوب لاستيعاب الأعداد الكبيرة التى تحاول دخول سوق العمل سنويا فى منطقة فتية. كما أدت المساعدات الخليجية للدول المستوردة للنفط فى منطقتنا إلى أنظمة اقتصادية تكثر فيها الواسطة والمحسوبية وتقل فيها الإنتاجية والكفاءة.

فى ظل هذه الخلفية السياسية والاقتصادية الصعبة أصلا، جاءت أزمة الكورونا لتضيف أعباء إضافية لن يكون من السهل معالجتها وتجاوز آثارها، وخصوصا فى حال أصرت دول المنطقة على إبقاء أساليب الإدارة الماضية للتعامل مع الأزمة الحالية. لقد فقدت دول المنطقة أداتين فى غاية الأهمية لإدامة السلم الأهلى فى الماضى، وهما عصا القبضة الأمنية التى يبدو أن الثورات العربية فى العقد الماضى نجحت فى إضعافها إن لم تكسرها تماما، وجزرة الموارد المالية التى أتاحتها أسعار النفط سابقا. حينها، استُخدمت الثروات العربية فى الكثير من دول المنطقة لاحتواء هذه الثورات.

نحن فى وضع اليوم لا نُحسد عليه. ستؤدى أزمة الكورونا، إضافة إلى انهيار أسعار النفط إلى ما دون العشرين دولارا للبرميل، ليس فقط لشح الموارد المالية المتاحة لمحاولة احتواء الأزمة، بل أيضا إلى تناقص الاحتياطات الموجودة لدى بعض الدول الخليجية بشكل مخيف. ويُقدر صندوق النقد الدولى الانكماش الاقتصادى لدول المنطقة بمقدار ٣,١٪ للعام ٢٠٢٠، وهى نسبة كارثية وبخاصة فى ما يتعلق بالبطالة التى بلغت معدلاتها فى المنطقة قبل جائحة الكورونا حوالى ضعف المعدل العالمى.

لو سلمنا بنظرية فقدان دول المنطقة لأداتى العصا والجزرة فى تعاملها مع هذه الأزمات المتلاحقة، فما هو السبيل لاحتواء أزمة الكورونا ومعالجة آثارها، عدا الأدوات المالية والأمنية المنحسرة فى المرحلة المقبلة؟ بل ما هو السبيل لمعالجة كل الأزمات اللاحقة التى لن تنتهى عند جائحة كورونا إن كان العالم العربى يرغب بالتأسيس لمرحلة جديدة يحافظ فيها على الاستقرار ويؤسس للازدهار؟

لقد سادت ثقافات سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة كان لها الأثر الكبير فى إدارة الموارد فى المنطقة فى المرحلة الماضية وقد استُنفدت تماما وأصبحت بحاجة إلى تغيير جذرى فى العقلية السائدة سابقا لإدامة السلم الأهلى وتحقيق الاستقرار والازدهار. وأبرز ما يجب تغييره فى هذه الثقافات الزائلة هو الآتى:

أولا: أصبح واضحا أن ثقافة الاعتماد على الريع، والتى أدت فى كثير من الأحيان إلى دولة الرفاه أو تفشى الواسطة والمحسوبية، ما يقتل الإنتاجية والنمو، بحاجة إلى تغيير جذرى. لم تعد الموارد المالية متاحة لإدامة هذا النموذج القاصر، وأصبحت هناك حاجة ماسة لاستبداله بنموذج الاعتماد على الذات، وتوسيع مصادر الدخل وإعلاء قيم الإنتاجية والكفاءة التى عانت كثيرا من النماذج الريعية القائمة. بعبارة أخرى، لم يبق فى عالم ما بعد الكورونا مكان لاقتصاديات غير كفؤة وقليلة الإنتاجية.

ثانيا: إن الاعتماد على الذات مبدأ سياسى كما هو مبدأ اقتصادى. فلا يمكن الطلب من المواطن المزيد من التضحيات الاقتصادية دون تمكينه سياسيا ودون تعظيم ثقافة التشاركية فى صنع القرار. بغير ذلك، لن يتحقق السلم الأهلى بل ستتفاقم الاحتجاجات. بمعنى آخر، هناك حاجة ماسة لتغيير الثقافة السائدة فى المنطقة التى كانت تعتقد أن المؤسسات التشريعية والقضائية القوية عبء على السلطة التنفيذية وعلى البلاد. تُثبت الأزمات المتلاحقة التى تضرب المنطقة، أنه من دون تقوية هذه المؤسسات وردم الهوة بينها وبين المواطن، لن تستطيع السلطة التنفيذية معالجة لا جائحة كورونا ولا غيرها من الأزمات دون مؤازرة باقى مؤسسات الدولة لها فى تحمل المسئولية وفى ضمان ايصال صوت المواطن بالدرجة المناسبة، وإلا فإن السلم الأهلى مُعرض لهزات حقيقية مع تردى الأوضاع الاقتصادية.

ثالثا: سادت العالم العربى ثقافة مفادها أن القطاع العام هو المشغل الرئيس للعمالة ما أضعف الإنتاجية والنمو إلى أبعد الحدود. يحتاج العالم العربى لعكس هذه السياسة بحيث تكون الدولة مسئولة عن تقديم نوعية جيدة من الخدمات الصحية والتعليم والنقل لمواطنيها، وتهيئة المناخ المناسب التشريعى والتربوى لتشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص لاستيعاب العمالة فيها بما يعظم الإنتاجية ويرفع نسب النمو، بينما يحافظ على قطاع عام رشيق يستطيع فيه توفير الموارد المالية المطلوبة لأداء واجبه الحقيقى فى تقديم الخدمات الأساسية وترك القطاع الخاص لقيادة النمو وفق ضوابط تمنع الاحتكار والاستغلال.

رابعا: حان الوقت لإعادة نظر جذرية فى النظم التربوية الحالية، والتى صُممت فى الدرجة الأولى لتلقين النشء «حقائق» معينة دون غيرها، ودون تشجيع التفكير الناقد والمساءلة والبحث والتمحيص والتعبير، اعتقادا أن هذا الأسلوب سيُنتج أجيالا مسالمة مهادنة لا تُمحّص ولا تسأل. وبدلا من ذلك، أنتجت هذه الثقافة أجيالا غير مهيأة للعمل إلا حين يستوعبها القطاع العام قسرا، وحين وصل هذا القطاع إلى حد عدم قدرته استيعاب المزيد من هذه الأفواج، نزل الناس إلى الشارع. لم يتحقق السلم الأهلى ولم تُعالج مشكلة البطالة.

لقد حان الوقت للتخلص من عقدة عدم المساس بالأنظمة التربوية وتصوير الأمر وكأنه هجوم على التقاليد والثوابت. حقيقة الأمر أن علينا مسئولية تعليم الأجيال الجديدة مهارات تُمكنها من العيش، بل والإبداع والابتكار، كما التأقلم مع عالم متغير باستمرار، فذلك أصبح ضرورة وجودية لمجتمعات مزدهرة ومنفتحة وتعددية.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل