المحتوى الرئيسى

زووم وأخواتها

06/02 22:14

كاد الفضول يخنقنى. سمعت عنها قبل وصول الفيروس إلى بلادنا واقتحامه حياتنا. سمعت أنهم استبدلوا الندوات والمحاضرات المفتوحة بجلسات حوار بين مشاركين يشاركون من مواقع يوجدون فيها. لا حقائب وبطاقات سفر ولا تأشيرات دخول ولا غرفة فى فندق فاخر وبرنامج مكثف ووجبات مشتركة. أيام راحت إلى غير عودة أو إلى عودات متقطعة لا تغنى. كثيرون جدا من أبناء جيلى يتحسرون الآن على تلك الأيام ويحنون إلى هذا الأسلوب التقليدى لعقد اللقاءات الرسمية والفكرية. أنا أحد هؤلاء، أشعر مثلهم بالحسرة والحنين. فبفضل هذا الأسلوب استطعت مع أشخاص عديدين فى مختلف بلاد الدنيا نسج شبكات علاقات بلا حصر. أنا مدين لبعض هذه الشبكات بأوقات هى الأحلى على الإطلاق وبأخرى هى الأكثر ثراء فى نواحى الفكر والإبداع. أعرف عديدين حققوا بفضل هذا الأسلوب العتيق وهذه الشبكات الكثيفة أمجادا تحسب لهم وأعرف كثيرين حسبت عليهم وعلى أوطانهم.

تعرفت على الممارسات الديموقراطية فى بلاد عملت فيها ولم أتعلمها فى وطنى. نعم، حضرت فى مصر وكنت صغيرا اجتماعات انتخابية فى بعض بنادر الوجه البحرى واستجبت مرتين أو ثلاثا لدعوات من شبان فى الحى لمساعدتهم فى تنظيم أحد السرادقات الانتخابية لقريب لهم مرشح عن حزب الدستوريين. وفى دورة انتخابية أخرى جلست فى صفوف الشرف مع والدى وأصدقائه، ذهبوا لتزكية المرشح الوفدى. وإن نسيت فلن أنسى مساهماتى المتواضعة على امتداد ثلاث سنوات فى الاحتفال بعيد ميلاد جلالة الملك المعظم فاروق الأول وبعيد جلوسه على عرش المملكة المصرية. الأول نحتفل به فى الحادى عشر من فبراير والثانى فى السادس من مايو. أذكر أننى كنت أرتدى قميصا أبيض وشورت من نفس اللون ونكون فى المدرسة فى الخامسة صباحا لتنقلنا الحافلات فى السابعة إلى ميدان عابدين. هناك نتدرب لمدة أربع ساعات على تنفيذ استعراضات لنؤديها أمام جلالة الملك عندما يطل علينا من شرفة القصر المهيب.

تلك المرات المعدودة جسدت بالفعل جميع تجاربى على الطبيعة مع الديموقراطية المصرية. أعترف أن الحجم الأكبر من معلوماتى عن الديموقراطية أدين به إلى ما قرأت ودرست وتابعت فى مراحل أخرى من حياتى وبلاد غير بلدى. تلقيت درسا أو أكثر وأنا فى سن المراهقة وعلى أبواب الشباب فى أصولها النظرية فى جامعة القاهرة ولكن عشت تجاربها العملية مراقبا فى الهند ثم فى إيطاليا ثم متعمقا فى فلسفتها وتاريخها أثناء مرحلة عدت فيها إلى مقاعد التلاميذ فى جامعة عريقة بمدينة مونتريال فى كندا.

خطرت على بالى أفكار غير قليلة وأنا أدخل متسللا إلى أول اجتماع بتقنية الزووم أشارك فيه. كان الظن أنه يمكننى أن أقضى ما شئت من وقت الاجتماع دون أن يشعر أحد بوجودى. لم أعرف أن أزرارا فى لوحة أمام مدير الحوار تضىء فتنبئه بحضورى ورغباتى إن كانت لى رغبات وبانصرافى. لذلك كان ارتباكى عظيما عندما سمعته يدعونى لمداخلة أعرض فيها ما كونت من رأى فى النقاش الدائر. لم أعرف بأى كلمات أرد. قليلون بين أصدقائى هم الذين أحاطوا بظروف نشأتى وتدريبى التى حرمتنى من تطوير ملكة التدخل بالكلام فى أى موضوع دون إعداد أو تفكير وتمهل. لم أعرف كيف أعتذر فتدخلت وليتنى ما فعلت فمداخلتى لم ترق لى وأنا أدلى بها.

خرجت من هذا الاجتماع وكلى إصرار أن أعرف أكثر عن هذه الوسيلة فى عقد الاجتماعات. ازداد إصرارى تحت ضغط نصائح الأصدقاء وكلهم مقتنعون بأن المستقبل لهذه الوسيلة وليس للوسائل التقليدية. ستكون فى القريب العاجل أولى الوسائل وأكثرها انتشارا فى الدبلوماسية الدولية ومراكز البحوث الأكاديمية والعلمية، وسوف يعاد النظر فى الجامعات فى محتوى مادة تنظيم المؤتمرات وأساليب اتخاذ القرار الجماعى. أهى ضربة جديدة موجهة لأحد أهم قطاعات السياحة وصناعة الفندقة والترفيه؟. فكرت فى كل هذا وفى غيره أيضا بينما كنت أحاول فهم ما يجرى هناك. هناك أين؟ ثم السؤال، وإلى أين؟

جربت مرة أخرى ومرة ثالثة، وفى المرة الرابعة وجدت خيالى ينسى أرفف الكتب والدوريات التى تصنع خلفية يجلس أمامها المشارك، منذ أن اكتشف أن معظم المشاركين فى التجارب السابقة حرصوا على أن تنقل مساهماتهم عبر كاميرا من غرفة تزدان بصنوف الكتب وصور جوائز وشهادات التفوق الأكاديمية والرياضية ونياشين المجد إن وجدت. تجاهل خيالى أو تناسى تفاصيل الغرفة وعناوين الكتب المرصوصة وسخونة النقاش واختار أن يعود بالزمن. عاد إلى بعيد، بعيد جدا. توالت صور فى بيوت أعرفها ثم توقف عند صورة شديدة الوضوح لرجال ونساء بأعمار مختلفة. جلس الجميع على صفى مقاعد حول مائدة مستديرة. الشباب من الجنسين أكثرية فى الدائرة الأقرب للمائدة والفتيات الأكثر عددا بين الشباب. كنت هناك فى الصورة تسبقنى شهرة الفضولى أحيانا والمتشكك دائما.

فى تلك الأيام انتشرت بين الشباب هواية غريبة، تحضير الأرواح. روج لها صحفى معروف كان قد زار دولا فى جنوب آسيا واطلع على تقاليد وممارسات أغلبها يقع فى مكان ما بين الدين والخرافة المطلقة. أقبل المراهقون قبل غيرهم من المنتمين إلى فئات عمرية أخرى على تبنى هذه الهواية وممارستها، بعضهم وكثير من الشباب منحوها قدرا معتبرا من الاحترام والهيبة وآخرون اهتموا بالظاهرة وكيف احتلت بسرعة مساحات واسعة من الاهتمام، حتى صارت مصدرا سريا لكثير من التخمينات الرائجة وأحيانا الرسمية عن المستقبل. الحاضرون الجالسون قرب المائدة يسألون عن مصائر ونتائج وعواقب والأرواح تجيب.

لم أفهم دوافع الربط فى خيالى بين الظاهرتين رغم أن واحدة منها نسجت وتقررت كوسيلة مثلى لتحقيق التباعد الاجتماعى بين أعضاء مجتمع المفكرين، والثانية لا تكتمل بحضور الأرواح إلا فى وجود عدد لا يقل عن ثلاثة من المشاركين. جَمعَهم ربما الاعتقاد بأنه صار فى حكم غير المؤكد قطعا وفعلا التنبؤ بالمستقبل. عالم الغد مظلم، بل حالك الظلام. لا فتيل ضوء يكشف عما فيه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل