المحتوى الرئيسى

مفارقة النزاهة الأكاديمية

06/01 20:52

النزاهة عماد من أهم أعمدة مهنة التعليم والتعلم عمومًا. تتحقق النزاهة الأكاديمية بواسطة الحفاظ على قيم وسلوكيات مهنية رفيعة تشمل التجرد عن المصلحة والهوى والتحيز، والتمسك بالأمانة والشفافية وإعلاء المصلحة العامة والعدل والمساواة. عادة ما تضع كل المؤسسات العلمية مواثيق أخلاقية وقانونية هدفها الحفاظ على أعلى مستوى من مستويات النزاهة، ومراقبة أى انتهاكات لها، ومعاقبة مقترفيها.

ما أهمية النزاهة الأكاديمية؟ وما معاييرها؟

ترجع أهمية النزاهة إلى أنها الضمان الأساسى لحقوق الأفراد والمؤسسات؛ سواء أكانت هذه الحقوق متصلة بنسبة الأفكار والابتكارات إلى أصحابها ومكتشفيها، أو اتخاذ القرارات المؤسسية استنادًا إلى معايير شفافة نزيهة تضع المصلحة العامة فوق المصلحة الشخصية، ومقاومة المحسوبية، والرشوة، والتحيزات العرقية أو الدينية، والهوى الشخصى، واللامبالاة، والخوف. من الطبيعى، إذن، أن نجد علاقة وثيقة بين قوة المؤسسات العلميَّة من ناحية ودرجة نزاهة العاملين بها والمسئولين عنها. وفى المقابل، فإن شيوع الفساد على المستوى الفردى والمؤسسى يؤدى إلى تقويض أى محاولة للنهوض بالعلم أو المؤسسات العلمية.

تتضمن النزاهة الأكاديمية معايير مشتركة بين جميع الفاعلين فى المؤسسات العلمية مثل نسبة الأفكار والمعلومات إلى أصحابها بدقة، والامتناع عن الغش فى الامتحانات والتكاليف. لكن هناك معايير أخرى خاصة، مثل وجوب التزام الأساتذة بتحقيق جميع أشكال العدل والمساواة بين طلابهم، وضمان تعامل أخلاقى نزيه مع قرنائهم، ومع المؤسسات التى تموِّل بحوثهم ومع الأشخاص أو الكائنات التى يُجرون عليها بحوثهم. أما على مستوى إدارة المؤسسات الأكاديمية فتشمل النزاهة معايير العدالة والشفافية والمساواة، ومحاربة كل أشكال التحيز أو العنصرية أو التمييز بين الأساتذة والموظفين والعاملين، ومحاربة كل أشكال الفساد المالى والأكاديمى.

تتباين حظوظ الأفراد والمؤسسات فى العالم العربى من النزاهة الأكاديمية. لكن المؤكد أن هناك أزمة نزاهة عميقة وشاملة فى معظم المؤسسات العربية. وعلى الرغم من أن الحديث عن الفساد فى هذه المؤسسات يكاد يكون زادًا يوميًا لأحاديث العاملين فيها، فإن صورة الواقع الفعلى قد تكون أشد قتامة بكثير. وقد تعرفتُ منذ عدة سنوات على جزء من هذه الصورة القاتمة أثناء إعدادى تقريرًا شاملا حول واقع البحث العلمى فى العلوم الإنسانية فى العالم العربى بطلب من إحدى المؤسسات العربية. وقد خلص التقرير حينها إلى أن غياب النزاهة يشكل تحديًا هائلا أمام مستقبل المؤسسات البحثية. وأثق أن أى دراسة شاملة أمينة لحالة النزاهة فى العالم العربى سوف تكون صادمة على نحو مُروِّع. وأرجو أن يُتاح لفريق من الباحثين من مختلف البلدان العربية إعداد مثل هذه الدراسة، وفحص أشكال انتهاك النزاهة الأكاديمية على مستوى الأفراد والمؤسسات، وتوثيقها، وتحليل أسبابها حتى لا يقضى هذا السرطان المتغلغل على أى أمل فى الإصلاح. وإن كنتُ أتشكك إلى حد كبير فى إمكانية إنجاز مثل هذه الدراسة، لا لشىء إلا بسبب الثمن الباهظ الذى يدفعه من يتصدون لمقاومة انتهاك النزاهة وفضحها، نتيجة ما سوف أسميه «مفارقة النزاهة الأكاديمية».

مفارقة النزاهة الأكاديمية فى العالم العربى

أعنى بمفارقة النزاهة الأكاديمية أن يتوجه العقاب إلى من يفضحون أو يقاومون انتهاكات النزاهة العلمية وليس إلى من يرتكبون هذه الانتهاكات. لا تؤدى مفارقة النزاهة الأكاديمية إلى الدفاع عن انتهاك القيم العلمية فحسب، بل يضفى حماية على منتهكيها، وتخويفًا للمتمسكين بالنزاهة، والمدافعين عنها. لا تكاد تخلو مؤسسة علمية من حالة أو أخرى من حالات الفساد الناتج عن انتهاك النزاهة. وما يميز مؤسسة عن أخرى هو درجة انتشار هذا الفساد، وطريقة تعاملها معه. فبعض المؤسسات تتخذ مواقف صارمة وحازمة ضد أى فساد، وتعاقب بصرامة مرتكبيه، فى حين تغض مؤسسات أخرى الطرف عن الفساد مهما بلغت بشاعته، وتتعايش معه، بل فى بعض الأحيان تشجع عليه. فلو أن مسئولا ما أساء استعمال صلاحياته، وطبق معايير مزدوجة، مثل منح مكافآت ومزايا للموالين له، بدافع تحقيق مصلحة شخصية أو هوى أو تحيز أو خوف، وحرم المستحقين الفعليين منها بسبب مصالح شخصية مشابهة، فإننا سنجد، عادة، مواقف مختلفة بحسب درجة نزاهة المؤسسة التى يعمل بها. فكلما قاومت المؤسسة مثل هذه السلوكيات، وعاقبت مرتكبيها اقتربت من مؤشر النزاهة، وكلما غضت الطرف عنها، وتركت مرتكبيها دون مساءلة أو عقاب اقتربت من مؤشر الفساد. لكن الأمر ليس على هذه الدرجة من البساطة فى العالم العربى؛ لأن الكشف عن الفساد لا يمر غالبًا دون عقاب. ويصل الأمر إلى مداه حين تُعاقب المؤسسة من يكشف الفساد ويفضحه، وليس المفسدين أنفسهم، لنكون أمام تجسد شائع لمفارقة النزاهة الأكاديمية. وهى مفارقة غير منطقية، لكن يمكن تفسيرها.

تسعى بعض المؤسسات إلى الحيلولة دون فضح الفساد الأكاديمى؛ لأسباب كثيرة منها الخوف على سمعتها، أو الحرص على إبقاء الوضع الراهن، أو القلق من عواقب مواجهة الفاسدين، أو غيرها. ينتج عن هذا أن كثيرًا من المؤسسات تختار التضحية بالعناصر «المزعجة» التى تقاوم الفساد، لصالح الإبقاء على الوضع الراهن، وتجنب أى فضائح أو شوشرة. ويُقاس نجاح المؤسسة فى هذه الحالة بقدرتها على فرض «الصمت» على المشتغلين فيها، والقبول بالأمر الواقع. ومن ثمَّ، يُفكر الأشخاص كثيرًا فى مقاومة أى انتهاك للنزاهة الأكاديمية، لأنهم يدركون أن العقاب قد يتوجه إليهم، بينما يُفلتُ المنتهكون بجرائمهم دون حساب.

لا يقتصر عقاب فاضحى الفساد الأكاديمى على المؤسسات فقط، بل يتجاوز ذلك إلى الأفراد أيضًا. ولعل المثال المروع على هذا هو تعدى الطلاب على المراقبين لأنهم لم يسمحوا لهم بالغش فى الامتحان! وهذا المثال الشائع فى بعض بلدان العالم العربى ليس إلا الوجه المكشوف لممارسات واسعة الانتشار لا تقل فجاجة، وإن كانت أكثر استتارًا؛ مثل التحرش بالأساتذة الذين يكتشفون السرقات العلمية، أو ينتقدون الكتابات التلفيقية، أو التافهة، إلى حد أن «باحثين» عرب يسلطون بعض أقاربهم وتلامذتهم لمهاجمة كل من يفضح الممارسات الأكاديمية غير الأخلاقية التى يقومون بها، أو ينتقد هشاشة أعمالهم. ويكاد هؤلاء أن يتحولوا إلى عصابات، تجوب فضاءات التواصل الافتراضى بأسماء حقيقية حينًا ووهمية حينًا آخر لتمارس أشكالا من ترويع كل ناقد للرداءة، أو فاضح للسرقات. ويمكن لحكايات من هذا النوع أن تصنع رواية كبيرة الحجم من روايات الجريمة، لا تخلو من إثارة، لكنها تولِّد بكل تأكيد شعورًا هائلا بالحسرة والأسف.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل